سوريانا، على طريق الجُلجُلة، فلا تقترعوا على ثيابها!

الدكتور فيكتور الزمتر*

من أنعامِ الله على الجنسِ البشري أنْ حباهُ بِمَلَكَة الوِجدان، تلك النعمة التي تؤهِّلُ الإنسانَ، أيًّا كان عِرقُه أو دينُه أو ثقافتُه… أن يختزنَ من المعارف، على تنوُّعها، ومن العواطف، بحُلوها ومُرِّها، ومن المشاعر، بفرحها وحزنها، ومن الأفكار، التقليدي منها أو التجديدي … لتُصقِلَ طِباعَه بحيث تكونُ له المِعجَن الذي تختَمِرُ فيه رُؤاهُ، قبل أن تُتَرجَمَ بمواقفَ وأفعالٍ.

والوِجدان، من منظورِ مؤسِّس علم النفس التحليلي، طبيب الأعصاب النمساوي “سيغموند فرويد” (Sigmund Freud) (1856-1939) هو العقلُ، بجناحيه الواعي واللّا واعي، الذي يسمحُ للمرء بالتفاعُل مع دينامية الحياة في بيئته اللّصيقة. فوِجدانُ الفرد هو ما يستبطنُه من مشاعر الحبّ والكراهية، من اللذَّة والألم، من التعاطُف والنفور…

وفي حين يبدو أمرُ تفاعُل الفرد، حيال أحداث بيئته، متروكًا لإرادته الشخصية، من الوُجهة المبدئيَّة، إلَّا أنَّ تفاعُلَ غالبية الأفراد يتَّسقُ مع توجُّه البيئة العام. فانضباطُ الفرد الفطري مع التوجُّه العام يُشكِّلُ العقلَ الجَمعي، المُرتكزَ على فرضية أنَّ رأيَ الجماعة لا بُدَّ أن يكونَ الأصحّ، وإنْ انطوى الرأيُ المُجْمَعُ عليه على هرطقاتٍ أو أضاليل! وهذا ما يُسمّى بظاهرة “سلوك القطيع”.

لا تهدفُ هذه المقدّمةُ إلى الغوص في علم النفس ولا، قطعًا، في علم الإجتماع، بل للتدليل على أثر الموروثات في حياة البشر. فبقدر ما يكونُ هذا الإرثُ راسخاً في الوِجدان الجَمعي، بقدر ما يبقى عصيًّا على التطوُّر والتجديد.

فشعوبُ الشرق الأوسط لا تُمثِّلُ استثناءً لثابتة استعصاء التحرُّر من موروثات الأجيال السابقة. فالمَوروثُ الجَمعي، لا سيَّما الديني والمذهبي، لا يزالُ يُمسِكُ بخناق أديان ومذاهب هذه المُكوِّنات المُجتمعية، في منطقةٍ هبطت فيها الرسالات الروحية، المُتنوِّعة في الشكل، والمُوحِّدة في الجوهر، بدون أن تفي بأغراضها السامية في ترويض الأحقاد وتهذيب الأنانيات، وفي إرساء روح التآخي والتراحُم بين القبائل والعشائر والأعراق.

فمُنذ فجر التاريخ، وأرضُ النُبوَّة نَهْبٌ لشريعة “قايين” المُتحكِّمة بغرائز الأنانية والتعصُّب والإنفعال، على حساب منطق الحوار والإصلاح والتطوُّر، بما يتماهى مع مسار التنوُّر والحداثة.

فعلى صعيد العالم العربي، ما زالت مُكوِّناتُه المُجتَمَعية، العرقية والدينية والمذهبية والثقافية … أسيرةَ عصبيّاتها ومحدودية فهمها للإيمان. وفي هذا السياق، يلعبُ رجالُ الدين، لا سيَّما أئمَّة الفقه، دورًا محوريًّا في تفسيرِ النصوص الدينية، وِفقَ مِنظارٍ بشريٍّ يولي الصدارةَ لدينٍ أو لمذهبٍ معيَّنٍ، على حساب نُبل الإيمان بشرائع الأخلاق الواحدة، لدى جميع الديانات والمذاهب.

