ثمّةُ فرصٌ كبيرةٌ للاستفادة من التوجّهات الإقليمية والعالمية والمحلية للتوصل إلى اتفاقٍ بين واشنطن وطهران من شأنه أن يُزيلَ مصدرًا كبيرًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وربما يُتيحُ حتى إمكانية التعايُش السلمي وبشكلٍ طبيعي بين الولايات المتحدة وإيران.
روس هاريسون وأليكس فاتانكا*
ليس من المُستَغرَب أن تُقارِبَ كلٌّ من إيران والولايات المتحدة أوّلَ لقاءٍ ديبلوماسي لهما منذ أربع سنوات بحذرٍ وتشكُّك. ورُغمَ أنَّ ذلك لا يُشَكِّلُ عقبةً كأداء، إلّا أنه من الصعب التغلّب على أكثر من 40 عامًا من العداء المُتبادَل بسهولة. وقد هيّأ الطرفان الساحة للحوار بروحٍ عدوانية مُمَيَّزة. قبل بدء المحادثات في مسقط، عُمان، قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: “نحنُ لا نسعى إلى الحرب، لكننا سنقفُ بحزمٍ في وجهِ أيِّ عدوان”. كما أدلت واشنطن بتصريحات لاذعة مُماثلة، حيث قال الرئيس دونالد ترامب: “إذا لم نتوصل إلى اتفاقٍ مع إيران، فسيكون هناك قصف…”.
هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى التشكيك في احتماليةِ التوصُّلِ إلى اتفاقٍ خلال هذه المفاوضات. لكن من الخطَإِ أيضًا الافتراض بأنَّ الظروفَ السائدة في العام 2025 هي نفسها التي كانت سائدة في العام 2015، عندما كانت إيران، عند توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة، تملك أوراقًا أكثر بكثير مما تملكه اليوم. وبينما قد يبدو من المُغري الاستنتاج بأنَّ الإيرانيين يستغلّون المحادثات الآن، كما فعلوا في الماضي، لكسب الوقت، إلّا أنَّ هذا الاستنتاج يغفل أنَّ الوقتَ ليس في صالحهم اليوم. كما إنه يتجاهل حقيقة أنَّ التغيُّرات الجارية في الشرق الأوسط والمجتمع الدولي الأوسع تُحفّزُ إيران على المضي قدمًا نحو اتفاق، بافتراض أنَّ واشنطن صادقة وواقعية في مفاوضاتها مع طهران.
الظروف الإقليمية والعالمية المُتَغَيِّرة
ما الذي تَغَيَّرَ خلال العقد الماضي والذي قد يُغيّرُ حسابات المساومة الإيرانية في الجولة الحالية من المفاوضات؟ لقد تغيّرت المنطقة نفسها. فنظرًا لسلسلة الأحداث التي وقعت بعد هجمات حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لم يَعُد بإمكان إيران الاعتماد على ميليشياتها وتحالفاتها الإقليمية لردع الولايات المتحدة وإسرائيل في حال تعثّرت المحادثات. إنَّ تراجع وضعف قدرة “حماس” و”حزب الله” وفقدان سوريا كحليف، وجميعها عناصر أساسية في “محور المقاومة” الذي تتباهى به إيران، يعني أنَّ شعورَ الجمهورية الإسلامية بالحماية الأمنية قد تعرّضَ للخطر. في الواقع، لقد خلقت هذه الميليشيات المتحالفة مسؤوليات على إيران، نظرًا لأن أميركا والدولة العبرية تُحمّلانها مسؤولية أفعال وكلائها.
ونظرًا لهذا الضعف، تُقدّرُ طهران أنه في حال فشل المحادثات، هناك خطرٌ كبير من أن تشنَّ إسرائيل، بدعمٍ أميركي، ضربات على الأصول العسكرية والنووية الإيرانية. وبما أنَّ الخطَّ الأحمر للأعمال العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران قد تم تجاوزه في العام 2024، فإنَّ هذا الأمر ليس مجرّد خطرٍ افتراضي.
