الدكتور ناصيف حتّي*
في خِضَمِّ الأزماتِ السياسيّة والاقتصاديّة مع تداعياتها المُختلفة على المُجتمعات التي تُعاني من هذه الأزمات، سواء في عالم الشمال أو عالم الجنوب أو غيرهما، ولو اختلفت درجة الحدّة بين مُجتمعٍ وآخر لاختلافِ الظروف الموضوعية بينها: الظروفُ التي تُغذّي هذه الأزمات وتتغذّى منها وعليها، يُصبِحُ الحوارُ، أو معرفةُ الآخر بشكلٍ أفضل، أمرًا أكثر من ضروري. ويَتَّفِقُ الكثيرون على أنَّ العَولَمة الجارفة هي إحدى أهم العوامل وراء هذه الأزمات، ولو استمرَّ الاختلافُ حولَ درجةِ تأثيرها. ولا بُدَّ هنا من التذكيرِ أنَّ الظروفَ الموضوعية الخاصة بكُلِّ بلدٍ، وبكيفية التعامل مع إدارة التحدّيات التي يواجهها البلد المعني، هي المسؤولة بشكلٍ أساسي عمّا تَؤولُ إليه الأوضاع في هذا البلد أو ذاك. من مظاهر رُدودِ الفعل المجتمعية بشكلٍ عام، والسياسية بشكلٍ خاص، تَصاعُدُ قوة ودور العقائد والمواقف السياسية المُتَطَرِّفة التي يُمثّلها اليمين المُتشدّد والعنصري في مُجملِ أطرافه وقواه السياسية، كما تشهدُ أوروبا حاليًا، وهي ليست وحدها بالطبع.
الاختزالُ والتَعميمُ والتَبسيطُ هي الثُلاثية الرئيسة التي تُشَكّلُ وتَحكُمُ رؤيةَ هؤلاء للآخرين المختلفين في اللون أو الدين أو العرق أو الهوية الأصلية بشكلٍ عام. أزماتٌ مُعَقَّدة في عناصرها، بعضها بُنيَوي وبعضها الآخر ظرفي رُغمَ شدّتها. ولكن هذه الرؤية المُتَشَدِّدة والاختزالية في تشخيصِ “المرض” لا تُقدِّمُ الحلولَ الناجعة. إنها رؤيةٌ تُعبِّرُ بأشكالٍ مختلفة وبشكلٍ تبسيطي عن المخاوف من غياب الحلول الفعلية، والتي بالطبع لا تندرجُ في عناوين المخاوف التي يحملها أصحابُ هذه الرؤية. سياساتُ ودعواتُ الانغلاقِ والانطواءِ، ورَفضُ التعاون التعدُّدي، وتحميلُ فشله أو عدم تحقيق الأهداف المطلوبة منه للقراءة التي تُقدِّمها هذه الرؤية التبسيطية والمتشدّدة يزيد من حدّة المشاكل والأزمات.
إنَّ فشلَ أو قصورَ بعضِ أوجُه أو مجالات التعاون المُتعدّد الأطراف بهندسته المختلفة، كما نجد في الأُطُر والمؤسّسات الدولية والإقليمية المَعنية، لا يعني أنَّ مبدأَ التعاون المُتعدّد الأطراف هو المسؤول عن ذلك الفشل، بل إنَّ سياساتٍ مُعَيَّنة أو عدم وجود توافقات فعلية، وليس فقط في العناوين، هو المسؤول الحقيقي عن غيابِ النجاح أو الفعالية المطلوبة في التعامُل مع التحديات المشتركة .
في “القرية الكونية” التي نعيشُ فيها، والبعضُ يُفضّلُ تعبيرَ “المدينة الكونية”، باعتبار أنها أدقُّ في وَصفِ عالم اليوم بسبب درجة الصخب والاختلافات والتنوُّع وعدم معرفة الآخر وكلّها تُشكّلُ معاييرَ تُميِّزُ حياة المدينة عن حياة القرية، من الضروري العمل على بلورة ثقافة الحوار لمعرفة “الآخر” الذي عليك التعامل معه وبناء الجسور معه. فالحوار لا يعني بالضرورة التفاهُم الكُلِّي بل معرفة الآخر والعمل على البناءِ على المُشتَرَك وتعزيزه من جهة، وإدارة الاختلاف واحتوائه من جهةٍ أخرى. فالحوارُ بين الثقافات، أو كما يُقال بين الحضارات، والذي جاءَ كردِّ فعلٍ على نظرية “صدام الحضارات” لصامويل هانتغتون، أمرٌ أكثر من ضروري خدمةً للاستقرار في العلاقات بين الدول وبين المجتمعات المختلفة، ولتعزيز هذا الاستقرار. ذلك كله يستدعي تعزيز ثقافة الحوار أوّلًا ضمن أبناء المجتمع الوطني الواحد، ضمن أبناء الثقافة الواحدة، بهدفِ تعزيزِ ثقافة الانفتاح واحترام التنوُّع وإدارة الاختلاف. وثانيًا مع الآخر المختلف في الانتماء الوطني أو غيره (الإقليمي على سبيل المثال) مثل الحوار بين أطرافٍ أو منظمات إقليمية مختلفة. ذلك كله يعزز معرفة الآخر، وبالتالي يُسَهّلُ في إقامةِ أو تعزيزِ أُطُرِ تعاونٍ مُتعدّدة الأبعاد قائمة بين مختلف هذه المنظمات والمؤسّسات أو إلى خلقِ أُطُرٍ جديدة للتعاون .
نقطةٌ أخيرة، لا بُدَّ من الإشارةِ إليها، لتعزيز الحوار من حيثُ نتائجه المرجوّة، وهي تتعلّقُ بما أُسمّيه بديموقراطية الحوار أو بلامركزية الحوار. الأمرُ الذي يعني مشاركةَ أوسع القطاعات المجتمعية باهتماماتها المختلفة، وعلى صعيد الجغرافيا الوطنية في حواراتٍ تحملُ عناوين متعدّدة وتتعلّقُ بمختلفِ أوجه الحياة الوطنية والحياة الدولية. فلا يبقى الحوارُ أسيرًا للنُخَب المَعنية أو لأهل الاختصاص فقط.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).