الصين ما زالت فائزةً في معركةِ الجيل الخامس، وقد تفوزُ في الجيل السادس

إذا اعتمدَت الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها وشركائها، السياسات الصحيحة ونفّذتها، فيمكنها استعادة زمام المبادرة التكنولوجية وحماية عملياتها الاستخباراتية واتصالاتها العسكرية حول العالم. ولكن للقيام بذلك، يجب عليها ضمان بقاء البُنية التحتية الرقمية المُتقدّمة والموثوقة والآمنة، المُصَمَّمة والمُنتَجة خارج الصين، مُتاحة -وأن تصبح التكنولوجيا المفضّلة- في الداخل والخارج على حدٍّ سواء.

“نوكيا” الفنلندية : تستطيع منافسة هواوي، إلى جانب إريكسون السويدية، إذا كان هناك دعمٌ أميركي وأورويي.

آن نيوبيرغر*

عندما أسّسَ “رين تشنغ فاي” شركة “هواوي” في العام 1987، كانت شركة الاتصالات الصينية تمتلكُ بضعة آلاف من الدولارات في حساباتها المصرفية، وكانت تتطلّعُ إلى الهندسة العكسية للتكنولوجيا الأجنبية المُتقدّمة. بحلول العام 1994، كانت “هواوي” تُنتج معدات التبديل، وهي الأجهزة والبرمجيات التي تُشكّلُ أساسَ الاتصالات الحديثة، عندما اجتمع رين مع الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني جيانغ تسه مين. أشار الرئيس التنفيذي لشركة “هواوي” إلى أنَّ منتج شركته يُمثّلُ مسألة “أمن قومي”، وأنَّ الدولة “التي لا تمتلك معدات تبديل خاصة بها تُشبه دولة تفتقر إلى جيشها الخاص”. أجاب جيانغ: “أحسنت”. ومنذ تلك اللحظة، أصبح قطاع الأعمال والحكومة شريكين في مهمة الحفاظ على أمن الاتصالات في الصين.

في غضون ذلك، في أواخر التسعينيات وطوال العقد الأول من هذا القرن، لم تُعِر الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا لهَيمنتها على قطاع الاتصالات. كانت ريادتها في هذا القطاع مُنقطعة النظير، وتمَّ اعتمادُ الابتكارات الأميركية -بما في ذلك تقنيات الجيل الثاني والثالث والرابع- على نطاقٍ واسع واستخدامها بأمان في جميع أنحاء العالم. ولكن بينما كانت الولايات المتحدة تجلسُ في الصدارة برضا تام، واثقة من أنَّ قوة السوق الحرة ستُبقيها هناك، كانت الصين تضعُ نفسها بعنايةٍ كمُنافس. ضخّت بكين الموارد في هواوي وغيرها من الشركات الصينية، مما جعلها في وَضعٍ يسمح لها بالتفوُّق على الشركات الأجنبية. كان هذا الجهدُ ناجحًا للغاية لدرجةٍ أنه بحلولِ العام 2012، تمَّ نشرُ معدات الاتصالات من “هواوي” في جميع أنحاء المناطق الريفية في أميركا، وغطّت القواعد التي تضمُّ الأسلحة النووية الأميركية. وقد وفّرَ هذا فعليًا للحكومة الصينية مُراقبةً مستمرّة لأكثر قدرات الولايات المتحدة حساسية وعملياتها العسكرية. ربما لم تكن “هواوي” تجني أرباحًا من هذا المشروع، ولكن بالنسبة إلى بكين كان بمثابة انقلابٍ استخباراتي.

على الرُغم من أنَّ الولايات المتحدة بدأت صَدَّ هذه الجهود وحظّرَت في النهاية شركة “هواوي” من الشبكات الأميركية في العام 2016، إلّا أَّن نجاحات “هواوي” استمرّت في التزايد. أصبحت الشركة الآن أكبر مُزَوِّدٍ لشبكات الجيل الخامس في العالم ولاعبًا مُهَيمنًا في معدات الاتصالات. كما إنها على استعداد لقيادة الجيل التالي من الشبكات – الجيل السادس. يتّهمُ منافسو الشركة، مع بعض المبرّرات، بتحقيق هذه الهيمنة من خلال سرقة الملكية الفكرية، بمساعدة الدعم الصيني العدواني والسوق الصينية المُغلقة. في غضون ذلك، أزالت “هواوي” العديد من منافسيها. على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية، طُردت بعض الشركات، مثل شركتَي “سيسكو” و”موتورولا” الأميركيتين، من سوق المعدات؛ واضطرت شركات أخرى، مثل شركة “لوسنت” الأميركية وشركة “ألكاتيل” الفرنسية وشركة “سيمنز” الألمانية، إلى البيع أو الاندماج مع شركات أكبر من أجل المنافسة. أعلنت شركة “نورتل” الكندية إفلاسها في العام 2009. واليوم، لا تزال شركتان غير صينيتين فقط قادرتَين على منافسة “هواوي” عالميًا: شركة “إريكسون” السويدية وشركة “نوكيا” الفنلندية. تُعدّ الولايات المتحدة أكبر أسواقهما، وتعتمد شركات الاتصالات الأميركية على خدماتهما.