لا ينبغي النظر إلى احتمالية الديبلوماسية الإيرانية مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي بمعزلٍ عن أيِّ اعتباراتٍ أخرى، بل كجُزءٍ من تحوّلٍ إيراني شامل محتمل نحو الديبلوماسية الشاملة. مع انهيارِ الردع، يبدو أنَّ إيران تُريدُ البناء على التقدُّمِ الديبلوماسي الذي أحرزته بالفعل مع خصومها الإقليميين، وخصوصًا المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى. بطريقةٍ ما، يمكننا أن نرى أنَّ الديبلوماسية الإقليمية لطهران مُرتَبطة بشكلٍ غير مباشر بالمحادثات الحالية مع واشنطن. تريد إيران من السعودية أن تكون بمثابة ثقل موازن للضغط الإسرائيلي على الولايات المتحدة من أجل موقفٍ تفاوضي متطرّف بشكلٍ غير واقعي، وربما حتى إجراءات عسكرية ضد إيران.
قد تكونُ الظروفُ العالمية الناشئة داعمةً أيضًا لاتفاقٍ بين الولايات المتحدة وإيران. فتهديدُ إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة الوشيكة، المنصوص عليها في اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، والمقرر انتهاء صلاحيتها في تشرين الأول (أكتوبر)، يمنح إيران حوافز إضافية للتفاوض مع الأميركيين بحُسنِ نيّة وبسرعة. علاوةً على ذلك، فإنَّ احتمالَ إعادة تأهيل واشنطن لروسيا قد يدفع طهران إلى الاعتقاد بأنها فقدت بعض نفوذها لدى موسكو، مما يُضعف موقفها لدى الولايات المتحدة. وليس من المستبعد أن تلعب روسيا دور الوسيط بين واشنطن وإيران، في حال تعثُّر المفاوضات، وهو أمرٌ يُرحّب به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
والصين، على الرُغم من مشاركتها طهران وجهة نظرها بضرورة التصدّي للولايات المتحدة، فإنها تُقدّر وتريد الاستقرار في الشرق الأوسط. إن الإيرانيين يُدرِكون الخطر المتمثّل في أنه إذا فشلت المحادثات مع الولايات المتحدة وتراجعوا إلى دورِ المُفسِدِ الإقليمي وعادوا إلى إحياءِ ودعم ميليشياتهم في المنطقة، فقد تنأى بكين بنفسها سياسيًا وديبلوماسيًا عن إيران.
وضعٌ داخليٌّ متدهورٌ بشكلٍ مطرد
قد تدفع الاعتبارات الداخلية في إيران القيادةَ الإيرانية نحو الديبلوماسية أيضًا. فاتفاقٌ ينصُّ على تخفيف العقوبات قد يُخفِّف الغضبَ الشعبيَّ في لحظةٍ حرجةٍ تشعرُ فيها إيرانُ بالحصار. على الرُغم من رفضِ المرشدِ الأعلى علي خامنئي الخطابيِّ السابق للمفاوضاتِ مع الولايات المتحدة ووصفِها بأنها “غيرُ حكيمةٍ” و”غيرُ شريفة”، فإنَّ الواقعَ على الأرضِ يُشيرُ إلى صورةٍ مُختلفةٍ تمامًا: فهو لا يستطيعُ تحمُّلَ رفضِ الديبلوماسية، ومن هنا جاءَ قبوله السريعُ غيرُ المسبوقِ لبدءِ محادثاتٍ مع واشنطن بعدَ أنْ أرسلَ إليه ترامب رسالةً في أوائلِ آذار (مارس). لقد ازدادت التكاليفُ المحليةُ والاقتصاديةُ والإقليميةُ للجمودِ الإيديولوجيِّ بشكلٍ كبيرٍ – ويُجبَرُ خامنئي الآن على الدخولِ في محادثاتٍ أحبَّ ذلك أم لا.
