الدكتور فيكتور الزمتر*
يحتفلُ الحلَفاءُ المُنتصرون في الحرب العالمية الثانية، هذا الأُسبوع، بالذكرى الثمانين لانتصارهم على النازية والفاشية، وسطَ انقسامٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ واقتصاديٍّ على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية.
وكان أَوْلَى بتلك الدوَل أنْ تتَّعظَ من ويلات تلك الحرب، التي أودت بعشرات الملايين من الضحايا والمُشرَّدين، عدا الدمار الذي لحقَ بعُمرانها وبناها التحتية، وأن تتذكَّر بأنَّ احتفاءها بالنَّصر، اليوم، لم يكن ليكون لولا تحالُفها في القضاء على العصبيَّات الألمانية والإيطالية واليابانية!
إنَّ إصرار أوروبا على صبِّ الزيت على النار المُلتهبَة في شرق أوكرانيا، من شأنه أنَّ يُخرجَ الأُمورَ عن السيطرة، كون فُرقاء الصراع يمتلكون سلام فناء العالم. وهذا لا يعني التسليمَ بالواقع المُستجد على الرقعة الجغرافية لأُوكرانيا، بقدر ما يعني تحمُّلَ مسؤولية سياسة التحريض، التي انتهجها الغربُ ضدَّ الإتحاد الروسي، إمعانًا في شرذمته، غداة تفكُّك الإتحاد السوفياتي.
وللتذكير، كانت الولايات المُتحدة الأميركية قد تعهَّدت، في 9 شباط (فبراير) 1990، بعدم توسيع حلف “الناتو” إلى حدود روسيا، مقابل موافقة هذه الأخيرة على السماح بتوحيد ألمانيا. ولكن، لم يتمّ الوفاء بهذا التعهُّد، بل أُشعلت “ثورةُ الميدان الأوروبي” في “كييڤ”، بتحريضٍ من الغرب، والتي أفضت إلى إسقاط الحُكم المُتقارب مع روسيا، ما دفعَ الرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش”، إلى الفرار إلى موسكو، في 22 شباط (فبراير) 2014.
شكَّلت سيطرةُ الموالين للغرب على النظام في “كييڤ”خنجرًا في خاصرة روسيا، التي يجمعُها مع أوكرانيا تاريخٌ من الأواصر العرقية والروحية والسياسية والثقافية. عدا عن إنَّها كانت جمهوريَّةً في كنف الإتحاد السوڤياتي، على مدى قرابة نصف قرنٍ من الزمان!
أمام ذلك، لم يكن أمام الرئيس فلاديمير بوتين، الذي سبقَ له أنْ هدَّد بالحرب إنْ تمَّ سحبُ أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي، سوى ضمّ شبه جزيرة القرم، في 21 آذار (مارس) 2014، أيّ بعد شهرٍ بالتمام والكمال على إسقاط النظام في “كييڤ”. أعقبَ ذلك تدرُّجٌ بالإنزلاق العسكري، مع تحرُّك الأقليَّة الأوكرانية ذات الأُصول الروسية، الأمرُ الذي استدعى تحرُّكًا زجريًّا من قبل القوى العسكرية الأوكرانية، ما استدرجَ تدخُّلَ القوات الروسيةَ، انتصاراً للنزعة الإنفصالية لسكان منطقة “دونباس”، في شرق وجنوب أوكرانيا، إلى أنْ آلَ الوضعُ إلى الإجتياح الروسي، في 24 شباط (فبراير) 2022، وصولًا إلى “كييڤ”، قبل أنْ يتركَّزَ الإجتياحُ على منطقة “دونباس”، ومقاطعاتها الأربع، “دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريزهيا” بعد ضمِّها للقوام الروسي.
لقد قضت الحربُ العالميةُ الثانيةُ على عشرات الملايين من الأرواح المدنية والعسكرية، قُدِّرت بين خمسين وستين مليون ضحية، وشرَّدت ملايين أُخرى، في حين قضى بعضُ الملايين في الأَسرِ ومن المرض والجوع، قبل أن يُعلَّق موسوليني برجليه وينتحرَ هتلر في مخبَئه وتُقذَفُ “هيروشيما وناكازاكي” بالسلاح النووي. وكانت القوّات الأميركيةُ والبريطانيةُ قد احتلَّت غربَ ألمانيا واحتلَّ السوڤياتُ شرقَها، وُصولاً إلى برلين، عاصمة الرايخ الثالث، التي اقترعَ المُنتصرون على ثيابها، فتقاسَموها، بين غربٍ أميركيٍّ بريطانيٍّ فرنسيٍّ وشرقٍ سوڤياتيٍّ.
وبما أنَّ الحديثَ جارٍ على الإنتصار على النازية، من الإنصاف الإشارة إلى أنَّ الإتحادَ السوڤياتي خسرَ من الضحايا ما يُقاربُ نصفَ خسائر الحُلفاء الآخرين مُجتمعين، أيّ حوالي سبعة وعشرين مليون ضحيَّة، من ضمنهم ملايين عدة لتحرير الأراضي الأوكرانية المُنبسطة، علمًا أنَّ قوّات الجيش الأحمر كانت أوَّلَ من أسقط “الصليب المعقوف”، رمزَ النازية، من على “الرايخستاغ”، مبنى البرلمان الألماني، واستبدَله برفع الراية الحمراء السوڤياتية عليه.