لا يَقتصرُ الأمرُ على خسارة الشركات الغربية لحصّتها السوقية فحسب، بل تحمل شبكات “هواوي” بيانات قَيّمة، وهي مُلزَمة بموجب قوانين الاستخبارات الصينية بتقديمها بناءً على طلب الحكومة. وسيكون هذا الوصولُ ذا قيمةٍ لبكين في أيِّ وقت. ولكن الآن، في عصر الذكاء الاصطناعي، فإنَّ مجموعات البيانات التي تنقلها “هواوي” لها وظيفة أخرى أيضًا: تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وقد نشرت “هواوي” خدماتها للمدن الذكية –والتي يمكن أن تشملَ تصوير كاميرات الشوارع؛ وبيانات عدادات الكهرباء والغاز والمياه؛ وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي– في أكثر من 200 مدينة في 40 دولة، من سنغافورة إلى إسبانيا. يمكن تغذية مجموعات البيانات التي ينتجها هذا مباشرةً في نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية وإتاحتها للجيش وأجهزة الاستخبارات الصينية، مما يجعل بكين ليس فقط رائدة في مجال الاتصالات، بل اللاعب المهيمن في استخدام الذكاء الاصطناعي للسلامة العامة والأمن القومي. كما أظهرت عملية اختراق “سولت تايفون” التي كُشف عنها أخيرًا، والتي استهدفت شركات اتصالات أميركية كبرى، عزم الصين على الوصول إلى الشبكات الأميركية بأيِّ وسيلة ضرورية.

اتَّخذَ الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى والرئيس جو بايدن بعده خطواتٍ لإبطاء صعود الصين إلى هذا المستوى المُهَيمن. وحاولت كلتا الإدارتين، على وجه الخصوص، معالجة ميزة التكلفة التي تتمتّع بها “هواوي” وغيرها من الشركات الصينية على نظيراتها الغربية. ومع ذلك، تُواصِلُ “هواوي” توسيع نطاقها العالمي. وستكتسب بكين ميزةً أكبر في مجال الاتصالات إذا قوَّضت التوترات الدولية والحروب التجارية التعاون بين الدول الغربية. في ولايته الثانية، يجب على ترامب مُضاعفة جهود الولايات المتحدة للتنافس، وتعزيز البرامج الناجحة، واتخاذ قرارات حاسمة بشأن كيفية توزيع نطاق الموجات غير المرئية التي تحمل إشارات لاسلكية، مثل بيانات الراديو والتلفزيون والهاتف، عبر الهواء، والمعروفة باسم “الطيف” (spectrum)، والعمل مع حلفائه لتمويل البحث والتطوير ونشر التكنولوجيا في الخارج. وإلّا، ستواصل الصين تقدمها في مجال الجيل الخامس (5G) حتى مرحلة الانتقال إلى الجيل السادس (6G)، مما يعزز سلطتها على الاتصالات العالمية، ويضعها في موقف يسمح لها بتعريض أمن العمليات العسكرية والاستخباراتية للولايات المتحدة وحلفائها، التي تعتمد على هذه الشبكات العالمية، للخطر.

