رشيد درباس*
تُريدِين لُقْيان المعالي رخيصـةً…
ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ من إبَرِ النَّحْلِ
المتنبي
في كلِّ عيدِ قيامة يَتبادَلُ اللبنانيون التهاني، ويتمنّون أن تكونَ قيامةُ لبنان قريبة.
وإذا كانت قيامةُ السيِّد المسيح مَسبوقةً بآلامِ الصَلبِ وإكليلِ الشوك ولَسعِ الأسواطِ على طولِ الجُلجُلة، فإنَّ زَحزَحَةَ الحَجَرِ اللبناني لم تَزَل محفوفةً بالعقبات والمصاعب، بل إنَّ الخروجَ من الفراغ الدستوري بانتخابِ رئيس الجمهورية وتَشكيلِ حكومةٍ واعدة، ما هو إلّا بداية طريق الأشواك التي لا بُدَّ منها للوصول إلى برِّ الورود.
أدركَ اللبنانيون منذ بدأت أزمتهم المُتوالِدة أنَّ كل صَحْوٍ كان مسبوقًا بإعصارٍ مُدَمِّر، وقد كان الإعصارُ الإسرائيلي الأخير الأكثر تدميرًا وترويعًا، بل هو لا يزال حتى الساعة يُطلقُ زوابعه في كلِّ اتجاه، فيستبيح أهل الضفة وغزة بإجرامه الوقح، ويُوَسِّع نطاق اعتدائه إلى سوريا لكي يُعَقِّدَ المشكلة ويربطُ الأمورَ بمخطّطه المُعلَن القائم على طمس فلسطين وقضم الأراضي المجاورة، وتدمير القوى العسكرية المُناوِئة، للوصول إلى فَرضِ التطبيع بالإرغام. أخطر ما في الأمر، أنَّ حكومة بنيامين نتنياهو مُتطابقة مع السياسة الأميركية تمامًا، بل إنَّ ما تتمناه إسرائيل يصبحُ صيغةً تنفيذية أميركية يقودها الرئيس دونالد ترامب وتُرَوِّجُ لها مبعوثته إلى لبنان مورغان أورتيغاس التي لا تخفي انحيازها بالشكل والقول والمضمون.
ولكن نظرة رصينة للتطوات تُظَهِّرُ صورةً أقلَّ تشاؤمًا، إذ أنَّ الدولة خرجت من المراوحة المُزمِنة القاتلة إلى انتظامٍ دستوري له مهابته وشعبيته، وله أيضًا إرادات بصيرة تستطيع تشخيص العقبات ورسم الخطط اللازمة لاستعادةٍ فعلية لدور الدولة بما هي صاحبة السيادة والإمرة واحتكار السلاح، وبما هي أيضًا مسؤولة عن إطلاق مشاريع التنمية التي يكمن فيها دواء العلل. ومع هذا يقتضي التنبيه إلى أنَّ تَلَهُّفَ اللبنانيين إلى رؤيةِ الإنقاذِ يتحقّق في عاجلٍ قريب، فيه مُبالغة مُبرَّرة، ولكنها ليست واقعية إذ علينا ألّا نُوهِم أنفسنا بأنَّ الإصلاحَ مرهونٌ بتوجيهٍ من رئيس الجمهورية وقراراتٍ من الحكومة وقوانين من مجلس النواب وحسب، فتلك المقدّمات، يستلزمها تمهيد دؤوب وشاق، وتَكَيُّف مجتمعي على ضوء التطوّرات والنتائج الكارثية التي أسفر عنها العدوان الإسرائيلي؛ وفي المقابل فإنَّه من العقم أن نتبع سياسةً انتظارية، ونجلسُ على مقاعد المراقبيين ريثما تسفر الوساطات الدولية المغشوشة عن نتائج إيجابية. إنَّ المجتمع اللبناني أثبت حيويته على مرِّ السنين الطويلة، واستطاعَ دائمًا أن يتلافى الانهيار، وعالج الفوضى وغياب السلطة بالابتكار والمرونة، في أعتى الظروف وأشدَّها شراسة، فمن بابٍ أَولى إذن، أن يُجَنِّدَ صبره وخبرته لتسهيل مهمة العهد والحكومة الجديدين، والإسهام الوطني بكل ما زودته به الدنيا من التجريب والمهارة؛ إنَّ الرؤية الثاقبة والإرادة الحازمة حوّلت “سنغافورة” من مَكَبٍّ ومستنقع، إلى دولةٍ يرتفع فيها دخل الفرد إلى المستويات الأعلى في العالم، وكذلك “فيتنام” التي جرّب فيها الأميركيون أثقل القذائف وشنّوا عليها حربًا طويلة قاسية، خرجت من الحرب خالية الوفاض، ورُغم هذا استطاعت أن تبني اقتصادًا جديدًا ناجحًا، وأن تبني أيضًا شراكات تجارية مع الدول ومنها عدوّتها الولايات المتحدة الأميركية.
