الدكتور فيكتور الزمتر*
مع إشراقةِ كلِّ شمس، تتكشَّحُ، أكثر فأكثر، ملامحُ مُخطَّطٍ، أقلُّ ما يُقالُ في بواكيره، أنَّها تحملُ نُذُرَ شؤمٍ للمشرق العربي المُعَذَّب.
ليس جديدًا الحديثُ على الشرق الأوسط، جديدًا كان أو كبيرًا أو مُوسٍّعًا، لكنَّه بقيَ في مرحلة جسِّ النبض، وتلَمُّس ردود الفعل عليه، بما يُشبه طمرَ نواته في تُربة العالم العربي الخصبة، بانتظار اليَناع والقطاف.
صحيحٌ أنَّ وزيرةَ خارجية أميركا، كونداليزا رايس، كانت أفصحَ من تكلَّم عن “الشرق الأوسط الجديد”، عندما تنكَّبت مهمة الإفصاح عنه أثناء حرب إسرائيل على لبنان، في العام ٢٠٠٦، واصفةً إيّاه بأنَّه الهديةُ المُرتجاةُ للولادة القاسية.
وكان سبقَ للرئيس جورج بوش (الإبن)، أن أطلقَ فكرةَ “الشرق الأوسط الكبير”، في العام ٢٠٠٢، قبل أن تتبنّى واشنطن، في العام ٢٠٠٤، فكرةَ “الشرق الأوسط المُوسَّع”، تحت الضغط الأوروبي. وما كان أمام إسرائيل إلّا أن تركبَ الموجةَ، عبر كتاب شيمون بيريز “الشرق الأوسط الجديد”، الصادر في العام ١٩٩٦. إلّا أنَّ أبرزَ تجلّيَات فكرة الشرق الأوسط، فقد تجسَّدت، في العام ٢٠٢٠، بتطبيع أربع دُوَلٍ عربيةٍ أُخرى، عدا مصر (كامب دايفيد ١٩٧٨) وفلسطين (أوسلو ١٩٩٣) والأُردن (وادي عربة ١٩٩٤)، وهي الإمارات، البحرين، المغرب والسودان عبر إبرام “اتفاقات أبراهام”، التي أرست معالمَ تحالُفٍ إقليميٍّ-عربيٍّ-إسرائيليٍّ-دوليٍّ، بقيادة الولايات المُتحدة.
وفي هذا السياق، كان من المُنتظَر من هذا التحالُف أن يقطفَ العربُ ثمار مشاركتهم فيه، بما يخدمُ قضاياهم ومصالحَهم العُليا. إلّا أنَّ واقعَ الحال لم يتطابقْ مع المُرتجى، ما يؤشِّرُ إلى أنَّ عيون العرب لم تكن ساهرةً كفايةً على ما يُطبَخُ لشرقهم في الغُرَف المُغلقة، حيث كانت واشنطن وتل أبيب ترعيان، برُموش العين، فكرةَ إعادة تركيب لغز الشرق الأوسط، بما يخدمُ مصالحَهما الإستراتيجية.
إنَّ تَتَبُّعَ تَبعات عملية “طوفان الأقصى” تُرخي بظلال الشكِّ على صحَّة جهل عين إسرائيل الساهرة، على الشاردة والواردة، بمُخطَّط تلك العملية المُعقَّدة! وعلى كلّ حالٍ، فقد حفَّزت تلك العملية مخاضَ المُخطَّط الشرق أوسطي، إذ بدأت ملامحُه ترتسمُ على وقع إنجازات التدمير المُمَنهج في غزَّة، والضربة المُوجعة ل”حزب الله” في لبنان، والتوسُّع المُريب في سوريا، على أثر السقوط المُزلزل للنظام السوري، لا سيَّما مع ما أفرزَه من فَرْزٍ إثنيٍّ وطائفيٍ، شمالًا وغربًا وجنوبًا.
فالمُعطيات السياسية، التي أعقبت عمليةَ “طوفان الأقصى”، تَشي بأنَّ الأُمورَ سائرةٌ، أقلُّه خلال السنوات الأربع المقبلة، إلى مزيدٍ من الضغط على الفلسطينيين واللُّبنانيين، من خلال إطلاق يد إسرائيل في غزَّة والضفة الغربية ولبنان. إلى ذلك، من المُرجَّح ألّا تكتفي إسرائيل بتقليم أذرع إيران في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، بل قد تُثابر على التحريض على البرنامج النووي الإيراني منعًا لاستكماله، هذا إن لم تستهدف نظامَ الملالي برُمَّته.
