يبدو أن الجماعات المسلحة بدأت تُمثّلُ ظاهرة بارزة في حروب القرن الواحد والعشرين، حيث تُشكّلُ تحالفات مع صناعات الاستخراج، وشركات الخدمات اللوجستية، والمتعاقدين العسكريين الخاصين للسيطرة، والسودان هو أحد الأمثلة.
أمير العُقيلي*
يُمثّلُ الهجومُ البارز ل”قوات الدعم السريع” على القصر الرئاسي السوداني منعطفًا حاسمًا في الصراع الدائر في البلاد، على الرُغم من أنَّ القوات المسلحة السودانية احتفظت بالسيطرة في نهاية المطاف. ما بدأ كصراعٍ على السلطة بين الجيش وميليشيا عسكرية تطوّرَ إلى صراعٍ مُتعدّد الأوجه للسيطرة، ليس فقط على مؤسّسات الدولة، بل أيضًا على موقع السودان في الجغرافيا السياسية العالمية. ورُغم أنَّ المخاوف الإنسانية تُهيمِنُ، وبحقٍّ، على عناوين الصحف، وسط المستشفيات المدمَّرة، والمجتمعات المَنهوبة، والمدنيين النازحين، فإنَّ سرديةً أعمق تتكشَّفُ تحت السطح. إنَّ السودان يُجسّدُ التطوُّرَ الحديث للحرب: مسرحٌ تتنافسُ فيه الجهات الحكومية التقليدية بشكلٍ متزايد مع الكيانات غير الحكومية المُمَكَّنة من خلال شراكات شركات عابرة للحدود تعمل في ظلِّ حدٍّ أدنى من الشفافية أو الرقابة.
لقد تحوّلت “قوات الدعم السريع”، التي كانت في الأصل ميليشيات “الجنجويد” خلال أحداث العنف في دارفور، إلى قوةٍ عسكرية هائلة. يعتمد نفوذها على علاقاتها الخارجية مع الحكومات الإقليمية والشركات متعددة الجنسيات والشبكات التجارية العابرة للحدود الوطنية.
الواقع أنَّ الحربَ في السودان ليست مجرّدَ صراعٍ بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان وحميدتي؛ بل هي تُمثّلُ التحوُّلَ العالمي للحرب. في جميع أنحاء العالم، تُشكل الجماعات المسلحة غير الحكومية تحالفاتٍ تتجاوزُ الشراكات العسكرية التقليدية، لتتعاون مع صناعات الاستخراج وشركات الخدمات اللوجستية والمتعاقدين العسكريين من القطاع الخاص. تُعيدُ هذه التعاونات غير التقليدية تعريف الصراعات المعاصرة، وتخلق مواقف مطوَّلة تتحدّى الديبلوماسية التقليدية ونهج حفظ السلام، بينما تُحقق أرباحًا طائلة لأصحاب المصلحة.
نوعٌ جديدٌ من اقتصاد الحرب
في الصراعات الحديثة، تُشكّلُ الشركات والجماعات المسلحة بشكلٍ متزايد شبكاتٍ متطوّرة تعمل عبر الحدود، خارج نطاق الرقابة التقليدية. تشملُ هذه العلاقات أنظمةَ دَعمٍ شاملة، وتمويلًا، وخدمات لوجستية، وتبادلًا للمعلومات الاستخباراتية، والوصول إلى أحدث التقنيات، بما في ذلك الطائرات المُسَيَّرة وأنظمة المراقبة.
في السودان، تُفيدُ التقارير إنَّ “قوات الدعم السريع” تحتفظُ بعلاقاتٍ مالية وثيقة مع صناعةِ تعدين الذهب المُربحة في البلاد، حيث تُستَخدَمُ هذه الإيرادات لتسليح المقاتلين وتعويضهم. وتعمل الشركات الدولية العاملة في مجال الاستخراج والتجارة بشكلٍ غير مقصود على تعزيز مثل هذه المجموعات من خلال توفير أُسُسٍ اقتصادية حاسمة.
يتكرّرُ هذا النمط عالميًا في أفريقيا والشرق الأوسط وأجزاءٍ من آسيا. فالشركات، التي غالبًا ما تتخذ من ولاياتٍ قضائية خارجية ذات تنظيم محدود، تُزوّدُ المنظمات المسلحة بخدماتٍ وموارد أساسية وشرعية، مما يُنشئ بيئات صراعية تُقاوِمُ الحلولَ الديبلوماسية التقليدية.
وما يجعل هذه الشراكات خطيرة بشكلٍ خاص هو افتقارها للشفافية. فالجماعات المسلّحة المدعومة من الشركات تعملُ في ظلِّ غيابِ الرقابة التنظيمية حيث تفشلُ المُساءلة. تمرُّ المعاملات المالية عبر ملاذاتٍ خارجية، وتصلُ المعدّات عبر وسطاء، وتتجنّب العقود بعناية الثغرات القانونية.
