كيفَ يُمكِنُ للبنان أن يَكتُبَ استراتيجيةَ أمنِهِ الوطني في حقولِ الألغام الدوليّة والإقليميّة والداخليّة؟

تطرَحُ هذه المقالة أسئلةً صعبة تُواجه القيادة اللبنانية التي تتحضّرُ لوَضعِ استراتيجية أمنٍ وطني في لحظةِ مخاضٍ إقليمية ودولية غير مسبوقة منذ انهيار السلطنة العثمانية وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، معطوفةً على توتّرات دولية على مستوى الثلاثة الكبار، أميركا والصين وروسيا، تُنذِرُ بإعادة تشكيل النظام السياسي العالمي.

الرئيس جوزيف عون: هل ينجح في إقناع “حزب الله” بتسليم سلاحه والتحوُّل إلى حزبٍ مدني كباقي الأحزاب اللبنانية؟

ملاك جعفر عبّاس*

في الوقت الذي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إعادةِ هندسةِ خرائط الشرق الأوسط من خلالِ حربٍ مُتعدّدة الجبهات أعطته هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) فرصتها الذهبية، ويحاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة ضبط عدّادات النظام الدولي من خلال تقارُبه مع روسيا على حساب أوروبا تمهيدًا ربما لانسحابه من حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومشاريع توسُّعية مُرفَقة بحربٍ تجارية مع الصين، وتَدخُلُ سوريا مرحلةً غير مسبوقة في تاريخها بعد سقوط نظام بشار الأسد وتسلُّم أحمد الشرع مقاليد الحكم بدعمٍ وحضورٍ تركي وترحيبٍ سعودي، وتجريِ مفاوضاتٌ إيرانية-أميركية لا يُعرَفُ كيفَ ستُحدِّدُ مصيرَ “الساحات”، يبدو لبنان أحوَجَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى استراتيجيةِ أمنٍ وطني عاجلة وشاملة تُوَحّدُ رؤية الدولة وأجهزتها لمكامن الخطر والتحدّيات الداخلية والخارجية.

وبالفعل يتحضّر رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون لوَضعِ أوّلِ استراتيجية أمنٍ وطني في تاريخ البلاد بالتوازي مع حوارٍ يعتزمُ فتحه شخصيًا مع “حزب الله” حول خطة تسليم سلاحه. وقد اختلطت المفاهيم عند كثيرين بين استراتيجية الأمن الوطني التي يتحدّث عنها رئيس الجمهورية، والاستراتيجية الدفاعية التي يطرحها “حزب الله”، والحوار المُرتقَب حول تسليم السلاح. ومَن يقرأ كلام الرجل الآتي من المؤسسة العسكرية بتمعُّن يُدركُ أنه قطع طريق الاستراتيجية الدفاعية التي تثير إشكالية مع باقي المكوّنات السياسية اللبنانية، والتي يعتبر “حزب الله” انه المعنيّ بمناقشتها والتفاوض عليها مع الرئاسة، من خلال الحديث عن استراتيجية للأمن الوطني تشمل الدفاع كأحد مرتكزاتها، تضعها الرئاسة بالتعاون مع المؤسسات المعنية لا مع أحزاب سياسية أو جماعات مسلحة مهما كان مسمّاها أو الشعار الذي ترفعه او التضحيات التي قدمتها. وهو ينزع هنا صفة التعادل بين الدولة و”المقاومة” ويُعيدُ تصويبَ المُعادلة التأسيسية لمفهوم الدولة بحسب عالم الاجتماع والمؤرّخ والسياسي الألماني ماكس فيبير لتعود “الكيان الذي يحتكر الاستخدام المشروع للعنف في المجتمع” تحت عنوان حصر السلاح بيد الدولة.

مفهوم الأمن الوطني الحديث

إنَّ مفهومَ الأمن الوطني في التفسير الحديث يتجاوزُ البُعدَين العسكري الدفاعي والاستخباراتي إلى الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والصحية، والاجتماعية، والثقافية. أي أنَّ الوثيقة يُفتَرَضُ أن تُقارِبَ التحدّيات الخارجية والداخلية لأمنِ البلاد من احتمالاتِ الحرب مع دولةٍ أخرى وحماية الحدود، إلى المناطق الرخوة أمنيًا وكيفية التعامل معها، إلى وجود جماعات مسلّحة أو مجموعات أجنبية أو خلايا إرهابية أو عصاباتِ جريمةٍ منظمة على أراضيها قد تُشكّلُ تهديدًا للأمن الوطني. وتُقارب أيضًا مسألة الأمن السيبراني باعتباره بات يُشكّلُ اليوم أحد أهم الأسلحة فتكًا بالدول، فضلًا عن الأمن الغذائي والدوائي والحالة الوبائية وتحصين الاقتصاد من العوامل التي تُفقِدُ المستثمرين ثقتهم وتلك التي تساهم في هجرة الأدمغة. كما يُفتَرَضُ أن تُبَلوِرَ استراتيجيةً لتعزيز ثقافة المُواطَنة والتماسُك الاجتماعي في زمنِ الأزمات والالتفاف حول مؤسّسات الدولة العسكرية والمدنية. وفي لبنان، تقع هذه المهمة على عاتق المجلس الأعلى للدفاع الذي لم يلعب دورًا يُذكَر على مدى السنوات الماضية بسبب تآكل الدولة وإفلاسها المادي والمعنوي، وقد حان وقتُ تفعيله.