أمام هذه التضحيات الروسية الجسيمة لتحرير أوروبا من مخالب النازية والفاشية، من حقِّ المرء أنَّ يتساءل عن استشراس الغرب في إلحاق الهزيمة بروسيا، في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وإسقاط بوتين، المُدافع الصلب عن مصالح بلاده. هذا، بالرُّغم من أنَّ روسيا كانت حليفةَ الغرب المُضحيَّة بسخاءٍ في الحربين العالميتين السابقتين.
فتصريحاتُ زعماء الغرب تجاوزت حدود اللِّياقة الديبلوماسية في التخاطُب، ليطغى عليها طابعُ الحقد وخشونةُ التعبير. فما هي جُذورُ الحقد الغربي التاريخيّ الدفين على روسيا، زمن القياصرة والبلاشفة، على السواء؟ بل ماذا تخفي هذه الإستماتةُ التاريخيةُ في تفكيك الأُمبراطورية الروسية، مُرورًا بوريثِها الإتحاد السوڤياتي وإنتهاءً بالإتحاد الروسي؟
يُعيدُ البعضُ هذا الحقدَ إلى “الإنشقاق العظيم”، الذي أصابَ وحدةَ المسيحيين، في العام 1054، وأدّى إلى انقسام الكنيسة بين شرقٍ أرثوذكسيٍّ وغربٍ كاثوليكيٍّ، نتيجةَ خلافاتٍ لاهوتيَّةٍ، تعمَّقَت مع تعاقُب العُقود. بينما رأى البعضُ الآخرُ السببَ في الخلاف الإيديولوجي، بين اليمين اللِّيبرالي الغربي واليسارالإشتراكي الشيوعي. إلى ذلك، لم يتردَّدْ بعضُ المُتابعين باتهام الأنكلوساكسون بأنَّهم أوَّلُ من تبنّى مُصطلح “الروسوفوبيا”، أيّ كراهية الروس وثقافتهم، التي أطلقَها الشاعر الروسي “فيودور إيڤانوڤيتش تيوتشيف”، في العام 1867، على الروس المُوالين للغرب، وقاموا بتغذيتها بالتحريض والمُكر والدسائس.
وللإنصاف، سبقَ “نابوليون بونابرت” الأنكلوساكسون بالتحريض على روسيا، من خلال السماح، في العام 1812، بنشر ملفٍّ للنبيل والسياسي والكاتب، الجنرال البولندي ميخال سوكولنيكي (1760-1816)، عُرف بوصية “بطرس الأكبر”، تحت عنوان: “نظرة عامة على روسيا”. هذه الوصية أبرزت “تقدُّم القوى الروسية”، ما حدا بالأُمبراطور “نابوليون بونابرت” إلى إصدار الأوامر بنشر سلسلة مقالاتٍ، وبروباغندا دعائية تُحذِّرُ من أنَّ “أوروبا في طريقها الحتمي لتصبحَ غنيمةً لروسيا”.
وبعد سقوط نابوليون بونابرت، بدأ الإعلام الإنكليزي يُحرِّضُ على روسيا، مُتَّهماً إيّاها بالتخطيط لإحباط احتلال إنكلترا لأفغانستان وعرقلة تواصلها مع الهند. وفي هذا السياق، أطلق الجغرافي الإنكليزي، “هالفورد ماكيندر” (Halford Mackinder)، في العام 1904، نظريتَه حول “The Geographical Pivot of History”، أي “المرجعية الجغرافية للتاريخ”، وخُلاصتُها أنَّ “من يُسيطر على أوروبا الوسطى يحكمُ العالم”. وعليه، كان على الإنكليز أن يُحاربوا طبيعةَ الجغرافيا التي أوجدت روسيا في قلب أوروبا!
وإذا صحَّ الإعتقادُ بأنَّ الأنكلوساكسون يرعون الحقدَ على روسيا لتفتيتها، فمن غير المُستبعد أنْ يكون سببُ ذلك الحقدِ عائدًا إلى تخوُّف الأنكلوساكسون، من تكامل الثروات الطبيعية الروسية مع التكنولوجيا الألمانية، دينامو الإقتصاد الأوروبي، ما يُفضي إلى تكامُلٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ، بقيادة موسكو وبرلين، على حساب التبعية الأوروبية للولايات المُتحدة الأميركية. وفي حال تاكيد هذا الإفتراض، يتثبَّتُ بُعدُ نظر الرئيس دونالد ترامب بتعديل مسار السياسة الأميركية مِئَةُ وثمانين درجة تجاه روسيا، لإنزال ألمانيا من قاطرة القيادة وإحلال واشنطن مكانها.
فهل حصولُ ذلك يعني خروجَ أوروبا من التاريخ، بعدما تمَّ إخراجُها من مُعظم مُستعمراتها؟ إنَّ غدًا لناظره قريبٌ.
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفير لبناني مُتقاعد.