اعترافات بيتهوفن (3 من 8)

كان يكرهُهُم فبادلوه بكُرهٍ أَقسى

هنري زغيب*

إِنه نصٌّ فرنسيٌّ للكاتب اللبناني الفرنكوفوني المحامي اسكندر نجَّار، كان صدر كتابًا في بيروت لدى منشورات L’Orient des livres. تمَّ إِطلاقُهُ ضمن “مهرجان البستان 2020” في الاحتفاليةٍ الخاصة: “أُمسيات باريس”، على “مسرح إِميل البستاني” مساءَ الأَربعاء 26 شباط/فبراير 2020 بأَداء الممثِّل الفرنسي جان فرنسوا بالمير Balmer قراءةً النص، وعبدالرحمن الباشا عزفًا على الـﭙـيانو.

ومساء التاسع من آب/أغسطس 2022، تَمَّ إطلاقُ النص بالعربية على مسرح “مونو” – الأَشرفية، بأَداء الممثل بديع أَبو شقرا قراءةً النص، والفرنسي نيكولا شوڤرو Chevereau عزفًا على البيانو. وصدرَ النص العربي كتابًا لدى “منشورات سائر المشرق”.

سأَقتطف من تلك “الاعترافات” مقاطعَ موجزةً على 8 حلقات مختَصَرة.

هنا الحلقة الثالثة.

كيف نشَأْتُ أَكرَهُ الناس

سنة 1802 كتبتُ إِلى شقيقَيَّ رسالةً أَشرحُ لهما فيها أَنَّ صمَمي يرهقُني حتى بتُّ أَكره كل الناس. وهو ما باتوا ينعتونني به.

ومما كتبتُ في رسالتي: “يا مَن تجدونني حاقدًا، عنيدًا، كارهًا كلَّ الناس، وبِذا تعاملونني: كم أَنتم مُـجحفون! تجهلون الـخفِيَّ بـي ومسبِّبَ ما تَرَوْن. لا تعرفون أَنَّ مرَضًا خبيثًا أَصابني منذ سنواتٍ ستٍّ، ضاعفَ من ضرره أَطبَّاءُ جهَلة. وسنةً بعد سنةٍ، رحتُ أَيْأَسُ من تَـحَسُّن سَـمْعي، فقرَّرتُ الانعزالَ باكرًا، والعيشَ في وِحدةٍ مغلَقَة، بعيدًا عن الناس…“.

هكذا، في مَيلي إِلى الوِحدة والصمْت، انطويتُ على ذاتي. فمزاجي، فعلًا، بات مزعجًا: تلك خادماتٌ كثيراتٌ فرَرنَ من بيتي، هَرَبًا من تَقَلُّباتِ طبعي، وقسْوةِ نَعتي إِيَّاهنَ “مُشَعْوِذاتٍ خبيثات”، واتهامِي إِيَّاهنَّ بسرقتي مدفوعًا بشكُوكي حيالهنَّ غير مبرَّرَة.

حاليًّا، بتُّ أَتنقَّل كثيرًا. وحيثما أَسكُن، يتحوَّلُ بيتي مستودَعًا فوضويًّا مزعجًا، أَطرُدُ منه زوَّارًا مزعجين وأَطبَّاءَ جهَلة.

من تصرفاتي الغريبة الشاذَّة

سَكِرْتُ كثيرًا. أَهرَقْتُ كمّياتٍ من الخمر في كُؤُوسٍ بلَّورية. لكنَّ الخمر لم يُنْسِني همومي، بل حوَّلَني مُدْمِنًا حتى النَزَق.

خاصمْتُ جميع أَصدقائي، وشكَكْتُ في مَن هادَنوني متَّهمًا إِياهم بأَنهم استغلاليون طُفَيليُّون.

ناسخو مخطوطاتي يتحمَّلون غضبي وثوراتي وانفعالاتي وصواعقي، حين يصعُب عليهم تفكيكُ خربشاتي وخطّي غيرِ المقروء.

ناشرو مؤَلَّفاتي يتجنَّبُونني، منذ بعتُ مرةً خمسةَ ناشرين معًا معزوفةً واحدة. دافعتُ عن ذلك، بأَنني “لستُ رجلَ أَعمال، والتنافُس يدفعني إِلى ذلك”. لكنني عارفٌ تمامًا أَنها حجَّة ضعيفة.