تعثُّراتٌ مُبكرة

في القرن العشرين، أدّت استثمارات الحكومة الأميركية إلى ظهور الإنترنت والشبكات عالية السرعة ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS). كما ساهمت ابتكارات الشركات الأميركية في مجال تكنولوجيا الاتصالات الخلوية في تشكيل الاتصالات العالمية: فقد جلب الجيل الثاني خدمات الرسائل النصّية، والجيل الثالث خدمات النطاق العريض للأجهزة المحمولة، والجيل الرابع متاجر الفيديو والتطبيقات للأجهزة المحمولة. إلى جانب دعمها للبحث والتطوير، تركت واشنطن السوق الحرة وشأنها إلى حد كبير. أما في الصين، فعلى النقيض من ذلك، عاملت الحكومة والجيش شركات الاتصالات الرائدة كأبطال وطنيين، مما عزّزَ صعودها لأن نجاحها عزّزَ الأهداف الاستراتيجية لبكين. وبحسب ما ذكرت التقارير، تلقّت شركة “هواوي” وحدها 75 مليار دولار من الدعم الحكومي بين العامين 2008 و2018، مما مكّنها من اكتساب حصّةٍ سوقية من خلال تسعير المنتجات بأقل بكثير من تكلفتها. في أواخر التسعينيات، كان المورّدون الغربيون يمتلكون ما يقرب من 90% من سوق معدات الاتصالات. وبحلول العام 2025، انخفضت حصة “إريكسون” و”نوكيا” في السوق إلى 40%، حتى بعد استحواذهما على نظيراتهما المتعثّرة. تُمثل الشركات الصينية 40% إضافية من السوق العالمية.

اليوم، تتقلّصُ قاعدة الولايات المتحدة وأوروبا -موطن كل من “إريكسون” و”نوكيا”- مع استمرار الصين في تقويض عروض مبيعاتهما من خلال دعم عمليات نشر “هواوي” حول العالم. على الرُغم من تباطؤ هيمنة “هواوي” العالمية في مجال الجيل الخامس بسبب العقوبات وضوابط التصدير التي تقودها الولايات المتحدة، إلّا أن ابتكارات أميركا وابتكارات شركائها لم تستطع تهديد القدرة التنافسية لمنتجاتها. وبالنظر إلى أنَّ ميزانية البحث والتطوير لشركة “هواوي” تزيد عن ضعف ميزانية ثاني أكبر منافسيها الغربيين، فمن غير المرجح أن تفقد الشركة ميزتها الابتكارية.

إدراكًا منها للحاجة إلى اتصالاتٍ آمنة، حظّرت إدارة ترامب الأولى “هواوي” وغيرها من المنتجات الصينية من الشبكات الأميركية، واتخذت خطوات لاستبدال المعدات الموجودة بالفعل. كما بدأت الولايات المتحدة في تشجيع حلفائها، وأبرزهم المملكة المتحدة، على إزالة معدات “هواوي” والعمل مع شركات موثوقة بدلًا من ذلك. واصلت إدارة بايدن هذه الاستراتيجية. لكن كلا الحزبين أدركا منذ سنوات أنَّ حظرَ التكنولوجيا الصينية لن يكون كافيًا. ستحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها إلى تطويرِ بديلٍ فعّال من حيث التكلفة قادر على منافسة المنتجات الصينية المدعومة بقوة. ولتحقيق هذه الغاية، استعانت إدارة بايدن بجهتين حكوميتين أساسيتين، هما بنك التصدير والاستيراد الأميركي ومؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية، لتمويل انتقال كوستاريكا من شبكة “هواوي” للجيل الرابع إلى شبكة الجيل الخامس الموثوقة، من بين مشاريع أخرى، بشكلٍ مباشر، وللتعاون مع بنك الاستثمار الفنلندي لتمويل نشر واسع النطاق لتقنية الجيل الخامس من “نوكيا” في الهند.

خفض التكاليف

لم تتغيّر أهدافُ واشنطن. فهي بحاجة إلى منافسة الصين على نطاقٍ واسع، وتضييق فجوة الأسعار بين التقنيات الأميركية والصينية، وتشجيع اعتماد أنظمة موثوقة على نطاق أوسع. ويكمن تحقيق ذلك في تقديم حوافز للابتكار التكنولوجي وتوفير تمويل مشترك للدول التي تختار بين التقنيات الصينية وغير الصينية.