وتُشَكِّلُ الحروبُ الكبرى والمحطّات التاريخية المفصلية دوافعَ أساسية للدول للتفكيرِ في مُقاربةِ أمنها القومي من خلال عقيدةٍ صلبة تستلهِمُ النصوصَ التأسيسية للدولة وأوّلها الدستور وتاريخها وثقافتها وأحيانًا دينها، والنصوص الناظمة لعلاقة الدولة بمحيطها كالمعاهدات والانتماء إلى أحلاف أو تكتّلات دولية. وتُشَكّلُ العقيدة هذه أساسًا لكلِّ استراتيجيات الأمن القومي التي تُوضَعُ لاحقًا وتُراجَعُ دوريًّا. فقد أسّست الولايات المتحدة مجلس الأمن القومي في العام 1947 إثر الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي خلقتها الحرب الباردة. يعمل المجلس كمؤسّسة استشارية رئيسة للرئيس الأميركي، ويضمُّ في عضويته الأساسية كلًّا من نائب الرئيس، ووزراء الخارجية والدفاع، ومستشار الأمن القومي، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة ورؤساء وكالات الأمن والاستخبارات عند الحاجة. يُعتبَرُ المجلس مركز صناعة القرار الأمني في الولايات المتحدة، حيث يتولى تقديم التوصيات للرئيس، وتحليل المعلومات، وتنسيق المواقف بين وزارات الدولة. كما يشرف على إدارة الأزمات، وصياغة الاستراتيجيات الكبرى، وتحديد الأولويات الوطنية. أمّا في إسرائيل فقد تأسس مجلس الأمن القومي في العام 1999 بقرارٍ حكومي ولم يتفعَّل دوره إلّا بعد عدوان تموز (يوليو) 2006 على لبنان. ويعمل المجلس ضمن مكتب رئاسة الوزراء بالتوازي مع عمل الأجهزة الأمنية الأخرى فيما يُعتَبَرُ مركزُ القرار الحقيقي بيد المجلس الوزاري المُصغَّر او “الكابينِت”. ورُغم قيامها على مفهوم الاحتلال والتوسُّع لا تملك اسرائيل حتى اليوم وثيقةً مَكتوبةً تُحدّدُ عقيدةَ الأمن القومي للدولة رُغمَ وجودِ استراتيجياتٍ مُتَعدِّدة للمؤسّسات العسكرية والأمنية تتمُّ مُراجعتها بشكلٍ دوري. وقد قدّمَ معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بالتعاون مع مجموعةٍ من الباحثين مقترحًا لوثيقة أمن قومي إسرائيلي، إثر أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وما تلاها من حربِ إبادة على الشعب الفلسطيني وعلى “حزب الله” في لبنان، لأنهم اعتبروا أنَّ هذا الهجوم شَكّلَ مُنعَطفًا تاريخيًّا بالنسبة إلى الدولة العبرية.

أسئلة برسم استراتيجة لبنان

سيتعيَّن على الاستراتيجية اللبنانية أن تجيب عن أسئلة، قد تبدو بديهية من قبيل تصنيف حكومات الدول المحيطة بلبنان في خانة العدو أو الصديق أو الحليف أو في الخانة الرمادية. فأسهل الأجوبة هو أنَّ إسرائيل عدو، لكن كيف تُصَنَّفُ الإدارة الانتقالية في سوريا؟ كيف تُصَنَّف تركيا، اللاعب الأكبر في الفضاء السوري على الحدود اللبنانية؟ في أيِّ خانة ستُوضَع إيران التي تَعتَبرُ لبنان إحدى ساحات صراعها مع قوى الاستكبار العالمي لا وطنًا لأبنائه؟ كيف تصنّفُ حركتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” غير المنضويتين ضمن أُطُر منظمة التحرير الفلسطينية ولهما تواجُدٌ كبير في لبنان، ومَن يُنظّم العلاقة معهما؟ وهل سيُسمَحُ في هذه الاستراتيجية للأحزاب غير اللبنانية أن تُمارِسَ عملًا سياسيًا ولو سلميًّا من الأراضي اللبناني بما يتعارَضُ مع الموقف السياسي للدولة؟  مَن هي الدولة التي يُمكِنُ للبنان الاعتماد عليها كما تعتمد إسرائيل على الولايات المتحدة (ويشكل هذا التحالف أحد أهم ركائز الأمن القومي الإسرائيلي)؟ هل يتّفق اللبنانيون على ان تكون المملكة العربية السعودية هذا الحليف؟ أم فرنسا؟ كيف يمكن انتهاج سياسة النأي بالنفس أو التزام الحياد الإيجابي في وقتٍ لم يَخرُج الشرق الأوسط بعد من مخاضه العسير؟

