أتاحَ الانهيارُ المالي في لبنان والصراع السوري نموَّ اقتصادٍ غير مشروع، ما أدّى إلى ظهورِ جيلٍ جديد من تجّار المخدّرات المُرتَبطين بأحزابٍ لبنانية ونفوذٍ في قوات الأمن. ولمعالجة هذا الوضع، يجب على الدولة اعتماد نهج شامل.
مهنّد الحاج علي*
على مدى العقد الماضي في لبنان، كان من عواقب الصراعِ في سوريا المُجاوِرة التوسُّع في الإنتاج والاتجار غير المشروعَين بالكبتاغون، وهو نوعٌ من المخدّرات مُشتَقٌّ من الأمفيتامين والثيوفيلين. وقد أدخَلَت تجارةُ الكبتاغون جهاتٍ فاعلة جديدة عابرة للطوائف، استغلّت الشبكات السياسية والأمنية لتحقيق أرباحٍ هائلة ونفوذ، متجاوزةً شبكات المخدّرات العشائرية التقليدية في لبنان من حيث النطاق والتأثير.
منذ العقد الأول للاستقلال بعد العام 1943، ركّزت تجارة المخدّرات في لبنان على إنتاج الحشيش (أو القنّب الهندي) بالإضافة إلى إنتاج الأفيون، وتركّزت على طول الحدود الشرقية مع سوريا في شمال وادي البقاع. أصبح هذا الأمرُ مثارَ قلقٍ إقليمي ودولي، ومارست الدول الأجنبية ضغوطًا على السلطات اللبنانية لمعالجة المشكلة. وكثيرًا ما ردَّ لبنان بإرسال الجيش وقوات الأمن لتدمير حقول الحشيش، مع تشجيع المزارعين على زراعة محاصيل بديلة. إلّا أنَّ هذا لم ينجح في وقفِ تجارة المخدرات. في الواقع، كانت السلطات تلعبُ لعبةً مزدوجة. فمن ناحية، قبلت ضمنيًا استمرارَ تجارةِ المخدرات، معتبرةً إياها تعويضًا عن تهميش البقاع. ومن ناحيةٍ أخرى، حاولت أن تُظهِرَ للدول الأجنبية أنها تستجيبُ لمطالبها. وأصبح تدميرُ المحاصيل السنوية طقسًا شعائريًا، وإن كان فارغًا إلى حدٍّ كبير، سواء قبل العام 1975، عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، أو بعد انتهائها – من التسعينيات فصاعدًا حتى العام 2012 تقريبًا، وهو العام الثاني من الصراع في سوريا.
كان الفاعلون الرئيسيون في تجارة المخدّرات ينحدرون من عشائر البقاع الكبرى. ورُغمَ تمثيل هذه العشائر غالبًا في البرلمان، إلّا أنَّ خلفيتها الزراعية وعملها ضمن مناطقها حَدَّ من قدرتها على التأثير في السياسة في بيروت. وَفَّرَت العشائر الحماية لشبكات المخدرات وسمحت للمتاجرين بها بالاختباء من السلطات، بينما وَفَّرَت تجارة المخدرات فُرَصَ عملٍ وسمحت بتنميةٍ محدودة. بالنسبة إلى دولة لبنانية ضعيفة، غالبًا ما تتنقل بين الأزمات الوطنية والإقليمية، كانت تجارة المخدرات في البقاع مصدرَ إزعاجٍ يمكن إدارته والسيطرة عليه.