ينبغي على إدارة ترامب أن تبدأ بتحسين استخدام برنامج المِنَح، الممتد لعشر سنين والبالغ قيمته 1.5 مليار دولار، والذي أُنشئ بموجب قانون رقاقة المعلومات والبرمجيات لعام 2022. ركّزت المِنَحُ الأوّلية على تمويل اختبارات التوافق التشغيلي واسعة النطاق للتقنيات التي تدمج الأجهزة والبرمجيات من موردين مختلفين. وقد مُنحت أكثر من 140 مليون دولار لشركات وجامعات أميركية وأجنبية من خلال هذه المبادرة، مع توفير 420 مليون دولار إضافية كمِنَحٍ في أيار (مايو) 2024. كانت هذه بداية جيدة، ولكن يجب أن تتحرّكَ جولاتُ التمويل المستقبلية بوتيرةٍ أسرع بكثير وأن تُركّزَ على المشاريع التي تُسوّق التقنيات الجديدة تجاريًا، مما يمنح شركات البرمجيات الأميركية حوافز أكبر لدخول السوق. على وجه الخصوص، سيُحقق توجيه رأس المال نحو “التحويل السحابي” للبنية التحتية للشبكات -أي دعم التكنولوجيا التي تُنشئ نسخًا افتراضية من المعدّات المُتخصّصة- مكاسب كبيرة للصناعة الأميركية، التي تتفوَّق في تطوير البرمجيات.

تعتمد تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الشبكات عالية السرعة. ومع ذلك، تتخلّفُ الولايات المتحدة كثيرًا عن الصين في ما يتعلق بإنشاء البنية التحتية اللازمة. اليوم، يغطي الجيل الخامس 45% من مستخدمي الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة، مقارنةً بـ88% من مستخدمي الهواتف المحمولة في الصين. عندما طُرحت تقنية الجيل الخامس لأول مرة، بنت الصين 600 ألف محطة قاعدية للجيل الخامس في ثلاثة أشهر. واستغرقت الولايات المتحدة عامين لبناء 100 ألف محطة. ولكن في حين لا تستطيع واشنطن منافسة بكين في النشر على نطاق واسع، فإنها تستطيع المنافسة في الكفاءة. من خلال دمج الذكاء الاصطناعي في عمليات الاتصالات، يمكن للشركات زيادة سرعات الإرسال وسعة الشبكة بسرعة، مما يُحسّن الكفاءة الإجمالية. ينبغي استخدام الجولة المقبلة من مِنَحِ “الرقائق” (CHIPS) لدفع عجلة البحث والتطوير والمشاريع التجريبية في هذا المجال.

من الطرق المهمة الأخرى لخفض تكاليف الشركات الأميركية هي السياسة الضريبية. على سبيل المثال، يمكن لواشنطن تشجيع الاستثمار في البنية التحتية الرقمية من خلال السماح بالاستهلاك المتسارع، وهي أداة مالية تُمكّن الشركات من خفض قيمة الأصول الجديدة بسرعة، وبالتالي تخفيف أعبائها الضريبية وتوفير أموال الاستثمار. تضمّنَ قانون تخفيضات الضرائب والوظائف لعام 2017 هذا البند، ولكنه وُضِعَ لفترةٍ محدودة فقط، ويجري بالفعل إلغاؤه تدريجًا. ينبغي على الكونغرس الآن توسيع نطاق هذه الحوافز الضريبية لتشمل فئة واسعة من معدات البنية التحتية الرقمية لتعظيم استثمارات القطاع الخاص.

الترابُط معًا

حتى بعد تطبيق الولايات المتحدة لهذه الإصلاحات، ستظل تكلفة التقنيات غير الصينية تُقوّض جهودها لإقناع الدول الأخرى بتجنُّب المورِّدين الصينيين. يجب أن يكون البديل المُتاح مُتقدّمًا تقنيًا وبأسعار تنافسية. لذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى التعاون مع شركائها في تمويل البنية التحتية الرقمية. وقد نجح هذا النموذج سابقًا: ففي إطار مشروع كابل شرق ميكرونيزيا، الذي أُطلق في العام 2022، ساهمت أوستراليا واليابان والولايات المتحدة بشكلٍ مُشترك بأكثر من 90 مليون دولار لدعم بنية تحتية آمنة ومستدامة ومرنة للاتصالات في دول جزر المحيط الهادئ وفي ما بينها.

