هل يُعاقِبُ الشيعة “حزب الله”؟

فتحت حربُ الإسنادِ لقطاع غزة في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣ ونتائجها الكارثية على “حزب الله” وبيئته ولبنان، بابَ التساؤلات حول مدى استمرار مُراهنة الشيعة على خيارِ الحزب في الانتخابات المقبلة. تُحاول هذه المقالة فَهمَ المزاج الشيعي في لبنان حاليًا مُستَندةً إلى كيفيّة عمل سياسات الهوية وتأثيرها في الانتخابات بناءً على دراستَين للعالم والفيلسوف والإقتصادي السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما والإقتصادي البريطاني بول كوليير.

الدمار الذي خلّفته حرب إسرائيل على “حزب الله”: ماذا لو لم يتحقق الإعمار؟

ملاك جعفر عبّاس*

في جلسةٍ رمضانية جمعتني بأصدقاءٍ وأحبّةٍ في بلدتي الجنوبية تشعّبَ الحديثُ وفاضَ، من تقييمِ نتائج الحرب المُدمِّرة على “حزب الله” إلى استشراف مستقبل الشيعة في لبنان والمنطقة.

كانَ القلقُ من المستقبل والخوفُ من الحاضر يغلبان النقدَ والتشريحَ لمرحلةِ الحربِ التي أجمعَ الحاضرون في تلك الجلسة على أنَّ أخطاءً كثيرة، قبلها وخلالها، أوصلت الحزب إلى الهزيمة التي مُني بها. ولم يكن أيُّ من الحاضرين من المُنتمين إلى الحزب، وبعضهم ليس حتى من ناخبيه، لكنهم جميعًا من تلك البيئة الجنوبية التي نشأت على فكر المقاومة وذاقت كلَّ الحروبِ وويلات التهجير والتدمير والاحتلال التي عاشها ولا يزال يعيشها جنوب لبنان.

عند سؤالي الصريح: “هل ستصوِّتون للحزب في الانتخابات النيابية المقبلة؟”. أجاب الجميع بنعمٍ صادمة. كيف تصوّتون للحزب الذي جرَّ عليكم الدمار والخراب في حربِ الإسناد التي لم تَكُن لكم فيها ناقة ولا جمل فدمّرت بيوتكم، وأعادت إسرائيل احتلال جُزءٍ من أراضيكم، ولم يُقدِّم لكم الحزب حتى الآن ما يكفي من تعويضاتٍ لإعادةِ أيٍّ من ممتلكاتكم الى حالتها قبل الحرب؟ كيف تقترعون لمَن ربطَ مصيركم بالقرار الإيراني وبمحورٍ مُتهالك يفتقرُ لأدنى المقوّمات الاقتصادية؟ أنتم لم تنتخبوا الحزبَ أصلًا في السابق فكيف تُفكّرون بذلك الآن بعد كلِّ ما جرى؟

تلخّصت أجوبة الحضور بالتالي: “نحنُ في حربٍ وجودية، نكون أو لا نكون. وما أحداثُ الساحل السوري والخطابُ الداخلي الذي يستهدفنا والهجمة الإسرائيلية-الأميركية الشرسة علينا إلّا أسبابٌ إضافية لدفعنا للتمسُّك بخيار “حزب الله” الذي كانت لدينا انتقادات كثيرة على أدائه في السابق، تحديدًا خلال ثورة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩ وفي قراره فتح جبهة الإسناد، لكنه اليوم لا يستحقُّ منّا إلّا الالتفاف حوله ونحنُ على قناعةٍ بقدرته على لملمة جراحه وإعادة انتاج قدراته وقياداته”.

وأضافوا أنَّ المقتلة التي راح ضحيتها مئات العلويين في الساحل السوري وقراه هي مؤشّرٌ إلى السيناريو الأسود الذي ينتظرهم في لبنان إن سقط “حزب الله”. فهم يرون أنَّ مشاريعَ القتل والتهجير والتقسيم قد لا تتوقّف في سوريا أو فلسطين، بل يشعرون أنَّ دورهم سيحين عاجلًا أم آجلًا إن هم تخلّوا عن الحزب، وأنَّ السيد حسن نصر الله هو مَن أشعرهم بكرامتهم، ورَفعَ من شأنهم عندما لم يكن لهم صوتٌ ولا شأن، وليس من الوفاء له ولا للحزب الذي قدّمَ الدماءَ في سبيل الدفاع عن لبنان أن نتخلّى عنه في لحظة ضعفه.

