مع تذبذب التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها، تُعيد أوروبا وتركيا تقييم علاقاتهما الدفاعية. تُشير صفقة يوروفايتر المُقترحة إلى دفعةٍ نحو الاستقلال الاستراتيجي والتعاون الصناعي – في حال قبول أنقرة.
أيوب إيرسوي*
مع تآكل التزام الولايات المتحدة الراسخ بالأمن الأوروبي في ظلِّ إدارة دونالد ترامب، وصلت شراكة التحالف الأوروبي الدفاعية مع تركيا إلى مرحلةٍ جديدة في آذار (مارس) الفائت، عندما قدّم تحالفٌ من شركات الأسلحة الأوروبية الرائدة عرضًا رسميًا لبيع 40 طائرة يوروفايتر تايفون لأنقرة.
وقد شهدت هذه المقاتلات خدمةً نشطة في القوات الجوية لدول عدة في الشرق الأوسط، بما فيها المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وسلطنة عُمان. ومن شأن عملية الشراء التركية، من تحالف يُمثّل المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، أن تُعزّز الشراكة الناشئة في صناعة الدفاع بين أوروبا وتركيا.
كانت الولايات المتحدة استبعدَت تركيا من برنامج مقاتلات “أف-35” في تموز (يوليو) 2019 بعد قرار أنقرة شراء أنظمة الدفاع الجوي “أس-400” من روسيا. وقد أحبط هذا الأمر جهودَ تركيا لتحديث سلاحها الجوي. وكحلٍّ مؤقت، اختارت الحصول على 40 طائرة مقاتلة إضافية من طراز “أف-16” ومجموعات تحديث من الولايات المتحدة – إلّا أنَّ هذه الصفقة لم تكن متاحة أيضًا. ردًّا على ذلك، شرعت تركيا في استكشاف البدائل.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، اتضح أنَّ الحكومة التركية قد بدأت محادثات مع الدول الأوروبية بهدف شراء 40 طائرة يوروفايتر، مما يعكس تقييمها بأنها تُمثّلُ البديلَ الأكثر جدوى من الأنظمة الأميركية. وصرّح وزير الدفاع التركي يشار غولر في مقابلة تلفزيونية بعد شهر بأنَّ “طائرة يوروفايتر هي بديلٌ جيد جدًا، ونحن نريد شراءها”. وقد أدّى رفعُ ألمانيا لاعتراضاتها في أواخر العام 2024 إلى تسريع العملية، ما أدّى إلى تقديمِ عرضٍ رسمي في الشهر الماضي، وهو الآن قيد التقييم من قبل الحكومة التركية.
في الوقت الحالي، لا تزال طائرات “أف-16” حجر الزاوية في القدرات الجوية التركية، التي تتراجع بسرعة. وما لم تُبادر أنقرة بشراء طائرات أكثر تطوُّرًا، فإنَّ قواتها الجوية مُعَرَّضة لخطر فقدان أهمّيتها العسكرية. يمكن معالجة هذه الفجوة المتزايدة في القدرات، على الأقل في المدى المتوسط، من خلال شراء طائرات يوروفايتر تايفون، متعددة المهام والقادرة على حمل مجموعة واسعة من الأسلحة جو-جو وجو-أرض. كما أثبتت هذه الطائرات قدراتها في سيناريوهات قتالية معقّدة ومتعددة المجالات، ويمكنها العمل ضمن أسطول جوي تركي مشترك.
التبعية ومساوئها
اتسمت رئاسة دونالد ترامب الثانية بتوجُّهٍ سياسي خارجي متناقض إلى حد ما، يشمل جوانب من الانعزالية والتوسّعية. وقد أدى ذلك إلى دخول أكثر الفترات جدلًا في تاريخ الشراكة عبر الأطلسي. بالنسبة إلى الكثيرين في إدارة ترامب، تُعَدُّ الالتزامات الأميركية بأمن أوروبا ودفاعها عبئًا يمكن الاستغناء عنه. كما إنَّ مصداقية هذه الضمانات مُقوّضة بسبب الخطاب التوسُّعي ضد كندا والدانمارك، وكلاهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في حين أنَّ تراجُعَ واشنطن تجاه عدوان روسيا في أوكرانيا قد أضرّ أيضًا بالتصوّرات الأوروبية للولايات المتحدة كحليفٍ مبدئي وأساسي ثابت.
وبغضِّ النظر عن إمكانية إصلاح الشراكة، فإنَّ الجهات الفاعلة الأوروبية بدأت تُدرك أنَّ عدم تكافؤ القوّة يُنشئ اعتمادًا أمنيًا أوروبيًا غير مستدام على الولايات المتحدة – وهو وضعٌ تسعى الجهات الفاعلة الأوروبية الآن إلى معالجته.
وللقيام بذلك، تعمل الجهات الفاعلة الأوروبية، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، على تعزيز بنيتها التحتية المحلية لصناعة الدفاع. يُعيد بعض دول القارة النظر في تعاونه مع الولايات المتحدة في قطاع الصناعات الدفاعية، وخصوصًاً في ما يتعلق بطائرات “أف-35” المقاتلة. وقد صرّح رئيس وزراء كندا، العضو في حلف الناتو، أخيرًا بأن بلاده أيضًا “تبحث عن بدائل ممكنة لصفقة شراء طائرات مقاتلة أميركية، ويعود ذلك جزئيًا إلى اعتمادها المفرط على الولايات المتحدة في أمنها”.