مع ذلك، خلال العقد ونصف العقد الماضِيَين منذ بداية الحرب الأهلية السورية، أدخلت تجارة الكبتاغون جيلًا جديدًا من تجّار المخدرات من أطراف البقاع، لم يكن يتألف من أعضاء العشائر الكبرى. لدى هذه الجهات الفاعلة انتماءات سياسية عابرة للطوائف، وقد تراكمت لدى أعضائها أرباحٌ أكبر -تكلفة إنتاج حبوب الكبتاغون أقل من دولار واحد ويمكن بيعها بما يصل إلى 20 دولارًا في أسواق الخليج العربي- والذين طوّروا قدرةً على التأثير في السياسة والأمن على نطاقٍ أوسع من تجار المخدرات العشائريين. تُظهرُ مسيرة اثنين من زعماء الكبتاغون، محمد رشاق وحسن محمد دقو، اللذين تم اعتقالهما ومحاكمتهما وإدانتهما من قبل السلطات اللبنانية، مدى قدرة التجارة على الإضرار بمؤسسات الدولة اللبنانية والعلاقات الإقليمية، وخصوصًا مع دول الخليج العربي، السوق الرئيسة للكبتاغون. إنَّ قدرةَ تجار المخدّرات (المهربين) على توسيع نفوذهم إلى ما هو أبعد من السياسة الطائفية والعشائرية وتطوير علاقات في مركز الحياة السياسية، مع تجنيد أعضاءٍ من الأجهزة الأمنية في عملياتهم، تؤكد التهديد الذي يشكلونه لاستقرار الدولة وسلامتها في وقت الأزمة المالية الداخلية والضغوط الاقتصادية الخارجية.
استفادَ مهرّبو المخدرات أيضًا من تطورات أخرى في سوريا ولبنان. وتشمل هذه التطوّرات العقوبات الأميركية على سوريا، من خلال قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، أو العقوبات التي فرضتها السلطات الأميركية في السنوات الأخيرة على أفرادٍ ورجال أعمال ومؤسّسات في لبنان. هذا ناهيك عن انهيار النظام المالي اللبناني في العام 2019، الذي سمح للبنوك المفلسة بمنع أو تقييد وصول العملاء إلى حساباتهم المصرفية، وكان من أهم نتائجه نمو الاقتصاد النقدي (الكاش). وفي حين أنَّ الطبقة السياسية اللبنانية كانت تعيش في الماضي على الرَيعِ من دول الخليج بشكلٍ رئيس، فقد تبدّدَ هذا الوضع إلى حدٍّ كبير مع تركيز هذه الدول اهتمامها على مجالات أخرى.
وَفَّرَ نموُّ الاقتصاد غير المشروع في لبنان مصدرًا بديلًا للتمويل، في بيئةٍ لا تزالُ حتى الآن ضعيفة التنظيم. وهذا يزيد من صعوبة كبح تجارة الكبتاغون، في حين أنَّ نفوذ شبكات الاتجار بالمخدرات قد يسمح لها بفَرضِ حقائق مؤسّسية وسياسية جديدة في لبنان وسوريا ما بعد الأسد. علاوةً على ذلك، فإنَّ هذه الشبكات، بما تجمعه من رؤوس أموال وروابط سياسية، قد تُعيقُ أيَّ انتعاشٍ اقتصادي أو انتقالٍ سياسي. سيُشكّلُ سقوطُ النظام السوري في كانون الأول (ديسمبر) 2024 تحديًا قصير المدى لشبكات التهريب، كونه كان مُنتِجًا رئيسًا للمخدرات. ومع ذلك، وبالنظر إلى قدرات الإنتاج الحالية على الجانب اللبناني من الحدود واستمرار الطلب في دول الخليج، قد يشهد لبنان زيادةً في تصنيع المخدرات في المستقبل. لذلك، ينبغي على دول المنطقة والدول الغربية السعي إلى معالجة هذا الخطر استباقيًا.
