الصين تَستَعِينُ بالذكاء الاصطناعي لبِناءِ “المُواطِن المثالي”

يُعدُّ الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات الناشئة أمرًا محوريًّا في الجهود التي تبذلها الصين لتوسيع نفوذها العالمي، وتجاوز القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، وتأمين الاستقرار المحلي وحتى مراقبة مواطنيها.

نظام الائتمان الاجتماعي في الصين: من التفتت إلى التكامل.

الدكتور هيكل الراعي*

تشهدُ الصين تحوُّلاتٍ عميقة في نماذج الحَوكمة الاجتماعية، لعلَّ أبرزها “سياسة الإئتمان الاجتماعي” (Social Credit System)، التي تُمثّلُ مزيجًا فريدًا من المراقبة الرقمية، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ونُظُم التقييم السلوكي. بدأ هذا النظام بالتطبيق التجريبي في عددٍ من المدن الصينية منذ العام  2014، ليغدو لاحقًا مشروعًا وطنيًا طموحًا يسعى إلى تعزيز الثقة، الانضباط، والامتثال للمعايير القانونية والاجتماعية، من خلال رصد وتحليل سلوكيات الأفراد والشركات. يثير هذا النظام جدلاً واسعًا نظرًا لتأثيراته العميقة على الخصوصية، الحريات الفردية، والأُطُر الأخلاقية للتكنولوجيا.

نظام الرصيد الاجتماعي وأهدافه

“الرصيد الاجتماعي” أو “نظام الائتمان الاجتماعي” هو نظامٌ تقويمي شامل طوّرته الحكومة الصينية بهدف تعزيز الثقة في المجتمع، وتحفيز الأفراد والشركات على الالتزام بالقوانين والقِيَمِ الاجتماعية الرسمية. يعتمد هذا النظام على مَبدَإِ تقييمِ السلوك العام للمواطنين والشركات من خلالِ جَمعِ بياناتٍ من مصادر متعدّدة، ومنحهم “نقاطًا” أو “درجات” تؤثر في وضعهم القانوني والاجتماعي والاقتصادي. يرتكزُ نظام الرصيد الاجتماعي على مَبدَإٍ بسيط: “كافئ الجدير بالثقة، وعاقب المخالف”. الهدف المُعلَن للنظام، وفق الحكومة الصينية، هو “بناء مجتمع قائم على الثقة” وتحفيز الالتزام بالقوانين، دعم الاستقرار، ومكافحة الفساد. إلّا أنَّ استخدامَ الذكاء الاصطناعي في جَمعِ البيانات وتحليلها أثارَ مخاوفَ من تحوُّلِ هذا النظام إلى أداة رقابة شاملة تُعيدُ تشكيلَ العلاقةِ بين المواطن والدولة.

وضعت الفكرة الحكومة الصينية، وتحديدًا مجلس الدولة الصيني، حيث أصدر في العام 2014 وثيقة سياسية بعنوان: “مخطط لتأسيس نظام ائتمان اجتماعي بحلول العام 2020”. هذا المُخطّط كان بمثابة الإطار التوجيهي لإطلاق النظام على المستوى الوطني، مع السماح للبلديات بتجربة نماذج مختلفة محليًا. وهو جاء كرد فعل على ضعف الثقة العامة في السوق والقطاع الحكومي، وارتفاع معدلات الاحتيال التجاري، والهروب من سداد الديون، وعدم احترام القانون. كما يمثل وسيلة لتعزيز الانضباط المجتمعي والتوافق مع السياسات الرسمية.

الذكاء الاصطناعي

كأداةٍ للتنفيذ 

يُعَدُّ الذكاء الاصطناعي العمود الفقري لهذا النظام، حيث يتم استخدام تقنيات التعرُّف على الوجوه، تحليل البيانات الضخمة، وخوارزميات التصنيف لتجميع المعلومات من مصادر متنوّعة، ومنها: أ- “الكاميرات الذكية”: حيث تنتشر كاميرات التعرُّف على الوجه في الطرقات والأماكن العامة لتسجيل الانتهاكات السلوكية مثل عبور الشارع في مكان غير مخصص، أو رمي النفايات عشوائيًا؛ ب- “البيانات المصرفية والحكومية” :حيث يتم دمج المعلومات الشخصية والمالية، والقضائية، والعلمية والصحية والضريبية لتحديد مدى “الجدارة الاجتماعية”؛ ج- “وسائل التواصل الاجتماعي”: يُستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى الرقمي على وسائل التواصل، وتحليله وفقًا لمعايير السلوك التي وضعتها الدولة ويجري تعميمها بواسطة النظام التعليمي ووسائل الإعلام.

