هنري زغيب*
يومَ شاهدتُها قبل عشْر سنوات، في عرضِها الأَول، كانت ناضجةً باكتمال. فاقتباس لينا خوري وغبريال يمين جاء أَمينًا للمسرحية الأُم كما كتبَها الأَميركي ديفيد آيڤز سنة 2010، وقدّمها في نيويورك على مسرح فريدمان في برودواي (نيويورك سنة 2011). وهو أصلًا نسجها من رواية “ڤينوس ذات الفرو” التي أَصدرها سنة 1870 الكاتب النمساوي ليوبولد ڤون سَخْر مازوش (1836-1895). ومنِ اسمه انتشرَت تسمية “المازوشية”، المرتبطة أَحيانًا بالسادية، فتوجَز بالـ”سادو مازو” أَي سادية تعذيب الآخَر، ومازوشية الانذلال أَمام الآخَر الـمعذِّب. والمسرحية الأَميركية اقتبسها للسينما المخرج البولندي رومان پولَنْسكي مع مؤَلفها آيڤز، وأَصدرها سنة 2013 فيلمًا نال عليه إِحدى جوائز مهرجان كانّ السينمائي.
النسخة المسرحية اللبنانية كان المخرج جاك مارون قدَّمها سنة 2015 بِاسم “ڤينوس بالفَرو” على “مسرح مونُّو”، وأَحدثَت يومها من الأَصداء ما تردَّدَ طويلًا بفضل براعة مسرحية وُفِّقَ إِليها يومها الثنائيُّ المبدع ريتا حايك وبديع أَبو شقرا.
بعد عشر سنوات، عاد جاك مارون قدَّمها من جديد قبل أَيام على مسرح “مونُّو” ذاته، وأَحدثَت الأَصداء اللماعة ذاتها.
فهل كانت نسخة معادةً كما كانت الأُولى؟
لا يمكن ادعاءُ ذلك. ففي أَداء ريتا حايك وبديع أَبو شقرا (تمثيلًا ممتازًا، وإِيقاعًا مشدودَ الحوار والأَداء الجسدي والموجبات السينوغرافية) نضْجٌ واضحٌ كأَنَّ العشْر السنوات الماضية على العرض الأَول كانت تمارينَ أَدَّت إِلى تقديم عرضها هذا الشهر. إلى هذا الحد كانت هذه النسخةُ المستعادةُ غيرَ مستعادةٍ بل ناضجةَ الأَداء الدرامي في جميع معالِمِه الشَفَوية والبصرية، وخصوصًا في أَدقِّ لحظات الإِثارة التي كَسَرَت “التابُو” الاجتماعي لتقِّدم عمَلًا يؤَرِّخه سجل المسرح اللبناني في الربع الأَول من القرن الحادي والعشرين.
أَتوقف تحديدًا عند مشاهد التملُّك الأُنثوي الذي أَبدعَته ريتا حايك في أَدائها بحِرَفية عالية وعفوية غالية، وأَبدع بديع أَبو شقرا في تطويع شخصية الكاتب من فوقية المؤَلِّف إلى نشوة ذُلِّه راكعًا أَمام الممثلة الطاغية التي تلفُّ حول عنقه طوقَ الكلب وتَجُرُّه. وهي مشاهدُ يرفضها المتزمِّتون المحافظون، لكنها موجودةٌ سرًّا لدى حالات مكتومة خفية في المجتمع، تأْتي هذه المسرحيةُ لتُطْلقها من خناقها إِلى صراحة التعبير عنها، مع تسلُّط ريتا حايك وانصياع بديع أَبو شقرا في أَداءٍ مسرحيٍّ ثنائيٍّ على أَعلى مستوى.
يبقى أَنَّ جاك مارون، في هذه النسخة الجديدة بعد عشر سنوات على نسختها الأُولى، قدَّم بنجاحٍ واثقٍ شهادةً ساطعةً على أَنَّ المسرح يتجدَّد ليلةً بعد ليلة، ينضج عرضًا بعد عرض، يتبَلْوَرُ جمهورًا بعد جمهور، فيسجِّل للمسرح اللبناني عمَلًا دراميًّا ممتازًا: إِخراجًا، وتمثيلًا، وسينوغرافيًّا، ونقطةَ ضوء في تخبُّط ما يعانيه مجتمعنا من ضائقاتٍ يوميةٍ قاسية.
وأَفرحني أَن عرفت بحجز مسرح “مونُّو لعروضٍ متتاليةٍ، عملًا بعد عمل، إِلى أَشهر مقبلةٍ، منذ اليوم حتى النصف الأَول من العام المقبل 2026، لتكون إِدارةُ جوزيان بولس مسرحَ “مونو” شهادةً على حيويَّة المسرح في لبنان، وجمهورِ المسرح في لبنان، حين تُقَدَّم له عروضٌ جيدةٌ على مستوى انتظاراته.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib