رُغمَ اختلافاتهما، لا تزال تركيا وروسيا تشتركان في مصالح مشتركة في سوريا، بما في ذلك منع تنظيم “الدولة الإسلامية” من استعادة موطئ قدم له في البلاد، ومواجهة أجندة واشنطن عندما يخدم ذلك أهدافهما.
جورجيو كافييرو*
منذ بداية الحرب الأهلية السورية، وجدت تركيا وروسيا تبايُنًا في مصالحهما في البلاد، حيث دعمت أنقرة المتمرّدين المسلحين الساعين لإطاحة نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بينما كانت موسكو أحد الداعمين الرئيسيين لهذا النظام. وتفاقمت التوترات بينهما بعد تكثيف التدخُّل الروسي لصالح الأسد في أيلول (سبتمبر) 2015.
توصّلَ الجانبان في النهاية إلى اتفاقِ عمل، وأنشأا آلياتٍ ديبلوماسية لإدارة خلافاتهما وتهدئة القتال حتى أواخر العام الفائت، عندما أطاح هجوم للمتمردين، بموافقة ضمنية من أنقرة، الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر).
بعد دعمها للجماعات المناهضة للأسد طوال الحرب الأهلية، برزت تركيا أخيرًا كـ”أكبر رابحٍ” في سوريا. في المقابل، تراجع نفوذ روسيا في سوريا بشكل كبير مع تولّي الرئيس المؤقت ل”هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع، السلطة.
نتيجةً لذلك، ستظلُّ سوريا مصدرَ توتُّرٍ في العلاقات التركية-الروسية. ونظرًا لدور أنقرة في إطاحة الأسد، فإنَّ سقوطَ النظام السوري عزّز رؤية موسكو لتركيا كلاعبٍ انتهازي قادرٍ ومُستعدٍّ لتقويضِ المصالح الروسية بشدة. ولكن سواءً أكانا “خصمَين متعاونين” أم “مُتعاونَين مُتخاصِمَين”، فمن المرجّح أن تُواصِلَ أنقرة وموسكو التعاون في ما بينهما في الملف السوري وتجنُّب الأعمال العدائية.
صديقتان عدوّتان في سوريا
للدولتين، وللإمبراطوريتين السابقتين، قرونٌ من الخبرة في المواجهة والتعاون. خاضت السلطنة العثمانية عشراتَ الحروبِ مع الإمبراطورية الروسية بين القرنين السادس عشر والعشرين. وطوال فترة الحرب الباردة، تحالفت تركيا -العضو المؤسّس في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي كانت قيادتها معادية للشيوعية بشدة- مع الغرب ضد الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، وعلى مدار تاريخهما المشترك، أدرك الجانبان أيضًا أهمية التعايش كجارَين على البحر الأسود، والسعي إلى إقامة علاقات اقتصادية كلّما أمكن.
أهّلَهُما هذا التاريخ جيدًا لإدارة توتّراتهما خلال الصراع السوري. وبلغت هذه التوتّرات ذروتها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية دخلت المجال الجوي التركي لفترة وجيزة على طول الحدود التركية-السورية. ومع ذلك، فقد أعادا ضبط العلاقات لاحقًا بعدما دافع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن نظيره التركي رجب طيب أردوغان، في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي استهدفت أردوغان في تموز (يوليو) 2016. على النقيض من ذلك، أدت تلك الحادثة إلى تفاقم التوترات بين أنقرة وحلفائها التقليديين في “الناتو”.
بحلول العامين 2016 و2017، كانت تركيا قد تقبّلت بشكلٍ أساسي التدخُّل العسكري الروسي المُكثَّف في سوريا، والذي ساعدَ نظام الأسد على استعادة السيطرة على جُزءٍ كبيرٍ من البلاد. عمليًا، تخلّت أنقرة عن فكرة تغيير النظام وركّزت جهودها على تأمين الحدود التركية-السورية ومحاربة “وحدات حماية الشعب”، وهي ميليشيا تعتبرها أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يخوض تمرّدًا مستمرًّا منذ عقودٍ ضد تركيا.
