رفعت طربيه يتحدَّى ذاته قبل خمسين سنة

هنري زغيب*

ما الذي يُريده رفعت طربيه من تقديمه “الأَمير المجنون” * ؟ هل تَحدِّي “هَمْلت” حتى الموت؟ أَم تَحدِّي الموت حتى الحياة؟

ربما كلاهما معًا: رفعت طربيه، بأَدائه خمسةَ فصول المسرحية الشكسبيرية الخالدة في ما سوى فصل واحد (اقتباس جيرار آفيديسيان بتحويله النص من 25 ممثلًا إِلى مونودراما لممثل واحد)، يتحدَّى ذاته منذ لعب “هَمْلت” قبل نصف قرن بإِدارة منير أَبو دبس في تلفزيون لبنان. وأَفضل علامة للتطوُّر الإِبداعي لا أَن ينافس الفنان مَن سبقوه، بل أَن يتحدَّى ذاته كي يصقلها بالأَرفع مُنَصَّعًا في ذاكرة الخلود.

كأَنما رفعت، في هذه المونودراما، يحقِّق للمسرح اللبناني علامةً بيضاءَ جديدةً، بحضوره الطاغي نحو 70 دقيقةً وحده مع لغة فصحى لم يَلْحَن بها، ولغة جسدٍ لم تخُنْهُ واقفًا أَو جاثيًا أَو منحنيًا خلال العرض. هكذا معه تَوازى النص المكتوب مع النص المؤَدَّى، في ديكور بسيط لا وظيفيَّةَ له سوى إِضافة المناخ الشكسبيري إِلى فضاء الخشبة.

وإِذا لينا أَبيض، بإِخراجها الحالي، احترمَت عناصر إِخراجية سابقة وضعها جيرار آفيديسيان حين أَخرج المسرحية مرة أُولى لليلة وحيدة سنة 2019 (توقفت بعدها المسرحية بسبب ثورة 17 أكتوبر، ثم توفي جيرار سنة 2023)، فلمسات لينا ظهرَت جليةً في سينوغرافيا ماهرة حافظَت على روح النص، وأَضفت عليه من تقْنياتها الإِخراجية البارعة لمسات واضحة.

ليس سهلًا أَن يقدِّم رفعت طربيه عملًا كلاسيكيًّا، فيما ابتعد المسرح اليوم عن المأْلوف الكلاسيكي إِلى تجارب ومحاولات حديثة. لكن رفعت كتب بجسده، وجسَّد نصه المونودرامي، وأَضاءَ عتْمة الخشبة ببراعةِ مَن أَمضى أَكثر من نصف قرن ممثِّلًا مع مخرجين لبنانيين ذوي رؤًى مختلفة، وما زال جاهزًا للإِدهاش في حيوية مسرحية ورشاقة تمثيلية.

لم يَكن يمثِّل، رفعت، بل كان ينبُض على مستويَـين: هو الممثل وهو الراوي، هو الثائر وهو المخدوع، وبذلك تجاوز كلَّ تاريخه المسرحي. وهو نجح بجمْعه في الفسحة الكتابية ترجمةَ جبرا ابرهيم جبرا، ومقطعَ “نكون أَو لا نكون” بترجمة خالدة السعيد ومراجعة أَدونيس. وأَثْبَتَ حضورَه بين شموع المسرح ووظيفية الستارة، فبقي واحدًا بإِيقاع منضبط، منذ ضربات المسرح الكلاسيكية الثلاث حتى سقوط هَمْلت قتيلًا صريعَ احتراقه بأَسئلته ومواجهتِهِ الحقيقةَ الأَخيرة، وفي كل هذا تخبُّط ذاتيّ وصراع داخلي تَمَظْهَر واضحًا لـمتعة الإِصغاء والمشاهدة.

هكذا رسَمَ رفعت طربيه السجْن الداخلي في عقل هَمْلت، وأَظهرَه ليَخرُجَ هو ذاتُه من سجْن هاجسٍ يُؤَرِّقه في وحدته، ويثْأَر من أَرَقِه بانغماسه في المسرح فضاءً وأَداءً وهربًا من وحشة الوحدة. ففي تدحرُجِ الرؤَى الهَمْلِتية بين الظلال والأَشباح، تَوَالي الأَزمة التي يعانيها “هَمْلت” من خيانة أُمه وعمِّه على السواء. وما كان يمكن إِبرازُها إِلَّا بما نَفَثَه رفعت في هذا المونولوغ الطويل.

وإِذا في تفكيك النص الشكسبيري براعةُ جيرار أَفيديسيان في الاقتباس، ففي براعة رفعت طربيه ما أَنسانا ضخامة المسرح الشكسبيري وقدَّمها لنا سائغةً توصِل المضمون وتجدِّد في الشكل عصرية هذا المضمون.

مع “الأَمير المجنون” تجاوَزَ رفْعَت طربيه اليوم رفْعَتَ كلِّ أَمس، وتوَّج مسيرتَه المسرحية بشعارِ أَنَّ السنَّ قد تخونُ الجسد، لكنها لن تخون الروح التي تحمِل صاحبها إِلى المابَعد في ذاكرةٍ وُثْقى.

*مسرح بيريت، الجامعة اليسوعية، طريق الشام، بيروت، كل جمعة وسبت وأَحد

Exit mobile version