الوضعُ الاقتصاديُّ الإيرانيُّ كارثيٌّ – وهو الأسوأُ منذُ الحربِ الإيرانيةِ العراقيةِ (1980-1988)، كما يُقرُّ الخبراء. وقد صرَّحَ الرئيسُ بيزيشكيان علنًا بأنَّ الاقتصادَ في حالةِ حرب. وقد خلقت العقوباتُ، وانخفاضُ قيمةِ العملةِ، والتضخمُ، والانهيارُ البيئيُّ، وسوءُ الإدارةِ الماليةِ عاصفةً عارمة. كان خطابُ خامنئي بمناسبة عيد النوروز (رأس السنة الفارسية) في 20 آذار (مارس)، والذي اتسم عادةً بطابع إيديولوجي، ماديًا على غير عادته، مُركّزًا على الاستثمار والإنتاج. حتى تنفيذ فرض الحجاب ينهار، مما يُشير إلى أنَّ النظام يتعرّض لضغوطٍ ويحتاجُ إلى طمأنة الشعب الإيراني.
يُدرك خامنئي أنَّ الورقة التي يُراهن عليها الشعب الإيراني هي أنه مفتاحُ أيِّ محادثاتٍ مُثمرة مع الأميركيين. إنَّ التوصّلَ إلى تسويةٍ مع الولايات المتحدة من شأنه أن يُرضي الغالبية العظمى من الشعب، التي شعرت لبعض الوقت أنَّ “محور المقاومة” الإيراني ضد الولايات المتحدة أصبح عبئًا استراتيجيًا، يستنزفُ موارد البلاد وقد فشل في تحقيقِ أيِّ نفوذٍ أمني أو ديبلوماسي.
انقساماتٌ داخل النُخبة
هناك أيضًا نُخَبٌ في إيران تدعو إلى اتفاقٍ يتجاوز الملف النووي. ويريد مؤيدو إعادة ضبط العلاقات الإقليمية في طهران أن تُعطي السياسة الإيرانية الأولوية لما تمليه المصلحة الوطنية، لا للمشاريع الإيديولوجية المفتوحة كدعمِ الجماعات الإسلامية المُتشددة في المنطقة. وكما قال ناصر هديان، وهو شخصية بارزة في السياسة الخارجية في طهران، فإنَّ المفاوضات مع الولايات المتحدة، بعيدًا من الملف النووي، يُمكِنُ أن تُركّزَ على مجالات المصالح المشتركة المحتملة، مثل الاستقرار في العراق المجاور: “العراق بالغ الأهمية بالنسبة إلينا. عدم الاستقرار في العراق يعني عدم الاستقرار في إيران. هذه أهدافٌ يمكننا الاتفاق عليها مع الأميركيين – كما فعلنا في الماضي”. في الواقع، نسّقت واشنطن وطهران جهودهما في العراق أحيانًا، بما في ذلك خلال الحرب ضد “داعش”.
يُجادلُ هديان بأنَّ نهجَ إيران السابق -مقاومة الاحتواء مع الانخراط في حوارٍ انتقائي- يجب أن يتحوّلَ إلى تبنّي مشاركة شاملة، مع طرحِ جميع القضايا على الطاولة: النووية، والإقليمية، والصواريخ الباليستية، وحتى حقوق الإنسان داخل إيران، متجاوزًا بكثير المواضيع التي كانت مطروحة خلال محادثات خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2015. ويُقلّلُ من أهمية سوريا ولبنان واليمن للمصالح الوطنية الإيرانية، مُجادلًا بأنَّ اليمن قضيةٌ سعودية بالأساس، ويمكن لإيران العمل مباشرة مع الرياض. سوريا مُجَزَّأة للغاية الآن، مما يَحولُ دون وضع سياسة إيرانية واضحة؛ وأفضل استراتيجية هي “الصبر الاستراتيجي”، وفقًا لهديان. ويصرُّ على أنَّ التركيز الحقيقي ينصبُّ على العراق، وهو رأيٌ يعتقد أنَّ الأميركيين قد يشاركونه فيه.