منذ ذلك الحين، سعت تركيا وروسيا وإيران -وهي داعمة أخرى للأسد- إلى إدارة الأزمة السورية عبر عملية أستانا، وهي منصّة عملت الدول الثلاث من خلالها على تعزيز المصالح المشتركة في سوريا، كالحفاظ على وحدة أراضيها، وهزيمة الجماعات المتطرّفة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، والسعي إلى حلٍّ سياسي للصراع، على الأقل حتى إطاحة الأسد. في العام ٢٠١٩، نسّقت روسيا وتركيا سياساتهما على طول الحدود التركية-السورية، حيث أقرّت موسكو بصحّة مخاوف أنقرة الأمنية تجاه الجماعات الكردية المسلحة في سوريا واحتمال امتداد الصراع.
عمليًا، خفّضت عملية أستانا العنف في سوريا من خلال تجميد الحرب الأهلية بشكلٍ أساسي من خلالِ اتفاقياتٍ بوساطةٍ بدأت في العام 2017. وعلى وجه الخصوص، شهدت سلسلةً من صفقاتِ المرور الحرّ استسلامَ المتمرّدين المسلّحين وتسليم أراضٍ يسيطرون عليها في الجنوب مقابل السماح لهم بالانتقال إلى إدلب، وهي محافظة تقع في شمال غرب سوريا على طول الحدود التركية والتي فَقَدَ نظام الأسد السيطرة عليها في العام 2015. ونتيجةً لذلك، أصبحت إدلب معقلًا للمعارضة السورية وملجأً لملايين النازحين السوريين، حيث رسّخت “هيئة تحرير الشام” نفسها في نهاية المطاف ككيانٍ حاكم للجَيبِ غير الساحلي.
في العام 2020، بدأ الجيش السوري، بدعمٍ كاملٍ من موسكو وطهران و”حزب الله”، حملةً لاستعادةِ إدلب، لكن تركيا تدخّلت عسكريًا لإحباط دمشق من تحقيق هذا الهدف. كان الدافعُ الرئيس لأنقرة هو مَنعَ أيِّ تدفُّقٍ كبيرٍ للاجئين من إدلب إلى جنوب تركيا. وعلى الرُغم من أنَّ أنقرة لم تدعم “هيئة تحرير الشام” بشكلٍ مباشر، إلّا أنها أصبحت، بحمايتها لإدلب، المستفيد غير المباشر للجماعة والضامن الأمني الفعلي لها. وبحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، لم تتمكن “هيئة تحرير الشام” من شنِّ هجومها الخاطف الذي استولت فيه على حلب أوّلًا ثم دمشق، إلّا بموافقة ضمنية من تركيا، مُنهيةً بذلك 54 عامًا من حكم عائلة الأسد –و61 عامًا من الهيمنة السياسية البعثيةــ في سوريا.
مشاركةٌ براغماتية
في مواجهةِ واقعٍ جديد كُلِّيًا في سوريا، تصرّفت روسيا ببراغماتية. تواصل المسؤولون في موسكو ونظراؤهم الجدد في دمشق، حيث رأى الجانبان أهمية الحفاظ على العلاقات الثنائية رُغمَ عِبءِ دعم روسيا السابق للأسد. تتفاوض روسيا والحكومة السورية المؤقتة على شروط استمرار الوجود العسكري الروسي في طرطوس -وهي قاعدة بحرية استأجرتها لعقود قبل الحرب الأهلية- وفي حميميم، حيث أنشأت روسيا قاعدة جوية في بداية تدخلها في العام 2015. كما تناولت موسكو دورًا روسيًا محتملًا في مساعدة سوريا على إعادة الإعمار والتنمية بعد الحرب.
بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، تمتلك موسكو أوراقًا لتلعبها لتحفيز الحكومة السورية الجديدة بشكلٍ أكبر على العمل معها بطرق تُمكّن الروس من الاحتفاظ بقدر من النفوذ في سوريا حتى مع غياب الأسد. مع استمرار الولايات المتحدة في الوقت الحالي في فرض عقوباتها التي تعود إلى حقبة الحرب الأهلية على سوريا، لدى دمشق دوافعها الخاصة لإبقاء الباب مفتوحًا أمام علاقاتٍ جيدة مع روسيا.