أما في الداخل، فستُجيب الاستراتيجية على مسألةِ السلاح خارج إطار الدولة بضرورة العمل من خلال الحوار مع “حزب الله” ومع السلطة والفصائل الفلسطينية على وَضعِ خططٍ مُزمِنة لتسليمه للأجهزة المختصّة. لكن هل حُسِمَت مسألة تسليم سلاح الحزب على كامل التراب اللبناني؟ كيف ستنظم الدولة الوجود الفلسطيني والسوري في لبنان في ظلِّ واقعٍ مأساوي يعيشه اللاجئون الفلسطينيون منذ عقود على مستوى أبسط الحقوق الإنسانية وواقعٍ مُخيف يعيشه السوريون الذين باتوا يُشكّلون نسخة مصغَّرة عن خطوط الصدع السورية قد تنفجر في أية لحظة.

وإن سارت الدولة على خطى الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من المجتمع الدولي كيف ستُقارب مسألة هجرة الأدمغة؟ هذا النزيف المتواصل للثروة البشرية الاستثنائية لشباب لبنان، والذي يجب أن يُشكّلَ أحد أهم هواجس الأمن الوطني يتفوّق في أهميته على الحفاظ على الثروات المادية (إن وجدت). ففي استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلية المُقتَرحة من معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، تعترف إسرائيل أنَّ قطاعَ التكنولوجيا بات يُشكّلُ أكثر من خمسين في المئة من اقتصادها ويعمل فيه ما يفوق ال15% من القوى العاملة، وأنَّ نجاحَ هذا القطاع يعودُ بشكلٍ مباشر إلى ارتفاعِ مستوى التعليم وكفاءة العاملين فيه الذين يكثر الطلب العالمي عليهم وبمرتبات أكبر من تلك التي يتقاضونها في إسرائيل ما يؤثّرُ في عدد جنود الاحتياط. هنا تصبح مسألة أمن قومي. لذا تعمد إسرائيل على الاستثمار في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا ليس فقط لتحافظ على تفوُّقها، بل لتحافظ على جيشها. ولا بأس أن يتعلم لبنان من أعدائه في هذا المجال.

في عالم الأمن والدفاع، ليس الهدف من المقارنة مع العدو هو الإعجاب أو التقليد، بل الفهم العميق واليقظة الدائمة. لبنان لا يشبه إسرائيل في تكوينه، ولا في نواياه، ولا في علاقاته. إسرائيل قامت على الاحتلال والمجازر والفصل العنصري، بينما لبنان، بحكم الدستور والتاريخ والثقافة، هو دولة تعايش وتعددية وانفتاح. ومع ذلك، فإنَّ فَهمَ كيفَ يُفكّرُ العدو، وكيف يُخطّط ويبني عقيدته، هو عنصرٌ أساسي من عناصر الدفاع الوطني. فإن كان الجيش محورَ المشهد لمُقبِلِ السنوات، هل ستفتح استراتيجية الأمن الوطني باب التجنيد الإجباري مجدّدًا؟ فمع كل مساوئه إلّا أنه يضع المواطن أيضًا أمامَ سؤالٍ مُهمّ: إن كنتَ تُريدُ من الجيش أن يحميك ولا تُريدُ سلاحًا آخر غير سلاح الجيش فهل أنتَ مُستَعِدٌّ لإرسالِ بناتك وأبنائك إلى الخدمة العسكرية الإلزامية كما تفعل إسرائيل؟ هل تقبل الأحزاب السياسية أن تُخَصَّص الميزانية الأكبر في الدولة للدفاع على الأقل للسنين العشر المقبلة؟ أو أن يكونَ للجيش صناعات أو مؤسّسات ربحية تؤمّنُ له مداخيل إضافية على غرار بعض الجيوش في المنطقة؟ أم أنَّ دخولَ الجيش في العجلة الاقتصادية يُهدّدُ بتحوُّله حُكمًا إلى طرفٍ سياسي مع مرور الوقت؟

ليست الإجابة عن هذه الأسئلة من باب العصف الذهني أو الترف السياسي، فكلُّ إجابة ستُحدّدُ الموارد العسكرية والأمنية والمالية اللازمة للتعامل معها، وهذا هو صلب عمل استراتيجية الأمن الوطني، وهي أسئلة تجول فعلًا في ذهن كثير من اللبنانيين الذين رَؤوا في العهد الجديد أملًا حقيقيًا يعبر بالبلاد إلى ضفّة الأمان والاستقرار والعدالة والمؤسّسات. لكن إن تسنّت لهم الإجابة عن تلك الأسئلة ربما يجيب كلٌّ منهم بمفرداته السياسية التي ورثها من البيئة التي طبعت هويته الطائفية والسياسية والاجتماعية، وليس من الضروري أن تتفق الشعوب على رأي، لذا هناك انتخابات واستفتاءات. لكن في الأمن القومي الأمرُ لقيادة الدولة المُنتَخبة وعليها تقع المسؤولية، وعليها تقع المحاسبة.

Exit mobile version