يُقدّمُ استبعادُ تركيا من برنامج طائرات “أف-35” دراسةَ حالةٍ لمخاطر هذا الاعتماد المُفرِط. فقد كانت أنقرة عضوًا فعّالًا في البرنامج متعدد الجنسيات لأكثر من عقد قبل إبعادها بقرارٍ أميركي أحادي الجانب في العام 2019. وبعد عام، فرضت واشنطن عقوبات على رئاسة الصناعات الدفاعية التركية، وهي أعلى هيئة للمشتريات والتطوير الدفاعي في البلاد، والتي لم تُرفَع بعد.
ويُمكن القول إنَّ هذه الخطوات وجّهت تحذيرًا إلى الأعضاء السبعة الآخرين في البرنامج، خمسة منهم أوروبيون، مما يُظهر مخاطر التعاون الدفاعي مع أطرافٍ قوية يمكنها اتخاذ مثل هذه الإجراءات الأحادية. وبينما تسعى الحكومة التركية إلى إقناع إدارة ترامب بإعادة قبولها في البرنامج، لا يوجد عمليًا أيُّ ضمان ضد طردها مرة أخرى في حال تعارضت التفضيلات الاستراتيجية للحكومتين في المستقبل.
فصل جديد؟
إنَّ عدم الاستقرار الناجم عن العدوان الروسي، والذي تفاقم بفعل تحرّكات ترامب، يدفع أوروبا وتركيا نحو شراكةِ أمنية ودفاعية أوثق. يمكن رؤية بوادر هذا الوضع في آليات الحوار الاستراتيجي الجديدة، وتزايد وتيرة الاجتماعات بين القادة العسكريين الأوروبيين والأتراك.
تاريخيًا، واجه التعاون الوثيق عقباتٍ بسبب اعتماد كلا الجانبين المفرط على أطرافٍ ثالثة لتلبية احتياجاتهما من المشتريات، وغياب إرادةٍ سياسية قوية ومستدامة لدفعه قدمًا. ومع ذلك، فقد حققت الشراكة بالفعل العديد من النجاحات التي قد تمهِّدُ الطريق لمزيدٍ من التعاون. على سبيل المثال، أقامت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية شراكاتٍ مع شركات دفاع أوروبية في مجموعةٍ من المشاريع، بما في ذلك طائرات النقل العسكري “A400M” وطائرات الهليكوبتر الهجومية “أوغوستا A129”. وأخيرًا، أعلنت شركة ليوناردو الإيطالية الرائدة في مجال الدفاع، وشركة بايكار التركية، المشهورة بطائراتها المسيرة “بيرقدار”، عن مشروع مشترك لتصنيع الطائرات المسيَّرة.
لا شكّ أنَّ صفقة يوروفايتر تمنحُ فرصًا مُتنوِّعة لكلٍّ من الدول الأوروبية وتركيا. يُشير الإجماعُ الناشئ في أوروبا إلى أنَّ الثغرات الأمنية لم تَعُد مقبولة، وأنَّ الوقت قد حان لبناءِ هيكلٍ دفاعي أوروبي قوي ومرن. وهكذا، تحوّلت شراكات صناعة الدفاع القوية من مسألة اختيار إلى ضرورة. وقد ولّدت مبيعات يوروفايتر المذكورة لدول الخليج تعاونًا أوثق بين الجانبين في مجالي الأمن والدفاع. ومن شأن صفقة مماثلة مع تركيا أن تُحقّقَ مكاسب استراتيجية كبيرة، فضلًا عن مُعالجة المخاطر الأمنية في أوروبا.
تُتيح الصفقة فرصًا أكبر لتركيا، التي لطالما اعتمدت قواتها الجوية على الولايات المتحدة كمورد وحيد للطائرات المقاتلة. وقد أثار التقلب في علاقتهما أخيرًا شكوكًا جدية حول هذه الاستراتيجية. ومن شأن تنويع مجالات المشتريات أن يُحسّن من قدرة تركيا على مواجهة صدمات التوريد، سواءً كانت ناجمة عن انتكاسات في سلسلة التوريد أو صراعات سياسية.
إنَّ صفقة يوروفايتر ستُتيحُ لتركيا التفاعل مع قاعدة الصناعات الدفاعية الأوروبية بشكلٍ أوثق وأكثر ديناميكية وانتظامًا. من المرجح أن يُسفِرَ تعزيز التعاون الدفاعي مع أوروبا عن فوائد أمنية واقتصادية واستراتيجية، ليس أقلها الوصول إلى أحدث تقنيات الفضاء والطيران الأوروبية. كما يعني ذلك تحسين التعاون في قطاع الدفاع مع أربع دول أعضاء في حلف الناتو في أوروبا في آنٍ واحد.
دفعت ديناميكيات الأمن العالمي، التي أثارتها تقلبات إدارة ترامب، كلًّا من أوروبا وتركيا إلى إعادة النظر في سياساتهما الأمنية والدفاعية. وتتيح صفقة يوروفايتر المحتملة لهما فرصةً لتطوير قدراتهما التعاونية، وقد تمهد الطريق نحو تعاون دفاعي أكثر مؤسسية. القرار الآن بيد الحكومة التركية.
- أيوب إيرسوي هو أستاذ في قسم دراسات الدفاع في كلية كينغز لندن.