وإذا حصلَ لها ذلك، ستخلو لها الساحةُ، ليس فقط لاستكمال مشروع التطبيع، بل رُبٍّما للعبث بخريطة سايكس بيكو، إثنيًّا ومذهبيًّا، تأمينًا لإدامة زعامتها على الشرق الأوسط، بالشراكة، طبعًا، مع الولايات المُتحدة.
إنَّ تعبيرَ الشرق الأوسط هو مُصطلحٌ جغرافيٌّ يتسع لمصر، كجُزءٍ من الشرق الأدنى، بقدر اتساعه لتركيا، وجوبًا. من هنا، الخشيةُ أن تضطربَ العلاقات الإسرائيلية-المصريةُ مُستقبلًا، على خلفية تهجير سكّان غزَّة، في وقتٍ قد تكون تركيا، بعد إيران، قد دخلت مرحلة الإضطراب، على خلفية التحرُّكات الشعبية التي رافقت توقيف رئيس بلدية إسطنبول.
فالسيادةُ الإسرائيليةُ على الشرق الأوسط، ما فوقه وما تحته، لا يُمكن أن تأخُذَ مداها إن لم تُشرذَمْ المنطقةُ العربيةُ، عرقيًا وطائفيًا، بما يحولُ دون قيام امبراطورياتٍ إيرانيةٍ أو تركيةٍ.
إلى ذلك، كانت تل أبيب تُراكمُ، بدمٍ باردٍ وبعقلٍ مُتَّقدٍ، المخاوفَ في الوجدان الإسرائيلي على مستقبل الكيان، القائم في بيئةٍ مُعاديةٍ، بحجَّة وقوف فصائل “محور المُمانعة” بوجه إسرائيل، بدعمٍ سخيٍّ من إيران. ولذلك، عملت على تخمير تلك المخاوف الوجودية، ممّا أيقظ الموروث التاريخي بحلم مملكة “الشعب المُختار” على “أرض الميعاد”، حتى صارت المواجهةُ الفاصلةُ، من المنظار الإسرائيلي، مسألةً وُجوديةً، نكونُ أو لا نكون.
خُلاصةُ الواقع العربي أنَّ مستقبلَ الوضع في غزَّة غيرُ واضح المعالم لجهة هُويّة صاحب الكلمة الفصل في بقاء سكانه أو تهجيرهم. وهنا، تبرزُ الحاجةُ الماسَّةُ إلى جدّية العرب في الوفاء بالتزامهم بقضية فلسطين الأُم، مُلاقاةً لتجذُّر الغزّاويين بترابهم الوطني، رُغم مُكابدتهم المشهودة في الإقامة في العراء، والتعايُش مع الجوع ومُجاورة ضحاياهم، المدفونة تحت أنقاض منازلهم ومُدُنهم المجروفة…
أمّا بالنسبة إلى المشهد السوري، لم تستتبْ بعد ركائزُ النظام الجديد على نحوٍ مُطَمْئنٍ، والذي يبدو أنَّه بحاجةٍ إلى أمدٍ غير منظورٍ، بدليل الوقت الطويل المُستقطع لوضع الصيغة النهائية للدستور، الناظم لعلاقات مُكوِّنات البلاد المُجتمعية مع نظام الدولة الحاكمة.