يُعدّ الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية من الشركاء المُحتملين الذين يُمكنهم تقديم الخبرة والقدرات التجارية لحملة تمويل الجيل الخامس التي تقودها الولايات المتحدة. وتتمتع الشركتان الأوروبيتان الرائدتان في هذا المجال، “إريكسون” و”نوكيا”، بمكانةٍ راسخة بالفعل في الأسواق الأميركية، لكنهما بحاجة إلى دعمٍ إضافي في مجال البحث والتطوير لتتمكّنا من المنافسة عالميًا مع “هواوي”. كما تمتلك اليابان وكوريا الجنوبية شركات أصغر يُمكنها أيضًا المُنافسة إذا قُدِّمَ لها الدعم الكافي. إنَّ إبرامَ اتفاقية مع واشنطن تغطي البحث والتطوير وتمويل تكيّف التكنولوجيا في دول ثالثة من شأنه أن يساعد أيًا من هؤلاء الشركاء أو جميعهم على تقليل عيوب شركاتهم مقارنةً بالشركات الصينية.

تُعزّزُ الصين تمويلها لهذه المشاريع، وعلى الولايات المتحدة وشركائها أن يحذوا حذوها. المؤسسة الواضحة التي يمكن لواشنطن اللجوء إليها هي بنك التصدير والاستيراد، وهو وكالة الائتمان التابعة للحكومة الأميركية. لا يزال البنك بحاجة إلى مزيد من المرونة لتحمُّل المخاطر وتقديم تمويل تنافسي لمشاريع الجيل الخامس، لكن جهوده الأخيرة تبدو واعدة. في العام 2023، أذن مجلس إدارة البنك بمعاملات متعلقة بالجيل الخامس، حيث تكون أقل من 51% من السلع والخدمات المعنية من أصل أميركي، شريطة أن يقدم المُصدّر خطة لتوسيع فرص العمل في الولايات المتحدة. وقد تمت الموافقة بالفعل على 313 مليون دولار أميركي لدعم بناء الجيل الخامس في الهند بموجب اتفاقية تمويل مشترك مع وكالة ائتمان الصادرات الفنلندية. ومن خلال المزيد من التعاون من هذا النوع، يمكن لواشنطن أن تُظهر للعالم عزم الولايات المتحدة وشركائها على تقديم بدائل مقنعة من الموردين الصينيين المدعومين.

للقطاع الخاص دورٌ أيضًا. ففي وقتٍ سابق من هذا العام، أعلنت شركة “غوغل” وحكومة تشيلي عن إطلاق كابل هومبولت، وهو مسار كابل بحري يربط تشيلي بأوستراليا عبر بولينيزيا الفرنسية. ويمكن لجهودٍ متضافرة من الولايات المتحدة وحلفائها لإشراك الشركات الخاصة في استراتيجيتهم أن تُحفّز استثماراتٍ مماثلة للحفاظ على اتصال المناطق النائية من العالم بالتكنولوجيا الغربية، بدلًا من الاعتماد على شركاتٍ قد تخضع لسيطرة بكين.

التوجُّه نحو اللاسلكي

أخيرًا، ينبغي على واشنطن إصلاح سياستها المتعلّقة بالطيف التردّدي. يُعدّ الطيف، الذي يُشير إلى نطاق موجات الطاقة غير المرئية المستخدمة لنقل المعلومات (مثل التلفزيون والواي فاي) عبر الهواء، موردًا محدودًا. تُعدّ وزارة الدفاع أكبر مالك للطيف الترددي في الولايات المتحدة، وهي لا تُعلن بشفافية عن مقدار الطيف الذي تحتاجه وموعد استخدامه. يُعدّ الطيف الترددي حيويًا لجميع أنواع نقل البيانات، سواءً لبث الأفلام أو استخدام الطائرات المسيَّرة لمراقبة البنية التحتية – بمعنى آخر، ليست الحكومة وحدها من يحتاج إليه. ولكن في الولايات المتحدة، على عكس الصين، لا يتعاون القطاعان العام والخاص على تحقيق أهدافٍ مشتركة. بل تتنافس الحكومة والشركات الخاصة على الوصول إلى الطيف الترددي. وهذا يُعيق تقدم التقنيات الأميركية مقارنةً بمنافستها الصينية. تُعزز مزايا الصين في هذا المجال طموحاتها للسيطرة على الشبكات العالمية وجني فوائد عسكرية واستراتيجية من هذه السيطرة. ستحتاج واشنطن الآن إلى اتخاذ خيارات صعبة لإتاحة أجزاء من طيف البنتاغون للاستخدام التجاري، مع ضمان الحفاظ على القدرات العسكرية والاستخباراتية الحيوية.