وهكذا بقيت الأعراقُ والطوائفُ والمذاهبُ تغرفُ من معين الأنانية والتفرُّد والتمايُز … ما رسَّخَ توجُّسَها من بعضها البعض، فاستحالَ توحُّدُها بقدر ما حالَ دون استلحاقها بركب التطوُّر الذي بلغته الشعوبُ الواعية. وما يُساقُ على مُكَوِّنات العالم العربي، ينسحبُ أيضًا، إنْ لم يكنْ بنسبةٍ أكبر، على الشعب الإسرائيلي، المُضَمَّخ الوِجدان بالتراث الديني اليهودي، من حيثُ إنَّ التوراةَ والتلمودَ يُمثِّلان عمودَيّ الحكمة والهداية في الإيمان، وإنْ أدَّيا وظائفَ مُتمايزة.

فالتلمودُ هو المصدرُ الأساسُ للدين اليهودي، لجهة كونه مجموعة من تعاليم ومُناقشات وتفسيرات وتعليقات الحاخامات على نُصوص التوراة، المُعتبرَة “كلمةَ الله” الموحى بها إلى النبي موسى على جبل سيناء.

وعليه، لا يُمكن تفسيرُ ما تعيشُه منطقةُ الشرق الأوسط بمعزل عمّا تنضحُ به مُكوِّناتها من مكنونات الوِجدان العاصي على التخفُّف من أدران وأثقال أزمنة التناحُر والتباغُض، مُنذ العهد الكنعاني إلى اليوم. ولم يكنْ بوِسع أُممٍ وشعوبٍ غريبةٍ أن تتعاقَبَ على إقامة الممالك والإمبراطوريات لحكم هذه المنطقة واستغلال مواردها، لو لم يكن التنابُذ قائمًا بين أقوامها وقبائلِها وعشائرِها.

وفي الوقت الذي تترنَّحُ الأوضاعُ في أكثر من صقعٍ عربيٍّ، من الصومال إلى السودان إلى ليبيا، مُرورًا بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وُصولًا إلى اليمن “غير السعيد”، تعيشُ إسرائيلُ عصرَها الذهبي، بسبب تشرذُم مُحيطها العربي، أوَّلًا، وبفضل براعتها في تسويق قضيتها لدى الدول الفاعلة، ثانيًا، وبالخصوص جرّاء تماسُك وحدتها حول أمنها الوجودي.

إنَّ أحدثَ مثالٍ على ما تقدَّم هو ما يلفُّ الساحةَ السورية، راهنًا، من نُذُر الشؤم، بالرُّغم ممّا رافقَ انهيار نظام الأسَدَين من بشائر التغيير نحو الأفضل. ففي الوقت الذي غرقت الساحات السورية برايات النصر المؤزَّر، وسط تساؤلات لا مُتناهيةٍ حول هروب بشار الأسد، انبرت إسرائيل، الساهرة على مصيرها، باحتلال المنطقة العازلة في الجولان، وفق اتفاق فكِّ الإرتباط، الموقع في العام 1974، مُستتبعةً ذلك بتنفيذ عشرات الغارات الجوية على المُنشآت السورية، والتي أفضت إلى تدميرٍ مُمنهجٍ لكامل ترسانتها العسكرية. لقد حصلَ ذلك، دون أن يُشير الإعلام العربي، ولو بكلمة واحدةٍ، إلى الفكر البراغماتي الإسرائيلي، الذي نفَّذَ مُخطَّطاتٍ موضوعةً سلفًا، بما يتناغَمُ مع مُستجدّات الوضع على الأرض، كي لا تضيعَ الفُرصةُ السانحةُ! فأينَ هو العالمُ العربيُّ، المُستكين “لقاعدة ردَّة الفعل” من هذا الفكر الإسرائيلي النبيه، القائم على “قاعدة الفعل” والتخطيط المُسبَق؟

لطالما تَحصَّنَ العربُ بمقولة التآمُر الخارجي، إستقالةً من المسؤولية، وهذا بالضبط ما يجعلُ بيئتَهم خصبةً لتمرير المؤامرات.