شبكات المخدرات العشائرية في لبنان ونظيراتها
مع أنَّ شبكات المخدّرات العشائرية وشبكات الكبتاغون قد تختلف، إلّا أنَّ العلاقة بينهما تكافلية في الغالب، وغالبية خلايا تجار الكبتاغون التي ألقت السلطات القبض عليها ضمّت أيضًا أفرادًا من العشائر. وتستغلُّ شبكات الكبتاغون الشبكات العشائرية الراسخة. منذ استقلال لبنان في العام 1943، انخرطت العشائر في شمال وادي البقاع، ومعظمها شيعية، بالإضافة إلى مسيحيين وسنّة، في زراعة وإنتاج وتهريب الحشيش والأفيون للبيع على الصعيد الوطني، بينما تعمل من خلال وسطاء لبيع مخدراتها إقليميًا ودوليًا. وعلى عكس الكبتاغون، يُعَدُّ إنتاجُ الحشيش والأفيون مشروعًا زراعيًا، مع سلسلةٍ طويلة من المُستفيدين تبدأ بالفلاحين. غالبًا ما أثرت الانتماءات السياسية لتجار المخدرات العشائريين والعنف الذي مارسوه في علاقاتهم مع العشائر الأخرى، بينما سعت الأحزاب السياسية والسياسيون في البقاع إلى التوسُّط في النزاعات وإدارة الصراعات، وهو دورٌ اضطلع به “حزب الله” بشكلٍ رئيس في الآونة الأخيرة.
تُوَفّرُ العشائر الحماية لأعضائها من غاراتِ الحكومة في منطقةٍ نائية نسبيًا تُعرَفُ باسم الجرود وتتميّزُ بسلسلةِ جبالٍ وَعِرة. غالبًا ما يعتمدُ تجار المخدرات على شبكاتٍ من مناطق البقاع الأخرى، ولا سيما البقاع الغربي، للعمل كوسطاءٍ في المبيعات إلى الأسواق الخارجية، وخصوصًا أميركا اللاتينية، حيث توجدُ اتصالاتٌ لهذه الشبكات. وقد أدى ذلك إلى تضييق هوامش الربح والحدّ من تأثير الشبكات العشائرية على السياسة والتنمية المحلّية. وعلى عكس أرباح تجارة الكبتاغون، فإنَّ أرباحَ تجارة الحشيش أكثر انتشارًا، مما لا يسمح بتراكُمِ رأسِ مالٍ كافٍ لكسب نفوذٍ سياسي أوسع. علاوةً على ذلك، تتسم سياسات العشائر بالجمود، والعلاقات العشائرية والصلات السياسية محددة مُسبقًا إلى حدٍّ كبير. إنَّ كثرةَ انخراط العشائر في صراعاتٍ دموية منحَ السياسيين أو الأحزاب أدوارًا رئيسة في المصالحة بينها، مما حدّ من نفوذها السياسي. واضطرَّ كبارُ تجار المخدرات إلى الخضوع للسياسات العشائرية، التي هيمن عليها منذ تسعينيات القرن الماضي الولاء ل”حزب الله” وسياساته المقاومة. ويحتكر “حزب الله” وحركة “أمل”، ا(لثُنائي الشيعي)، السياسة الشيعية، وقد حالا دون ظهور ممثّلين طائفيين بديلين، لا سيما في وادي البقاع.
تنحدر قيادة “حزب الله” وحركة “أمل” بشكلٍ رئيس من جنوب لبنان، مما زاد من تهميش البقاع المتخلّف من حيثُ التمثيل الشيعي والوطني. في البقاع الشمالي، لم يركّز “حزب الله” على تنمية المنطقة، بل على الاستجابة لمطالب العشائر الأكبر بمعالجة مصير أعضائها المسجونين بتُهم المخدرات. في الماضي، شنت الحكومة حملة قمع على إنتاج المخدرات من خلال تدمير حقول الحشيش قبل الحصاد أو اعتقال المتورطين في الاتجار، بينما غضَّ “حزب الله” الطرفَ عن ذلك.