هناك بالطبع مُعارضةٌ لمثل هذا النهج الواسع من قبل العناصر المُتشدّدة في طهران، بما في ذلك الحرس الثوري الإسلامي، الذي أوضح أنَّ القدرات العسكرية الإيرانية وقوات وكلائه الإقليميين “خطوط حمراء” في المحادثات مع واشنطن. في الواقع، وبسبب الضغوط الداخلية والخارجية، لا يملك الحرس الثوري الإيراني خيارًا سوى إعادة تقييم مواقفه. حتى أنَّ بعض قادة الحرس الثوري الإيراني دعا إلى تخفيف حدة التوترات في المنطقة بعد الانتكاسات الأخيرة التي تعرّضَ لها “محور المقاومة”.
في الوقت الحالي، يبدو أنَّ الشاغلَ الرئيس لخامنئي بشأن المسألة الأميركية يتمحور حول مدى جدّية ترامب في التوصُّل إلى تسويةٍ مع طهران، تسويةٌ لا تُذِلُّ إيران وخامنئي تمامًا.
لحظةٌ مفصلية
نحنُ عند نقطةِ تحوُّلٍ مع إيران، ويجب استغلال الفرص المتاحة. ولكن ما لم تُستَغَل هذه العوامل الإيجابية ببراعة، فهناك العديد من الديناميكيات الإقليمية والعالمية التي قد تُعيق التوصُّل إلى اتفاق. إنَّ موقفًا عدوانيًا مفرطًا من جانب الولايات المتحدة، أو حتى هجومًا عسكريًا استباقيًا من جانب إسرائيل، قد يُفسدُ أيَّ شروطٍ محتملة للديبلوماسية. كذلك، إذا تحوّلَ التنافس الصيني-الأميركي إلى حرب تجارية شاملة، فقد يكون لدى بكين حافزٌ إضافي لمضاعفة دعمها لإيران، مما يُقلّل من فُرَصِ طهران في تقديم تنازلات مؤلمة لواشنطن. وبالطبع، فإنَّ أيَّ أهدافٍ غير واقعية تضعها إدارة ترامب خلال المفاوضات قد تدفع إيران نحو اتجاهٍ أكثر تحدّيًا. لقد أشارت التصريحات الأولية للبيت الأبيض إلى أنَّ الهدف هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي بدلًا من اتباع خيار ليبيا (الذي دفع به الإسرائيليون) لحرمان إيران من أيَّ قدرةٍ على تخصيب اليورانيوم. ولكن بحلول اليوم التالي، اتخذ البيت الأبيض موقفًا أكثر تشدّدًا. وإذا ساد هذا الموقف خلال الجولات المقبلة من المحادثات، فإنَّ احتمالية التوصل إلى اتفاقٍ ستنخفض بشكلٍ كبير.
باختصار، ثمة فرصٌ كبيرةٌ للاستفادة من التوجّهات الإقليمية والعالمية والمحلية للتوصل إلى اتفاقٍ بين واشنطن وطهران من شأنه أن يُزيل مصدرًا كبيرًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وربما يُتيح حتى إمكانية التعايش السلمي والطبيعي بين الولايات المتحدة وإيران. كما إنَّ هناك فرصًا لاتفاقٍ أكثر شمولًا من خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. إلّا أنَّ هناك مخاطرَ مماثلةً في سوء فَهمِ أهمية اللحظة الراهنة وتفويت هذه الفرصة، مع ما قد يُسفر عن ذلك من عواقب وخيمة على المنطقة، بل وحتى على المجتمع الدولي.
- روس هاريسون هو زميلٌ أول ومحرر سلسلة كتب في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وهو مؤلف كتاب “فكّ رموز السياسة الخارجية الإيرانية” الذي سيصدر قريبًا.
- أليكس فاتانكا هو زميلٌ أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، ومؤلف كتاب “معركة آيات الله في إيران: الولايات المتحدة، السياسة الخارجية، والتنافس السياسي منذ العام 1979”.