يبقى الوضعُ اللُّبناني، الذي انتشى بولادة عهدٍ جديدٍ، بعد أكثر من عامين على الشغور الرئاسي. وبالرُّغم من الآمال العريضة، التي عُقدت على إعادة تكوين السلطة، ما تزال الشكوكُ تحومُ حول قُدرة العهد على إعادة اللّحمة الوطنية، و على الحفاظ على تمامية الحدود الدولية، بالنَّظر إلى ضبابية اتفاق وقف إطلاق النار، المُوقَّع بين “حزب الله” وإسرائيل، في ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٤. فالإتفاق الذي نصَّ صراحةً على انسحاب إسرائيل التدريجي إلى داخل الحدود الإسرائيلية خلال ستين يومًا، لم يُعْتَدْ به، كالعادة، من قبل إسرائيل، التي أبقت على احتلالها لخمس تلالٍ لبنانيةٍ مُشرفةٍ، بحجة تأمين الحماية لمُستعمراتها في الشمال. وهنا، يُخشى أن تتكرَّرَ حكاية “مسمار جحا” عَبر الإبقاء على احتلال النقاط الخمس تمكينًا لجحا الإسرائيلي من زيارة لبنان، للإطمئنان إلى مسماره المسموم، إلى أن يضجَّ اللُّبنانيون منه، فيخضعون له أو يرحلون.
تحدٍّ آخر، بغاية الخطورة، يبدو أنَّه مطروحٌ على العهد الجديد، من خلال تصريح مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، “ستيف ويتكوف”، للصحافي الأميركي المعروف “تاكر كارلسون”، يومَ السبت الفائت، بقوله: “أعتقد أنه بإمكان لبنان تطبيع العلاقات مع إسرائيل، من خلال إبرام معاهدة سلام بين البلدين. هذا ممكن حقًا. وينطبق الأمر نفسه على سوريا .. إنَّ تطبيعَ العلاقات بين لبنان وسوريا مع إسرائيل أصبح احتمالًا حقيقيًا .. تخيلوا لو طبَّعَ لبنان علاقاته مع إسرائيل، وطبَّعت سوريا علاقاتها، ووقعت السعودية اتفاقية تطبيع مع إسرائيل .. يمكن أن يكون ذلك جزءًا من عمليةٍ أوسع نطاقًا لإحلال السلام في المنطقة”. وللمرء أن يتصوَّرَ ما يمكن لمضمون هذا التصريح الملغوم أن يُحدِثَه في الساحة الداخلية اللُّبنانية، وجرحُ “حزب الله” ما زال ينزفُ.
لا شكَّ بأنَّ الظرفَ الدوليَّ الراهنَ عصيبٌ على العالم العربي، نظرًا لسيادة منطق القُوَّة في ظلِّ انحلال القِيَم واضمحلال الحسّ الإنساني دوليًا، وفي غياب وحدة الصف وصلابة الإلتزام عربيًا. لقد جرفت إسرائيل قطاعَ غزَّة وحوَّلته يبابًا غير قابل للعيش فيه، فهل كان الردُّ العربي بمستوى فظاعة المقتلة الإسرائيلية؟ وها هي تل أبيب ماضيةٌ بنقل جرّافاتها ومُدرَّعاتها إلى الضفَّة الغربية، لاستكمال مشروع التطهير، وُصولًا إلى بُلوغ صَفاء الكيان الإسرائيلي وسط اكتفاء العرب برشقات الإدانة والإستنكار الممجوجة!
يوردُ الفيلسوف الروسي، “ألكسندر دوغين”، مثالًا شعبيًا روسيًا، يقول: “وماذا أنتَ فاعلٌ”، بمعنى، إذا اكتفى العربُ بالإحتجاج كلاميًا على مضيّ نتنياهو بقصف غزَّة ولبنان وسوريا واليمن … سيكونُ جوابُه: “وماذا أنتُم فاعلٌون”، طالما ردَّةُ فعل المُحتجّ مُقتصرةٌ على “جعجعةٍ بلا طحنٍ”!
هذا المشهدُ المأساوي يقتضي قمَّةَ اليقظة ووحدةَ الصفِّ، لتجنيب الموطن الصغير ارتدادات المخاض الكبير الحاصل في الجوار. فالوقت ليس لرشّ الملح على الجراح المُثخنة، ولا للرّهان على الخارج ومكائده … فاللُّبنانيُّونَ، على اختلاف مشاربهم، أكثر الناس اختبارًا للحكمةِ القائلة بأنَّ “الدهرَ يومان”، ليتّعظوا من معاناة الماضي الأليم، كي لا يُعاودوا الإنتحار، ولا أن يتحوَّلَ القاهرُ إلى مقهورٍ، فيخسرُ مرقدَ العنزة الذي طالما تغنَّى به في زمن البقرات السِمان.
- الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب وسفيرٌ لبنانيٌّ سابقٌ.