ظلت هذه السياسة قائمة حتى العام 2012، حين حظيت الدعوات الشعبية لتقنين (قوننة) الحشيش بدعمٍ سياسي. أيّدَ كبار السياسيين، سواءً وزير الداخلية آنذاك مروان شربل، وهو مسيحي ماروني، أو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، تقنين الحشيش، مشيرين إلى المزايا المحتملة لتأمين إيرادات للاقتصاد الوطني المتعثّر، خصوصًا بعد أن شرّعت ولايتان أميركيتان الماريغوانا. خلال هذه الفترة، ظهر تجارُ الحشيش من عشائر معروفة، ولا سيما نوح زعيتر، على شاشات التلفزيون وساهموا في النقاش، داعين إلى قوننته. إنَّ غيابَ الإرادة السياسية للحد من تجارة الحشيش، فضلًا عن الركود الاقتصادي في لبنان والتأثير الاقتصادي السلبي للحرب السورية، كانت في الاعتبار في هذه المناقشات، حيث أظهرت الطبقة السياسية مرونة تجاه شبكات المخدرات.
بالتزامن مع هذا النهج، أيَّدَ “حزب الله” وحركة “أمل” وحلفاؤهما، نيابةً عن عائلاتهم، العفو عن مئات الأشخاص الذين سُجنوا بتُهَمٍ تتعلق بالمخدرات حتى العام 2020، ومعظمهم من عشائر شمال البقاع. لم ير العفو النور، إذ انشغل الحكم بمطالبات طوائف دينية لبنانية أخرى بإطلاق سراح أعضائها من السجن بتُهَم مختلفة. ونظرًا لتعقيد قضية العفو، فقد أُجِّلَ إلى أجل غير مسمى ريثما يتم التوصل إلى توافُق طائفي. ومع ذلك، لا يزال العفو خيارًا جادًا، وسيشمل تجار الكبتاغون. يرى “حزب الله” على وجه الخصوص في هذا فرصة لتعزيز دعمه في البقاع، لا سيما في ضوء الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمناطق الشيعية بسبب الصراع مع إسرائيل في 2023-2024.
لطالما أُشيعَ وافتُرِضَ أنَّ هناك روابط بين الطبقة السياسية اللبنانية والعشائر المتورِّطة في تجارة المخدرات، ولكنها ليست مسألة مَعرِفة عامة. كما إنها لا تشير إلى أنَّ العشائر استخدمت صلاتها لتعزيز مصالحها في المخدرات. على سبيل المثال، انتُخِبَ يحيى شمص، وهو سياسي من البقاع ومهرّب مخدرات مشتبه به، عضوًا في البرلمان في العام 1992. في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، أُلقي القبض عليه ووُجِّهت إليه اتهامات تتعلق بالمخدرات، والتي قضى بسببها فترة في السجن. أنكَرَ شمص التُهَم وقال إنَّ اعترافه تمَّ الحصول عليه تحت التعذيب. كان يُفترَضُ أنه كان تاجر مخدرات خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات. بعد إطلاق سراحه، ظلَّ شمص ناشطًا سياسيًا داخل عشيرته ومنطقته. ترشح في انتخابات العام 2018، لكنه لم يفز. ومع ذلك، لم تكن هناك أيُّ مؤشّرات إلى استغلاله منصبه البرلماني لتوسيع نفوذه أو تحسين العلاقات عبر الحدود لأغراض تجارية. في الواقع، اعتُبِرَ صعوده السياسي في التسعينيات مكافأةً لنجاحه المالي وعلاقاته مع كلٍّ من “حزب الله” وحركة “أمل”، وكذلك مع نائب “الملك السوري” الفعلي في لبنان آنذاك، اللواء غازي كنعان. خدم المنصب السياسي لشمص عشيرته، ولكن على ما يبدو لم يخدم مصالحها التجارية.
كرر هذا مثالَ سياسيٍّ وتاجر مخدرات بارزٍ آخر، وهو نايف المصري، الذي خدم في البرلمان خلال سبعينيات القرن الماضي. في العام 1970، استولت السلطات اليونانية على طائرةٍ في جزيرة كريت محملة بالحشيش، قيل إنها أقلعت من مهبطٍ للطائرات في أحد ممتلكات نايف في البقاع. وكان وزير الداخلية اللبناني آنذاك، كمال جنبلاط، قد اتَّهَمَ نايف بتهريب الأسلحة والحشيش والسجائر على متن طائرته الخاصة. ولكن، رغم قدرته على ذلك، ظلت موارد المصري ونفوذه محصورَين إلى حدٍ كبيرٍ في منطقته.