إنَّ الشعبَ اللبناني الذي لديه من فائض الخرّيجين والكفاءات ما أهّله للإسهام في نهضةِ دولٍ أخرى، مؤهَّلٌ حتمًا ليجعل من استعادة تكوين السلطات على طريق الإنماء وإعادة الإعمار، أمرًا متاحًا وملموسًا إذا ما توفّرَ شرطُ تصويب البوصلة الوطنية والتقاء الإرادات الشعبية على الذهاب من ارتياب الطوائف والتربُّص بعضها ببعض، إلى التقاء المصالح وتكاملها، على قاعدة التشخيص الواعي لمراحل النزاع الذي بدأ منذ دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان مع ما رافق ذلك من تدخّلات خارجية، حتى يومنا هذا، حيث ثبت بالملوس أنَّ هذه الدولة التي عانت من تَفَشِّي الجهل السياسي والانقسام الطائفي ثم المذهبي، والاختراقات الخارجية، هي دولة مُرَكَّبَةٌ تركيبًا دقيقًا وحسّاسًا على قياس اللبنانيين كلّهم، بطوائفهم الكبرى والصغرى، وبطبقاتهم المتداخلة، وأنها كانت بحُكمِ ذلك التركيب الغريب عصيّة على الانهيار، كما هي عصيّة على الانصياع لهيمنةٍ إقليمية أو طائفية.
إنَّ النهوضَ يحتاجُ إلى اعترافٍ صادق، بأنَّ ما من طائفة جرّبت أن تُقيمَ لنفسها حمايتها الخاصة، إلّا واستدرجت بقيّة الطوائف لتقليدها، كما إنَّ كلَّ فئة استعانت بحليفٍ خارجي، كان لها ما يُناظِرها لدى الفئات الأخرى.
إذا كان لي من ملاحظة، بعد هذا، فهي أننا ننفضُ عنّا آلام العدوان ونعوِّض خسائرنا البشرية والمادية بالتأكيد على أنَّ اللبنانيين أرحم ببعضهم من أيِّ حليفٍ خارجي، وأصدقهم إغاثة، وأرحبهم ضيافة، وأقلّهم بالتالي حاجة لاقتناء السلاح بذريعةِ دفاعٍ مزعوم عن النفس، فقد آن لنا أن نعودَ إلى تسليم زمام أمرنا لدولتنا، بعد أن فشلت تجاربنا ومغامراتنا الباهظة الأكلاف، وذاقت كل طائفة مرارة الكؤوس التي تجرّعتها؛ لقد كان اللبنانييون لدى كل كارثة المثال الأعلى على التراحُم والأخوّة منذ حروب التحرير والإلغاء وأيام الـ2006 وصولًا إلى المأساة الأخيرة، فعلامَ الخُلْفُ إذن، وعلامَ التوجُّس؟
فُرَصُ التعافي ذات رياح مؤاتية تتجلّى بوحدةِ الحُكم التي لا ينبغي أن يُنَغِّصها مُنَغِّص، طالما التزمت بأحكام الدستور وبالرغبة الشعبية بالخلاص، وكذلك بالرعاية الشقيقة والصديقة حيث شكلت زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزيف عمون لفرنسا ورئيس الحكومة نوّاف سلام للسعودية، مؤشِّرَين بالغَي الدلالة على أنَّ لبنان ليس متروكًا.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).