“حزب الله”: مُشاغَلَة بيروت والرهانُ على مسقط

محمد قوّاص*

يقرأ “حزب الله” المشهد المُتَدَحرِج في المنطقة بعناية. عينه على كلِّ تفصيلٍ تشهده جلسات التفاوض بين طهران وواشنطن. مُغتَبِطٌ من الحدود التي ما زالت أوراق التفاوض تقف خلفها. رفضت طهران بحثَ ملفّ نفوذها في المنطقة، بما يعني أنَّ علاقة إيران مع “أذرعها”، بما في ذلك في لبنان، ما زالت خارج أيّ نقاش. ورُغمَ ذلك المقت البنيوي لـ”الشيطان الأكبر” في الأدبيات الأساسية للحزب ومن ورائه جمهورية الوليّ الفقيه، فإنَّ الحزبَ لن يضيره اتفاقٌ بين واشنطن وطهران يقيه شرور الشياطين.
يشتري الحزب الوقت الضائع. أحدث زلزال “طوفان الأقصى” شروخًا تبدو نهائية في موازين القوى في الشرق الأوسط. وسواء كان طموحُ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، دقيقًا في زعمه تغيير هذه المنطقة أو إنه مجرّد أوهام، فإنَّ سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا شكّل كارثة للحزب أوقفت مشروع إيران، نهائيًا، في بسط نفوذٍ يثبت ويمدّد ما تمّ الفخر به من التهامٍ لعواصم عربية أربع.
انتصبَ في سوريا سدٌّ يحجبُ أعين الحزب عن طهران. ولئن حاول الحزب مَنحَ خصومِ النظام الجديد في دمشق برئاسة أحمد الشرع مددًا يائسًا، وتسعى إسرائيل (مع الحزب للمفارقة) لتقويض وحدة سوريا ومناعة نظام الحكم الجديد، فإنَّ ذلك السدّ يحظى برعايةٍ دولية لافتة مفاجئة من دول المنطقة الكبرى، ومن عواصم أوروبا الوازنة، وحتى أخيرًا من الولايات المتحدة بإعلان الرئيس دونالد ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا. يبعث الحدث مزيدًا من الدعم والمناعة رسالةً مفادها أنَّ التحوّل في سوريا نهائي لا أمل لخصومه بالعودة عنه.
يتحرّك الحزب داخل هامشٍ ليس رحبًا وبيئة سياسية محلية وإقليمية ودولة ليست حاضنة. يستمرُّ بالتلويح بالسلاح، وقدرته على التعافي، وضرورته لحماية لبنان ومنع التفرّد به. لا تمنعه تلك الرواية من أن يشارك في حوار مع الرئيس اللبناني، العماد جوزيف عون، عنوانه الأول والأخير “حصرية السلاح بيدِ الدولة فقط”، والعنوان مرادف دقيق لعنوان أوضح “تسليم الحزب لسلاحه”، كما فعلت الميليشيات بعد انتهاء الحرب الأهلية وإبرام اتفاق الطائف في العام 1989. وفيما تعمل الرئاسة اللبنانية وفق “خطاب القسم” وتعمل حكومة نوّاف سلام وفق بيان وزاري نالت على أساسة ثقة مجلس النواب، فإنَّ الحزب يرتجل ما تيسّرَ من نصوص وحجج ودفوع للعبور بين ألغام المرحلة.
في بعض ما تسرّبَ أنَّ الحزب بات يتلطّى وراء سلاح المخيّمات الفلسطينية. يرى أنه من الطبيعي نزع سلاح “الغرباء” قبل نزعه من “أهل البلد”. حتى أنه صار يرى في سلاح “المقاومة” الفلسطينية خطرًا يُهدّدُ طريق الضاحية-الجنوب، بمعنى أنَّ نزع سلاح المخيمات الفلسطينية بات ضرورة “تطمئن” خطوط الحزب وحتى أمن الطائفة، وأنَّ الطمأنينة شرطٌ من شروط الاستغناء عن سلاح الحزب نفسه.
لكن مسألة نزع السلاح تتواكب للمفارقة مع لهجةٍ حائرة، لكنها مُتشدّدة بالتمسُّك بالسلاح ورفض مبدَإِ التخلّي عن وجوده. تحدّث قادة الحزب جازمين وعبر الأمين العام الشيخ نعيم قاسم عن قدسية ذلك السلاح. حتى أنَّ السفير الإيراني، مجتبى أماني، أدلى بدلوه بهذا الاتجاه، قبل أن يتراجع، ويعبّر عن سوء فهم لموقفه، ويلبي استدعاء وزارة الخارجية اللبنانية.
الواضح أنَّ إيران وحزبها في لبنان لم يصلا إلى قرارٍ نهائي للانتقال إلى أدوارٍ ووظائف أخرى في المنطقة. تخضع نهايات القراءة الشاملة لعالم مع بعد “طوفان الأقصى” لما سيتقرر على طاولة المفاوضات الجارية وفق تغيُّرٍ دائمٍ لمزاج إدارة ترامب، حسب تقييم وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي. قد تستفيد إيران من هذا التوتّر المزعوم في علاقات ترامب مع نتنياهو. وقد تكون مستفيدة من قرار الرئيس الأميركي إقالة مستشار الأمن القومي، مايك والتز، لإضعاف ما قيل إنه تيارٌ داخل إدارته، يضمّ أيضًا وزير الخارجية ماركو روبيو، يدعو إلى الخيار العسكري على الطريقة الإسرائيلية لتدمير البرنامج النووي.
ولئن تمنّ طهران النفس باتفاقٍ يلبّي هدف ترامب بمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، فإنَّ الحزب يُعوّلُ على أن لا يتجاوز هذا التفاوض حدود ذلك وأن لا تتمدد لنهي إيران عن مواصلة دعم الحزب ورعايته، وفق الصيغة التي سبق أن جاهر بها الأمين العام الراحل السيد حسن نصر الله. لكن الحزب في قرارة ذاته يحنّ إلى زمنٍ حنون حين كانت الصفقات بين واشنطن ودمشق توفّر للأخيرة اليد الطولى على لبنان من دون حسيب، وحين كان تمرير الاتفاق النووي في العام 2015 يسلتزم إغلاق باراك أوباما ملفات كثيرة أتاحت سطوة الحزب على لبنان من دون رقيب.

Exit mobile version