من أشهر شخصيات العشائر في تجارة المخدرات نوح ومنذر زعيتر، بالإضافة إلى أفراد من عائلتي شماس ومصري. وبينما اتُهِمَ نوح زعيتر، أبرز تجار المخدرات في البلاد، على نطاق واسع بالاتجار بالكبتاغون، إلّا أنه نفى هذه التهم، معترفًا بتجارة الحشيش. ومع ذلك، فقد أُلقي القبض على أفرادٍ من عشيرة زعيتر في عمليات ضد شبكات الكبتاغون. تقتصر صلات نوح زعيتر السياسية في الغالب على الحزبين الشيعيين المهيمنَين، “حزب الله” وحركة “أمل”. وقد تضمّنت هذه الصلات مظاهرات دعم صريحة من جانبه، لا سيما خلال الصراع في سوريا، عندما ظهر زعيتر في مواقع عسكرية تابعة ل”حزب الله”، مؤيدًا الحزب والرئيس السوري آنذاك بشار الأسد علنًا. ومع ذلك، فبعيدًا من الأحزاب الشيعية، لا توجد دلائل تُذكَر على أنَّ زعيتر يتمتع بصلاتٍ ونفوذٍ على الحياة السياسية أو الأجهزة الأمنية في لبنان. ولا يزال مطلوبًا للعدالة، على الرغم من أنَّ الحكومة لم تُحاول جديًا اعتقاله بسبب صلاته ب”حزب الله”، ولا يزال يظهر بانتظام في وسائل الإعلام.
تتجاوز شبكات الكبتاغون في لبنان الحدود بطريقة لا تفعلها الشبكات العشائرية. فعلى عكس عشائر البقاع، يميل كبار تجار الكبتاغون إلى الانتماء إلى عائلات أصغر وبلدات حدودية هامشية، ولديهم صلات قوية على جانبي الحدود مع سوريا. بعضهم يحمل الجنسيتين اللبنانية والسورية. كما إنهم تجاوزوا خطوط الصدع السياسية وعزّزوا مصالح متوازية بين مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة مقارنةً بالمتاجرين العشائريين، حيث بنوا علاقات في لبنان وسوريا وكذلك مع المتاجرين العابرين للحدود الوطنية. ويبدو أنَّ المتاجرين لا يهتمون كثيرًا بالانخراط المباشر في الحياة السياسية من خلال تأمين مناصب سياسية لأنفسهم في مؤسسات الدولة، كما إنهم لا يظهرون في وسائل الإعلام. ومع ذلك، في الوقت نفسه، فإنَّ قدرتهم على إيجاد متعاونين في الأحزاب اللبنانية الرئيسة، مثل “حزب الله”، وفي قوات الأمن هي سمة جديدة وأكثر إثارة للقلق في سلوكهم مقارنةً بتجار المخدرات العشائريين.
إنَّ شبكات الكبتاغون عالمية إلى حد ما، إذ لا تقيد مشاركة أفراد العشائر، وتوظف لبنانيين وسوريين على حد سواء. وقد أظهرت التحقيقات مع تاجرَي الخدرات رشاق ودقو أنهما وظّفا أفرادًا من العشائر، وإن لم يكونوا من عشيرة واحدة كما هو الحال في شبكات الحشيش أو الأفيون. وهناك مزايا في توظيف أفراد العشائر، إذ يُوسّع ذلك نطاق نفوذ شبكات الكبتاغون إلى مناطق أخرى، مع الحفاظ على استقلاليتها عن الولاءات السياسية للعشائر. كما يوفر مرونة، إذ يُرجّح أن يشمل أي عفو محتمل أفراد العشائر الذين يُعتقلون، في النظام اللبناني متعدد الطوائف، والذي يميل إلى أن يشمل سجناء من جميع الطوائف الدينية. وقد أتاحت هذه المرونة للمتاجرين الحفاظ على علاقات مع مجموعة واسعة من القوى السياسية أو الاجتماعية، التي غالبًا ما تكون متعارضة، مما يُبقي خيارات شبكاتهم مفتوحة. في حالة رشاق، كان يقيم في منطقة أدما ذات الغالبية المسيحية، بالقرب من جونيه، حيث يتمتع حزب “القوات اللبنانية” (وهو خصمٌ رئيس ل”حزب الله”) بنفوذ وحيث تتمركز قوات الأمن اللبنانية. وقد أظهر هذا ارتياحه في التعامل مع النظام الطائفي اللبناني المعقّد. من الصعب تصور تاجر مخدرات من عشيرة البقاع يتصرف بطريقة مماثلة.