مع تحوُّلِ تركيا إلى “صانعة الملوك الجديدة” في سوريا، يُدرِكُ الروس أنَّ تجنُّبَ التعاون مع أنقرة أو تجاهُل المصالح التركية في سوريا ليس خيارًا واردًا. لكي تتخذ روسيا أي خطوات كبيرة في سوريا، سيتعيَّن عليها التنسيق مع تركيا بطريقةٍ أو بأخرى. وإدراكًا منها لنفوذ تركيا -ليس فقط في سوريا، بل أيضًا في ما يتعلق بالبحر الأسود وأوكرانيا- تسعى القيادة الروسية إلى احتواء التوترات مع أنقرة.
من وجهةِ نظر تركيا، يُعَدُّ التنسيق مع روسيا على الجبهة السورية أمرًا بالغ الأهمية، لا سيما في ظلّ عدم القدرة على التنبُّؤ بتصرُّفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب والغموض المُحيط بنهجِ إدارته تجاه سوريا. إذا انتهجَ ترامب سياساتٍ تجاه سوريا تُقوِّضُ المصالح التركية، فقد يلجأ أردوغان إلى بوتين لموازنة نفوذ واشنطن. كما تُدرِكُ أنقرة أنَّ إسرائيل تُمارِسُ حاليًا ضغوطًا على الولايات المتحدة لدعم استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا كوسيلةٍ لمواجهة نفوذ أنقرة، في وقتٍ تشتدُّ التوترات التركية-الإسرائيلية تجاه سوريا. في هذا السياق، تُقيّمُ القيادة التركية أنَّ الحوار المثمر مع الروس يُفيدُ مصالح أنقرة في المدى الطويل.
في نهاية المطاف، تنظرُ تركيا وروسيا إلى بعضهما البعض بكثير من الريبة. يخشى الأتراك من طموحات روسيا ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضًا في أوروبا الشرقية. ومن المُرجّح أن تُضيفَ التطوّرات في سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية طبقات جديدة من الخلاف إلى العلاقة بين أنقرة وموسكو. مع ذلك، يُحسَبُ لحكومتَي أردوغان وبوتين سجلٌ حافلٌ بالنجاح في تجزئة القضايا، وإيجاد سُبُلٍ للتعاون في ملفاتٍ مُحددة رُغمَ وجود مصادر توتّر رئيسة في جوانب أخرى من العلاقة.
ونظرًا لحرصها الدائم على إثارة الخلاف بين تركيا وبقية دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإدراكها في الوقت نفسه لنفوذ أنقرة المتزايد في “سوريا الجديدة”، ترى روسيا في تركيا طرفًا فاعلًا يجب عليها التعاون معه في ظلّ تأقلم موسكو مع المشهد السوري المتغيِّر بعد الأسد. في الوقت نفسه، يرى المسؤولون في أنقرة أنَّ روسيا قوة عالمية مسلّحة نوويًا ولديها الوسائل لإلحاق الأذى الشديد بتركيا، فضلاً عن منح أنقرة المزيد من الخيارات للمناورة في عالمٍ متعدّد الأقطاب، وبالتالي منح الأتراك العديد من الأسباب للحفاظ على علاقات صحّية مع موسكو.
علاوةً على ذلك، ورُغم اختلافاتهما، لا تزال تركيا وروسيا تشتركان في مصالح مشتركة في سوريا، بما في ذلك منع تنظيم “الدولة الإسلامية” من استعادة موطئ قدم له في البلاد، ومواجهة أجندة واشنطن عندما يخدم ذلك أهدافهما. لهذه الأسباب، من المرجح أن يواصل البلدان التعاون بشأن سوريا وغيرها من الملفات، محافظَين على علاقاتٍ مُحتَرَمة وتنافُسية في آنٍ واحد.
- جورجيو كافييرو هو الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة “غولف ستايت أناليتِكس” (Gulf State Analytics)، وهي شركة استشارية في مجال المخاطر الجيوسياسية، مقرها واشنطن، وتُركز على الشرق الأوسط، وهو أستاذ مساعد في جامعة جورج تاون. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @GiorgioCafiero.