يعملُ نظامُ “الرصيد الاجتماعي” على مبدَإِ “المكافأة والعقاب” وفقًا لسلوك المواطن أو الشركة. ويستعين بأنظمة المراقبة بالفيديو والتعرّف على الوجه، ويتعاون مع شركات خاصة مثل “Alibaba” و”Tencent” جمع وتحليل البيانات.

أما “آلية التقييم” فتتم وفق ما يلي: يحصلُ كلُّ فرد أو كيان على درجةٍ أولية. تزداد الدرجة مع المكافآت الرقمية التي يحصل عليها المواطن نتيجةً لأفعالٍ “إيجابية”، مثل: الالتزام بسداد الديون؛ السلوكيات الأخلاقية الحميدة مثل التطوّع أو التبرُّع بالدم؛ إحترام القوانين المرورية؛ سداد القروض في موعدها؛ نشر محتوى إيجابي على الإنترنت، أو حتى زيارة الوالدين.

وتُحسَمُ  نقاطٌ من رصيد المواطن عند ارتكاب مخالفات، مثل: التأخّر في دفع السندات أو الاحتيال المالي، نشر معلومات “كاذبة” أو “معادية” على الإنترنت، إرتكاب جرائم أو مخالفات إدارية. يتم حسم النقاط بسبب المخالفات مثل القيادة تحت تأثير الكحول (محاضر ضبط مرورية) أو الإدلاء بتصريحات ضد الحكومة.

تم ربط النظام بتطبيقات الهاتف المحمول التي تخبر المواطن بدرجته وتتيح له تتبع أنشطته وتأثيرها في تقييمه.

العقوبات والامتيازات

يحصل المواطن نتيجة سلوكياته وتصرّفاته وانضباطه والتزامه، أو العكس، على امتيازات أو تُفرَضُ عليه عقوبات:

– الامتيازات لأصحاب الدرجات المرتفعة: تسريع إجراءات التأشيرة والسفر؛ أولوية في الحصول على القروض أو فرص العمل؛ تخفيضات في مختلف الخدمات الحكومية؛ الانتساب للحزب.

– العقوبات لأصحاب الدرجات المنخفضة: يُمنع مَن لديهم درجات منخفضة من شراء تذاكر القطار أو الطائرة؛ حظر من الوصول لبعض الخدمات الحكومية وتشهير علني في بعض الحالات ؛ قوائم سوداء عبر الإعلام وفي أماكن عامة؛ صعوبات في الحصول على وظائف في الدولة أو قروض.

التطبيق التجريبي

إن تطبيقَ نظام “الرصيد الاجتماعي” أو”نظام الائتمان الاجتماعي” حتى الآن غير مُوَحَّد على المستوى الوطني الصيني بالكامل، لكن الحكومة تعمل على دمج الأنظمة التجريبية المختلفة المُطَبَّقة في بعض المدن الكبرى. لا يوجد قانونٌ واحد يفرضُ النظامَ بشكلٍ شامل، بل لا يزال يعتمد على مجموعة من اللوائح القطاعية المالية، الإدارية، الأمنية.

رُغم ذلك فإنَّ تطبيقاته التجريبية في بعض المدن مثل “رونغتشنغ” و”تشجيانغ” تقدم أمثلة واضحة على كيفية استخدامه: فمدينة رونغتشنغ (Rongcheng) تستخدم نظامًا يقوم على نقاطٍ مئوية بدءًا من 1000، تُحسَمُ منها النقاط أو تُضاف عليها بناءً على سلوك المواطن، ويُصنَّف الأفراد إلى مستويات مثلًا من ” AAA” إلى”D”. أما مدينة تشجيانغ (Zhejiang) فهي تُعتَبَرُ من أبرز الأمثلة على استخدام الذكاء الاصطناعي في تقييم المواطنين، من خلال مشروع “Sesame Credit” الذي تديره شركة “Ant Financial” التابعة لمجموعة “آلي بابا”. وهو نموذج تجاري يستخدم الخوارزميات لتقييم “قيمة الثقة” للمستهلكين.