ومع أنَّ الشركات المستفيدة من الصراعات نادرًا ما تنخرطُ في عنفٍ مباشر، إلّا أنها تُوَفِّرُ البيئة الأساسية، وسلاسل توريد الذخيرة، وصيانة المركبات، وعمليات استخراج الموارد، والبنية التحتية التي تُمَكِّنُ الجماعات المسلحة من الاستمرار وتوسيع نفوذها.
في اليمن وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، أدت هذه العلاقات إلى إطالة أمد الصراعات إلى ما يتجاوز أسبابها الأصلية بكثير. وتفشل الاستجابات التقليدية -العقوبات والمبادرات الديبلوماسية ومهام حفظ السلام- باستمرار في معالجة الحوافز الاقتصادية القوية التي تُديم وتُطيلُ هذه الحروب.
يدورُ الصراعُ في السودان حول الذهب، ولكنه يدور في أماكن أخرى حول النفط والماس والأخشاب والمعادن النادرة. ويظلُّ هذا النمط ثابتًا: فالجماعات المسلحة ذات الموارد الاقتصادية الموثوقة تزداد ترسُّخًا، وتُشكّلُ تهديداتٍ أكبر للسكان المدنيين، وتجدُ حوافزَ أقل للسعي إلى السلام.
الأمرُ لا يقتصرُ على المال والسلاح
تتميّزُ صراعاتُ اليوم بالعمليات السيبرانية، والطائرات المُسَيَّرة، والمراقبة المُعزَّزة بالذكاء الاصطناعي، والدعاية الرقمية، مع تزايد امتلاك الجهات الفاعلة غير الحكومية لهذه القدرات. وتتدفّقُ هذه التقنيات المتقدِّمة عبر القنوات التجارية. من الطائرات المُسَيَّرة الاستهلاكية إلى تطبيقات برامج التجسُّس، يمكن للجماعات المسلحة الآن نشر قدرات على مستوى دولة بأقل تكلفة.
في السودان، تُعزّزُ “قوات الدعم السريع” التكتيكات التقليدية بتقنياتٍ حديثة لم تَكُن مُتاحة قبل سنوات قليلة. تُشيرُ الأدلّة إلى أنها تستخدم الاتصالات المُشَفَّرة، والمراقبة الجوية، وبرامج التعرُّف المتطوِّرة، وهي تقنيات مستوردة عبر شبكات الشركات العالمية بدلاً من تطويرها محلّيًا. يمثّلُ هذا الانتشار التكنولوجي تحدّيًا أمنيًا عميقًا. فمع اكتساب الجهات الفاعلة غير الحكومية قدراتٍ متطوّرة بشكلٍ متزايد، تصبح الاستجابات العسكرية التقليدية أقل فعالية في احتواءِ التهديدات، مما يفرضُ إعادةَ نظرٍ جذرية في استراتيجيات حلِّ النزاعات في هذا المشهد الجديد.
لا يُمثّلُ السودان حالةً شاذة، بل هو نموذجٌ للصراع الحديث. فقد تآكلت الحدود التقليدية بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، والأنشطة القانونية وغير القانونية، والتأثيرات المحلية والأجنبية. وتعمل جماعاتٌ مثل “قوات الدعم السريع” في آنٍ واحد كقواتٍ عسكرية، ومؤسّسات اقتصادية، وكيانات سياسية، ومبتكرة تكنولوجيًا حيث تندمجُ في شبكاتٍ تجارية ونفوذٍ عالمية.
المنظّمات الدولية غير مُستعِدّة
تُواصِلُ الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والقوى الديبلوماسية الغربية التعامل مع هذه الصراعات باعتبارها نزاعاتٍ تقليدية بين قادة عسكريين قابلة للتفاوض. ومع ذلك، عندما تُولِّدُ الحربُ أرباحًا عابرة للحدود الوطنية، يصبح السلام غير جذّاب ماليًا مقارنةً باستمرار الصراع.
لا تستطيعُ عملياتُ حفظِ السلام التقليدية مُضاهاةَ القدرات المالية واللوجستية للميليشيات المدعومة من الشركات. وكثيرًا ما تُغفِلُ العقوبات مصادرَ تمويلٍ حيوية. وقد فشلت الأُطُرُ القانونية الدولية في التكيُّفِ مع ظهورِ جهاتٍ فاعلة غير حكومية مدعومة من الشركات تُعيدُ تشكيل ديناميكيات الأمن العالمي. يتطلّبُ هذا التحوُّل مناهج مبتكرة لحلِّ النزاعات تُعالِجُ الحوافز الاقتصادية المُعقَّدة التي تُديم الحرب الحديثة، وتتجاوز الأُطُر الديبلوماسية التقليدية نحو انخراطٍ أكثر شمولًا في الأبعاد التجارية للصراع.