أُكرِّر: سببُ مِزاجيَ النَفُور المزعج هو صمَمي الذي أَصابني مذ كنتُ في السابعة والعشرين. وكيف لا أَكونُ نَفُورًا مزعجًا، والموسيقى شغَفي ومصدرُ رزقي؟ جاء يومٌ ضعُفَ فيه سمْعي، فلم أَعُدْ قادرًا على الاستماع جيِّدًا إِلى رهافةِ الآلات والأَصوات. يُهنِّـــئُــني الناس ولا أَسمع ما سمعوا حتى يهنِّئوني. يظنُّونني متكبرًا، أَو فَظًّا، حين أَستفهمُ منهم وأَنا مُقَطَّبُ الجبين: “نعم؟ ماذا قُلتُم؟”

هكذا فقَدْتُ ثقتي بـي، حتى بتُّ أَتردَّد كثيرًا في العزف على الـﭙـيـانو أَمام الجمهور، وأَخشى قيادةَ الأُوركسترا  كي لا أَبدو مضحكًا عند كثير تَعَـثُّري.

عقْدةُ حضوري في الصالة

في صالة المسرح يصيبُني الـهَمُّ ذاتُه: أَجلس قريبًا من الخشبة ،كي أَفهمَ ما يقول الـممثِّلون.

في الحفلات الـموسيقية، أَتظاهر بالإِنصات الطبيعيّ، لكنَّ إِعاقتي البائسةَ تفضَحُني. أُحاولُ إِرهافَ الإِنصات، والتركيزَ أَكثر، فأَضع في أُذنـيَّ مساميعَ مـختلفة، أَو قُطْنًا كي أُخفِّف من وقْع الطنين القويّ على سَـمعِيَ الضعيف. أَمُدُّ إِلى خشبة الـﭙـيانو قضيبًا خشبيًّا أَضَعُهُ بين أَسناني كي تَصِلَني ذبذباتُ الصوت، أَو أَبتُرُ قاعدةَ البيانو كي أَتحسَّسَ عَزْفها من نبض الأَرض.

… ولم ينفعني شيْءٌ من كلّ ما كنتُ أَفعلُه.

رحتُ أَستسلمُ إِلى مخاطبةِ الناس حَولي بكتابتي على دفاترَ خاصةٍ، يكتب عليها مُــخاطِـبِيَّ كلماتِهم التي لا أَسمعها لو قالوها لي شفاهةً.

أُحسُّني كمَن يضمُّ في يده حفنةَ ماءٍ، فتــتسلَّل بين أَصابعه وتَتسرَّب وتـختفي. هكذا، في عمق يأْسي، أَشعُرُ أَنَّ حاسةَ السـمْع – وهي الأَداةُ الأَغلى في عملي – تتسلَّل مني وتَـختفي، وأَتأَكَّدُ أَنَّ صَمَمي الـمتزايد لا أَملَ من شفائه.

أَمضيتُ حياتي أُؤَلِّفُ الموسيقى، أُرقِّصُ النوطات، أُخَلِّدُ أَنغامًا وحركاتٍ موسيقيةً، أُدَوِّنها كي لا تتسلَّل مني. ولكنَّ الـﭙـيانو يَـخونني.

كيف أَتحدَّاني؟

إِلى متى أَتظاهَر بشُرودٍ، أُخفي به عجزي عن تحيَّتي جمهورًا يصفِّق لي وراءَ ظهري، ولا أَسمعُه؟

كلُّ هذا… أَلَا يبرِّر مزاجيَ النَفُورَ وطبْعيَ النَزِق؟

مع ذلك تَـحدَّيتُ يأْسَ الانهيار، وقرَّرتُ أَن أَتَـجاوَزَ إِعاقتي، فأُوَاصلَ التأْليفَ طالـما أَنني أَبنيه في فكري، وأَسمعُه في داخلي. وأَقْنَعْــتُني: “لا تَعِشْ بعد اليوم إِلَّا لفنِّك. وَهْنُ حواسِّكَ حدَّ من أُفُقِكَ المحدود، فاجعَلِ الـموسيقى أُفْقَكَ اللامـحدود”.

منذ بُلوغي تلك القناعةَ، رحتُ أَتقدَّمُ ضدَّ اليأْس. ضاعفتُ من عملي في التأْليف: سمفونياتٍ وسوناتاتٍ ورباعياتٍ وكونشرتُوَات.

هكذا، سنة 1806 وحدها، وضعتُ السمفونيا الرابعة، وصمَّمتُ للخامسة والسادسة، وأَنْـجزْتُ كونشرتو الكمان والأُوركسترا، وأَلَّفتُ رابعَ كونشرتو للـﭙـيانو والأُوركسترا، وثلاثَ رباعياتٍ للوتريات، والسوناتا 23 التي سمّيتُها “الشَغُوفة”.

هكذا استسلمتُ إِلى قدري، واعتمدتُ مبدأ: “الانصياع-الإِذعان-الإِذعان”.

كان عليَّ أَن أَتقبَّلَ عاهتي، فأَجني منها حصادًا معنويًّا، حتى أَكونَ جديرًا بـمغفرة الله.

الحلقة المقبلة: فَشَلي مع النساء.

Exit mobile version