فبلادُ الشام، أغنى دول المُحيط بالأعراق والأديان والمذاهب، فشلت في صهر مُكوِّناتها المُجتمعية في بوتقةٍ وطنيَّةٍ، لا تُعلي شأنَ مُكوِّنٍ على حساب آخر. فلطالما اتُّهِمَ الأكرادُ بالتمرُّد، في الشمال، سعيًا إلى الإستقلال والتحرُّر من سياسة الإستبعاد. كما يتناوب العلويون والسُنَّة على اتهام بعضهم البعض بالعَسْفِ والتفرُّد والتسلُّط. كذلك الحال، بالنسبة إلى الدروز في الجنوب، حاليًّا، حيث يتراوحُ اتهامهم بين خطب ودّ إسرائيل لحمايتهم، وبين السعي إلى إقامة جمهوريتهم. أمّا المسيحيّون، فلا يُفارقُهم القلقُ على مستقبلهم، أيّا كان الحاكمُ!

بعد تسعة أيّامٍ على أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، كشفَ الجنرال الأميركي المُتقاعد، “ويسلي كلارك”، في العام 2007، أنَّ إدارة الرئيس جورج بوش (الإبن)، وضعت مخطَّطًا لتدمير سبع دُوَلٍ، خلال خمس سنواتٍ، هي: سوريا، لبنان، العراق، الصومال، السودان، ليبيا وإيران. فها قد تمَّ، بشكلٍ أو بآخر، تنفيذُ المُخطَّط التدميري في ستِّ دُوَلٍ عربيةٍ، من الدُوَل السبع، المُعنونة على قائمة البنتاغون. ويبقى سيفُ استهداف إيرانُ مُصلّتًا مع وقف التنفيذ، رغبةً من الرئيس ترامب في احتواء طهران، طمَعًا بشراكةٍ اقتصادية، مقابل صرف النظر عن إسقاط نظامها، بالرُّغم من استشراس تل أبيب لجرِّ واشنطن للإجهاز على نظام الملالي.

قرونٌ تتالت على هذه المنطقة وقُروحُ انقسامات شعوبها لم تَعرِف الإندمال. عهودٌ تعاقبت وسُلالاتٌ تناوبت على الحُكم، بدون أن تنجحَ في إرساء معاني الرسالات السماوية في التحابُب والتآخي والتعاون! أجيالٌ ترِثُ جهلَ أسلافها بأنَّ التنوُّعَ آيةٌ من آيات الخالق، هو مصدرُ غنىً وتكاملٍ، لا مصدر تنافُرٍ وصراعٍ. فها هي الصين، موطنُ أكثر من خمسين من الأعراق، خلال نصف قرن، حوَّلت بلادَها الفقيرةَ المُستباحة، في ذاتِ غفلةٍ، إلى لؤلؤةٍ عزَّ نظيرُها!

فالويلات المُتناسلة، التي تعيشُها شعوب الشرق الأوسط، ليست سوى نِتاج تمزُّق نسيجها المُجتمعي، على قاعدة الطائفية والمذهبية، ما حرمَها من قيام دُوَلها الوطنية.

فمتى ينتصرُ الولاءُ للوطن على الولاء القبلي والعرقي والطائفي والمذهبي، في دُنيا العرب؟

وهل كُتبَ على شعوب أرض النُبُوَّة أنْ تبقى عصيَّةً على إرادة أنبيائها ورُسُلها، تأبيدًا لبقائها فريسةَ التناحُر؟

Exit mobile version