لمعالجة النزاعات المُعَقّدة، مثل نزاع السودان، بفعالية، يجب على المجتمع الدولي إعادة صياغة نهجه في التعامل مع الحروب جذريًا. يبدأ هذا بكَشفِ مصالح الشركات المستفيدة من عدم الاستقرار بشكلٍ منهجي. على الرُغم من أنَّ الاقتصاد التقليدي ينظرُ إلى النزاعات على أنها مُزعزِعة للاستقرار، إلّا أنَّ قطاعاتٍ مُحدَّدة، مثل الصناعات الاستخراجية، وشركات الأمن الخاصة، ومُصنّعي الأسلحة، وشركات البيانات، ترى فرصًا مربحة في الدول الهشّة.
إنَّ تطويرَ أُطُرِ مُساءلةٍ مُبتَكَرة تستهدفُ الشركات التي تُغذّي العنف يتطلّبُ تطويرَ آلياتٍ قانونية دولية تُعالج تواطؤ الشركات، وتطبيق أنظمة شفافية صارمة في مناطق النزاع، وفرض عقوبات تستهدف الشبكات اللوجستية بدلًا من القيادة العسكرية فحسب.
يجب أن تتطوَّرَ استراتيجياتُ حفظ السلام بالمثل إلى ما هو أبعد من النُهُجِ التقليدية. ينبغي أن تُعطي البعثات الحديثة الأولوية لتكتيكات التعطيل المالي، والرصد الشامل لسلسلة التوريد، والتتبّع المُتطوّر لتمويل الجماعات المسلحة وبنيتها التحتية للاتصالات. لقد أثبتت عمليات حفظ السلام البرّية التقليدية عدم فعاليتها في مواجهة النزاعات التي تُمَوَّلُ من خلال المراكز المصرفية العالمية.
يُمثل السودان تحذيرًا بالغ الأهمية: فبدون معالجة آليات التمويل والتجهيز الحديثة للجماعات المسلحة، ستستمر الصراعات إلى أجلٍ غير مسمّى، مُدمِّرةً السكان المدنيين ومُهَدِّدةً الاستقرار العالمي. يجب على المجتمع الدولي تطوير نُهُجٍ شاملة تُدمِجُ الاستراتيجيات الديبلوماسية والاقتصادية والقانونية والتكنولوجية لإدارة التحديات الأمنية المُعقّدة اليوم وحلّها بفعالية.
تطوُّرُ الحروب
الأزمةُ في السودان ليست مجرّدَ حربٍ أهلية أخرى، بل هي نموذجٌ لكيفية تطوُّرِ الصراعاتِ في القرن الحادي والعشرين. تُكافِحُ الديبلوماسية التقليدية وعمليات حفظ السلام للتكيُّف مع التغيّرات في الطبيعة الأساسية للقوّة.
تكتسب الجهات الفاعلة غير الحكومية نفوذًا غير مسبوق. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، منذ العام 2010، شملت أكثر من 70% من الصراعات الكبرى في جميع أنحاء العالم جماعة مسلحة غير حكومية واحدة على الأقل. أصبحت الشركات شركاء أساسيين في زمن الحرب، ونما القطاع العسكري والأمني الخاص ليصبح صناعة عالمية بقيمة 224 مليار دولار. زادت مبيعات الطائرات المُسَيرة التجارية إلى مناطق الصراع بنسبة 340% منذ العام 2018. إنَّ الصراعات لا تستمرُّ من خلال الإيديولوجية وحدها، بل من خلال النُظُمِ البيئية القائمة على الربح.
إذا كان المجتمع الدولي يأملُ في معالجة مسألة منع النزاعات وحلّها بفعالية، فعليه أن يتجاوزَ حدود الجنرالات والحكومات ليُدقّق في مجالس الإدارة والشبكات المصرفية والعلاقات التجارية. ففي السودان تحديدًا، تُمثّلُ صادرات الذهب، التي تُسيطرُ عليها الجماعات المسلّحة إلى حدٍّ كبير، 40% من صادرات البلاد، بقيمة تُقارب 2.5 ملياري دولار سنويًا. ويُشكّلُ تسليح التجارة المشروعة تحدّياتٍ مُعقّدة للاستجابة الإنسانية. فالتدفّقات المالية التي تبدو روتينية غالبًا ما تُخفي نوايا قاتلة. وتُصبحُ المساحاتُ الرقمية ساحاتَ معارك إلى جانب الأراضي المادية. ويواجه ضحايا هذه الصراعات الجديدة تهديداتٍ تتجاوزُ مناطق الحرب التقليدية.
في السودان، كما في أيِّ مكانٍ آخر، باتَ مستقبلُ الحرب مُبشّرًا. إنها ليست مجرّدَ حروبٍ بالرصاص، بل مُدمَّجة في جداول البيانات، ومُرمّزة في خوارزميات، ومُخبّأة في سلاسل التوريد، ومُموَّلة من خلال مشاريع تجارية تبدو مشروعة.
- أمير العُقيلي باحث وطالب دكتوراه في جامعة ولاية “واين” الأميركية.