هنا توقّفتُ عن الجدال بالمنطق والأرقام والوقائع السياسية والتاريخية لأُراقب أحد تجلّيات نجاح سردية “حزب الله” التي ربّى بيئته عليها منذ أكثر من ثلاثين عامًا واستحضَرتُ إحدى اللوحات الإعلانية التي تحملُ علمَ الحزب وتطلُّ على أحد الجسور في الضاحية الجنوبية لبيروت حاملةً شعار: “الحمد لله أننا دائمًا على حق”. لا مكانَ للمراجعة هنا. واحترتُ في تفسيرِ الدافع وراء موقف هذه المجموعة. فلا ارتباطَ عقائديًا هنا ولا تكليفَ شرعيًا، ولا ارتباطَ مصلحيًا ماديًا فهم لم يستفيدوا قط من التقديمات المادية والحوافز التي يقدمها الحزب لمُنتسبيه وبيئته اللصيقة، لكنهم ينتمون دينيًا الى المذهب الجعفري الإثني عشري، وينتمون إلى المجتمع الجنوبي المقاوِم للاحتلال بغضِّ النظر عمَّن يحملُ البندقية، وينتمون إلى الحاضنة الشعبية للاعبٍ سياسي اسمه “حزب الله”، وينتمون إلى لبنان وينتمون الى “محور المقاومة” وإلى جماعة الأقلّيات في الإقليم وإلى جموع المُناهضين في العالم لسياسات إسرائيل والولايات المتحدة. وهذه الانتماءات التي تشبه دمية ال”ماتريوشكا” الروسية تُشكّلُ في كليّتها الهوية الجماعية ل”بيئة المقاومة”، وهذا هو تعبيرهم المُفضّل عن أنفسهم.

لقد أبدعَ “حزب الله” في تطويرِ وتطويعِ الهوية الطائفية للشيعة على حسابِ هوياتها الأخرى خلال تاريخه من خلال تبنّي المظلومية الشيعية الممتدة على مدى أكثر من ١٤٠٠ عام واستحضار رموز الثورة الحسينية مُتبنّيًا شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وشكّلت التقاطُعات الدولية التي حكمت نهاية الحرب اللبنانية من دون تحرير الجنوب فرصةً لإيران وسوريا للإبقاء على سلاح “حزب الله”. كما مهّدَ النظامُ السياسي الطائفي في لبنان، وأداء الأحزاب الأخرى التي لا تقلُّ شعبوية عن “حزب الله”، الأرضية الخصبة لنموِّ العصبية الشيعية مدعومةً بفائضٍ من القوة روّضَ الخصومَ ونفخَ الأنا الشيعية إلى مستوياتٍ يصعبُ التعايش معها في بلدٍ قائمٍ على التعدُّدية والتشارُكية والمُحاصَصة تغيبُ فيه الدولة عن أبسط أدوارها. فقد ضخّت المنظومة الإيرانية الأموال، بلا حسيب ولا رقيب، ودرَّبت المشايخ والكوادر الحزبية والعناصر المقاتلة على مستوى عالٍ من الفعالية والانضباط التنظيمي والأخلاقي قلَّ نظيره بين الميليشيات اللبنانية التي خاضت الحرب، وأنشأت المؤسّسات الرديفة لمؤسّسات الدولة، التي كانت ولا تزال بعيدة من تلبية أيٍّ من حاجات وتطلّعات المواطن مهما كان انتماؤه، ما سمح ببناءِ شبكةٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية أتاحت السيطرة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا على المكوِّن الشيعي. وعملت مؤسّسات الحزب بدأبٍ وتركيزٍ على مدى سنوات طويلة على تأطير الشباب الشيعي في عقيدة الحزب الدينية، وتدريبهم في معسكراتٍ شبابية منذ نعومة اظفارهم، وشجعت نسخة محددة من حجاب النساء لا تشبه الحجاب التقليدي واشتغلت على خطاب التعبئة في الحسينيات والمدارس والأندية الرياضية والجمعيات الأهلية فخلقت مجتمعًا داخل المجتمع الشيعي يتمتّع بهوية عقائدية تُميّزه عن باقي المكوّنات الشيعية وغير الشيعية. وتوسَّعَ نفوذُ الحزب داخل الطائفة وخارجها خصوصًا بعد تحرير الجنوب في العام ٢٠٠٠، وبلغ ذروته بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام ٢٠٠٦. وأسرت كاريزما الأمين العام السابق للحزب السيد حسن نصر الله قلوب الملايين في لبنان وحول العالم ورفعته الهالة المقدسة، التي نسجها حول نفسه، وساعدته فيها آلةٌ إعلامية ودعائية ضخمة، إلى مصافي الأئمة المعصومين، فباتَ الآمر الناهي في مصير أتباعه ومريديه يستند إلى مخزونٍ ضخمٍ من السلاح والرجال وإلى خطِّ إمداد لا ينضب من طهران إلى بيروت. وقد شكّلت السنوات الخمس والعشرون الأخيرة، بحسب احد المتحدثين في تلك الجلسة، “العصر الذهبي للشيعة في لبنان”. “لم نشعر إننا أقوياء من قبل، باتت كلمتنا مسموعة، بات الآخرون يحسبون لنا حساب. وهذا كله بفضل السيد والشباب”، يتابع. وقد جمعت هذه الكتلة الحزبية حولها أعدادًا هائلة من المناصرين، انتسبوا لنادي محبي نصر الله والمقاومة ولم ينتسبوا لعقيدة الحزب، وشاركوا في تشييعه وفاءً له وليس للحزب. وقد شكّل هؤلاء خزّانًا انتخابيًا اعتمد الحزب عليه في كلِّ مراحل مشاركته في العمل السياسي إضافةً إلى تحالف الضرورة الذي طالما جمعه ب”حركة أمل” وتحالف المصلحة الذي جمعه ب”التيار الوطني الحر”.