ستكون الفوائد كبيرة. ستكون الشركات الأميركية في وضع أفضل لتطوير تقنيات الجيل التالي للهواتف المحمولة، مما يُطلق دورةً فعّالة من الابتكار. فبينما تُصنّع وتُختبر المعدات والمنتجات والتقنيات الخاصة بالطيف الجديد، ستحذو الشركات في الدول الأخرى حذوها. ومن ثم، سينتشر نظامٌ بيئيٌّ للأجهزة والبرمجيات، تُنتجه الولايات المتحدة وحلفاؤها، في جميع أنحاء العالم.

في بعض الحالات، لن تتمكن وزارة الدفاع من توفير المزيد من الطيف للقطاع الخاص. ولكن حتى في هذه الحالة، ثمة حلول. ينبغي على البنتاغون العمل مع الشركات التجارية لتوسيع نطاق استخدام تقنيات مشاركة الطيف الجديدة، وأنظمة الترخيص، والبرامج المدعومة بالذكاء الاصطناعي لجعل الشبكات أكثر ذكاءً ومرونة. وهذا من شأنه أن يُمكّن المستخدمين الحكوميين والتجاريين من مشاركة الطيف بشكل أكثر فعالية مما هو ممكن اليوم، وهذا يعني أنَّ وزارة الدفاع يُمكنها الوصول إلى الطيف عند الحاجة إليه للمهام غير المتكررة ولكن المهمة، والتدريب، والاختبار. وقد هدف مشروعٌ تجريبي أطلقته إدارة بايدن إلى اختبار هذه التقنيات على نطاق واسع وبالشراكة مع الشركات الخاصة. ينبغي على إدارة ترامب إنهاء هذه التجربة بسرعة وتسريع الخطوات التالية لتحديد كيفية إدارة مشاركة الطيف الترددي، ووضع آليات سريعة لتسوية النزاعات. سيضمن هذا للبنتاغون وأجهزة الاستخبارات توافر الطيف الترددي لهما خلال الأزمات والصراعات. كما سيمنح القطاع الخاص الثقة في أنَّ الطيف الترددي عند الطلب سيكون موثوقًا به بما يكفي للأغراض التجارية. هذه الثقة أساسية لجعل استثمار القطاع الخاص في البنية التحتية الرقمية مجديًا.

اللحاق بالركب

حتى الآن، تمَّ اختراعُ وتطويرُ ونشرُ جُزءٍ كبيرٍ من البُنية التحتية الرقمية التي دعمت العالم الحديث في الولايات المتحدة. إذا فقدت أميركا هذه الميزة نهائيًا، فستكون العواقب وخيمة. فالصين التي تُهيمن على الشبكات الرقمية العالمية ستكون قادرة على مراقبتها كما تشاء. كما ستكون في وضع يسمح لها بقيادة الذكاء الاصطناعي، وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على البيانات التي تمر عبر شبكات الشركات الصينية، والتحكُّم في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على الشبكات عالية السرعة. لقد أدركت الإدارات الأميركية المتعاقبة حجم المشكلة. لكن الخطوات التي اتخذتها لمعالجتها لم تحل المشكلة الأساسية: غياب التقنيات البديلة القادرة على منافسة الصين في السعر.

يعتمد الأمن القومي الأميركي على استعادة الولايات المتحدة صدارتها. ولا يمكنها تحقيق ذلك بمفردها. ورُغمَ أنَّ المنافسة مع الصين ستكون شرسة، لا سيما بسبب استعداد بكين لاستخدام نفوذها الاقتصادي لمنح شركاتها ميزةً تنافُسية ساحقة، إلّا أنَّ على واشنطن أن تنخرط في هذا المجال. ستزدادُ أهمية تقنيات مثل الجيل الخامس، والحوسبة السحابية، والمحاكاة الافتراضية، والذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، ستكون الدولة التي تقود الانتقال إلى الجيل السادس في طليعة التطورات في مجموعة متنوّعة من التطبيقات، مثل الروبوتات والمركبات ذاتية القيادة. إذا اعتمدت الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها وشركائها، السياسات الصحيحة ونفذتها، فيمكنها استعادة زمام المبادرة التكنولوجية وحماية عملياتها الاستخباراتية واتصالاتها العسكرية حول العالم. ولكن للقيام بذلك، يجب عليها ضمان بقاء البنية التحتية الرقمية المتقدمة والموثوقة والآمنة، المُصَمَّمة والمُنتَجة خارج الصين، متاحة -وأن تصبح التكنولوجيا المفضلة- في الداخل والخارج على حدٍّ سواء.

Exit mobile version