يؤكد القضاة والمحامون والمسؤولون المحليون أنه في العقد الماضي كان هناك تحول في تجارة المخدرات من الإنتاج العشائري والاتجار بالحشيش والأفيون إلى إنتاج الكبتاغون. تتطلب تجارة الكبتاغون خبرة أكبر في الاتجار ومجموعة أوسع من العلاقات، وقد اكتسبت زخمًا خلال الصراع السوري. وقد استفادت من طرق وشبكات الاتجار بالحشيش والأفيون القائمة في المناطق الحدودية، ثم اعتمدت على صلاتها السياسية والأمنية والعابرة للحدود الوطنية لإكمال الدورة. وفي قضية دقو، على سبيل المثال، أظهرت روايات استجوابه تورُّطه في شحنات دولية وفي إنشاء شركات وهمية. وعلى الرغم من أنَّ التجارة جعلت رشاق ودقو ثريين، فإن علاقاتهما مع عشائر المنطقة لم تتحوَّل إلى عنف، وهو ما كان ليضر بتجارة الكبتاغون، نظرًا للقوة العسكرية للعشائر وقدرتها على التعبئة.
يُمكنُ إرجاعُ غيابَ العنف بين الطرفين إلى عاملَين. الأول هو قرار الحكومة اللبنانية في العام 2012 بوقف عمليات التدمير السنوية لحقول الحشيش والأفيون، مما ساهم في استدامة تجارة كافية للجميع. وقد بُرِّرَ هذا القرار أساسًا كإجراءٍ للتخفيف من الأثر الاقتصادي السلبي للصراع السوري على منطقة الحدود اللبنانية الهشّة اقتصاديًا. أما العامل الثاني فهو انضمام أفراد من العشائر إلى شبكة الكبتاغون والتداخل بين مختلف جوانب العمل – التصنيع والاتجار والتوزيع المحلي. ووفقًا للمعلومات المُقدّمة خلال اعتقال خلايا الاتجار، يضم كل جانب من جوانب العمل ممثلين عن مختلف الشبكات المتورّطة في الاتجار. ويحافظون على علاقاتهم مع العشائر في المناطق الحدودية ويديرونها، وهو أمرٌ لا يقلُّ أهمّية عن وجود روابط سياسية.
ومن بين المتورّطين في هذه الشبكات أفراد تابعون ل”حزب الله”. وفي حالتين، تم القبض على أفراد مرتبطين بالحزب، بمن فيهم شقيق النائب السابق حسين الموسوي، لدورهم في تصنيع الكبتاغون، في حين قيل إنَّ مؤسسات مثل الحوزات الدينية التابعة ل”حزب الله” في البقاع تحتفظ بمخزونات من المخدرات. وأشارت تحقيقات لاحقة إلى الحزب باعتباره وسيطاً في نقل المخدرات إلى منطقة الحدود وجنوب سوريا. هذه الأدلة، وإن لم تكن قاطعة كما في حالة النظام السوري، إلّا أنها كانت كافية لربط” حزب الله” بتجارة الكبتاغون في النقاشات العامة حول المخدرات.