الآثار القانونية والأخلاقية

يثيرُ نظام “الرصيد الاجتماعي” تساؤلات قانونية وأخلاقية عدة، أبرزها: الخصوصية وحماية البيانات: يشكل جمع البيانات الضخمة الشخصية والحساسة عن حياة الأفراد اليومية، ومعالجتها بواسطة الذكاء الاصطناعي، تهديدًا مباشرًا لحقِّ الخصوصية. ولا يوجد حتى الآن قانونٌ صيني موحَّد لحماية البيانات الشخصية يُقيّدُ هذا النوع من الاستخدامات الحكومية؛ الشفافية والمساءلة: فالمواطنون لا يعرفون كيف يتمُّ تقييمهم أو تصنيفهم، ولا يعرفون دائمًا السبب الحقيقي والدقيق لتخفيض درجاتهم، وكذلك تغيب الإجراءات القانونية للطعن أو مراجعة القرارات الآلية المُتَّخَذة بحقِّ الأفراد؛ المساواة وعدم التمييز: يمكن أن تؤدّي خوارزميات التصنيف إلى تعزيز التمييز، لا سيما ضد الفئات المُهمَّشة. على سبيل المثال، قد تُرفَض طلبات عمل أو قروض بسبب “سجل اجتماعي” منخفض من دون تفسير موضوعي مقنع؛ الرقابة والتطويع السياسي: يرى بعضُ الباحثين أنَّ هذا النظام يعزّز الطابع الاستبدادي للسلطة، عبر مكافأة الولاء للدولة ومعاقبة النقد والمعارضة. فهو قد يُستخدَمُ لقمع المعارضة أو التحكُّم في الرأي العام. وقد تم الإبلاغ عن حالاتٍ لمواطنين تم منعهم من السفر أو خفض درجاتهم بسبب مشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي تم اعتبارها “غير وطنية”.

نقاش عالمي

رُغمَ أنَّ الصين هي الدولة الوحيدةفي العالم التي تُطبّق نظام “الرصيد الاجتماعي” بشكلٍ رسمي وموسَّع، إلّا أن بعض التطبيقات المشابهة بدأت الظهور في دولٍ أخرى ولكن بصيغ مختلفة. ففي الولايات المتحدة، يستخدم بعض شركات التأمين تقييمات سلوكية مثل نمط القيادة لتحديد أسعار بوالص التأمين؛ وفي الهند، يرتبط نظام “آدهار” (Aadhaar) الذي يجمع البيانات البيومترية عن المواطنين بالمستفيدين من الخدمات الحكومية، وقد أثار مخاوف شبيهة. ويدور النقاش عالميًا حول إمكانية استغلال الذكاء الاصطناعي كأداةٍ للمراقبة مقابل ضمان الحقوق والحريات.

الآفاق المستقبلية

تتعدد السيناريوهات المستقبلية لتوسع نظام “الرصيد الاجتماعي”  أو تقنينه. قد يُعاد تصميم هذا النظام ليكون أكثر شفافية ويعتمد على معايير قانونية واضحة، أو قد يتحول إلى أداة مركزية للمراقبة الاجتماعية، تشكل تحديًا للحقوق الرقمية وللحريات الفردية.

عمليًا، تتباين الآراء بين من يرى هذا النظام وسيلة مبتكرة لتعزيز الانضباط المجتمعي، ومن يعتبره نموذجًا تقنيًا للضبط السياسي، مشيرين إلى بروز مفاهيم مثل “الطغيان الخوارزمي” و”الديستوبيا الرقمية” وهما مصطلحان يُستخدمان لوصف رؤية تشاؤمية لمستقبلٍ يتسم بسيطرة التكنولوجيا بشكل مفرط وسلبي على حياة الإنسان، بحيث تؤدي هذه السيطرة إلى تآكل الحريات الفردية، وانعدام الخصوصية، وانتشار المراقبة الشاملة، والتهميش الاجتماعي، وتفاقم التفاوت الطبقي، بل وأحيانًا إلى تعطيل القيم الإنسانية.

فنظام “الرصيد الاجتماعي” في الصين يُعَدُّ أحد أبرز التطبيقات المثيرة للجدل للذكاء الاصطناعي في الحوكمة الحديثة. وبينما يعكس قدرة غير مسبوقة على ضبط السلوك الجماعي وتحسين الأداء المؤسّسي، فإنه يثير أسئلة جوهرية تتعلق بالحرية، الخصوصية، والمساءلة. إنَّ دراسة هذا النظام لا تقتصر على الشأن الصيني فحسب، بل تمثل تحذيرًا عالميًا من احتمال تحوُّل أدوات الذكاء الاصطناعي إلى وسائل للسيطرة بدلًا من التمكين، ما يستوجب حوارًا دوليًا متعدد الأطراف حول أخلاقيات الرقمنة والحوكمة الذكية.

Exit mobile version