تكشف المعلومات المتعلقة بتاجرَي الكبتاغون اللذين أُلقي القبض عليهما، رشاق ودقو، كيف أنَّ هذه الفئة الجديدة من التجار أكثر تطورًا في طريقة إدارتها لعملياتها من التجار العشائريين، سواءً في رؤوس الأموال التي يمكنهم جمعها أو في علاقاتهم السياسية والأمنية. ينحدر رشاق، البالغ من العمر 62 عامًا، من بلدة فليطا السورية، الواقعة بالقرب من الحدود مع لبنان. حافظ سكان فليطا، كغيرهم من سكان العديد من البلدات الواقعة على طول الحدود اللبنانية-السورية، على علاقات مع الجانب اللبناني، وتحديدًا مع أقارب بعيدين من عائلات كبيرة في عرسال، وهي بلدة حدودية ذات غالبية سنّية في شمال شرق البقاع. وقد أدى غياب الرقابة الصارمة على الحدود منذ الاستقلال والتضاريس الجبلية المحيطة بفليطا إلى تحويلها إلى مركز تهريب لطالما احتُفي فيه بالروابط والعلاقات عبر الحدود. اكتسب رشاق شهرة واسعة بفضل قدرته على العمل انطلاقًا من عرسال، التي كانت مركزًا لجماعات المعارضة السورية، وتحديدًا “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، والمعروفة اليوم باسم “هيئة تحرير الشام”، والتي انفصلت علنًا عن “القاعدة” في العام 2017. وفي العام 2013، أصيب أفرادٌ من عشيرة الحجيري الكبيرة في البلدة أثناء دفاعهم عن رشاق ضد محاولة اختطاف. وقد أبرز هذا أهميته، على الرغم من أنه كان مهرّبًا سوريًا في بلدة لبنانية. وفي الوقت نفسه، كان رشاق معروفًا أيضًا بعلاقاته مع “حزب الله”، الذي زوّده بمكوّنات لتصنيع الكبتاغون. ولم تكن قدرته على إدارة علاقات متناقضة أمرًا غير شائع خلال هذه المرحلة من الحرب في سوريا المجاورة، نظرًا لمستوى العنف وانعدام الأمن على الجانب اللبناني من منطقة الحدود.
حسن دقو، المولود في العام 1978، ينحدر من خلفية فقيرة. ينحدر أيضًا من بلدة طفيل الواقعة على الحدود السورية-اللبنانية، حيث يُعد التهريب نشاطًا اقتصاديًا رئيسًا لكثير من الناس، بمن فيهم والده. ورغم وجود طفيل في لبنان، إلّا أنها كانت أكثر ارتباطًا بالجانب السوري من الحدود، وقد تمَّ تجاهلها تاريخيًا نظرًا لموقعها. بدأ دقو ببيع الساعات في الشارع، لكنه وسّع أنشطته تدريجًا لتشمل سلسلة من الأعمال التجارية، بما في ذلك امتلاك مصنع مبيدات حشرية في الأردن، ومعرض سيارات في سوريا، وأسطول من شاحنات الصهاريج. سمحت له ثروته المتنامية بشراء عدد كبير من العقارات في بيروت ووادي البقاع. وفي استجوابه ومحاكمته، تحدث دقو عن صلاته بالفرقة الرابعة المدرعة النخبوية في الجيش السوري، والتي كان يقودها شقيق بشار الأسد، ماهر، فضلًا عن المساعدة التي قدمها ل”حزب الله” أثناء الصراع السوري. كما ذكر الدور الذي لعبه في مساعدة جهاز الاستخبارات التابع لقوى الأمن الداخلي اللبناني، المعروف باسم فرع المعلومات.
الحلقة الثانية تُنشَر يوم غد: شبكات الكبتاغون والتهديد الذي تواجهه الدولة اللبنانية.
- مهند الحاج علي هو نائب مدير الأبحاث في مركز مالكولم هـ. كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يركز عمله على الجغرافيا السياسية المتغيرة والجماعات الإسلامية بعد الانتفاضات العربية.