وكما نجح الحزب في حشد التأييد له من البيئة الشيعية، نجح بالقدر نفسه في حشد الأعداء والخصوم في الداخل والخارج، فخسر كل امتداداته خارج بيئته اللصيقة. ويرى خصومه أنه من خلال تغوّله على الشرائح الشيعية المعارضة له واغتيالها معنويًا بحملاتِ تخوينٍ اعلامية، وفي بعض الأحيان، جسديًا من خلال اتهامه بتصفية المعارض لقمان سليم والتعدّي الجسدي على المرشحين الشيعة المعارضين في الانتخابات الماضية، نجحَ في إنهاء أي محاولة جدية لإنتاج معارضة شيعية فاعلة. وقد توسّعت دائرة العداء للحزب منذ أن دخل صولة الاغتيالات السياسية التي طبعت العام ٢٠٠٥، وكانت ذروتها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وطالت لائحة طويلة من الشخصيات المعارضة للحزب والوجود السوري في لبنان، وجولة الحرب الأهلية المصغّرة في ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨ حين أثبت لخصومه أنه قادرٌ على “تأديبهم” بالسلاح إن هم فكّروا في مدّ أيديهم على منظومته الأمنية، إلى دخوله أتون الحرب السورية تحت شعار “لبيكِ يا زينب” مُدافعًا عن نظام البراميل الأسدي، إلى محاولة قمع تظاهرات ثورة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩ التي شاركت فيها أغلبية ظلّت صامتة لعقود تحت شعار “كُلُّن يعني كُلُّن”، وتغطية سرقة الودائع من منظومة المصارف المُغطّاة سياسيًا منه ومن حلفائه، و”قبع” المحقق العدلي طارق البيطار في قضية انفجارِ مرفَإِ بيروت في ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٠ كما نقل عن المنسق الأمني للحزب وفيق صفا آنذاك. وفي انتخابات ٢٠٢٢، امتنع نصف الشيعة تقريبًا عن المشاركة في الانتخابات وحصد الحزب و”حركة أمل” كل المقاعد النيابية، فلعب الاعتكاف العقابي لمصلحة الحزب وأجهض أي قدرة على تجاوزه في مؤسّسات الدولة.

لقد اعتقد كثيرون أنَّ حربَ الإسناد العبثية ونتائجها الكارثية على الحزب وبيئته واتفاق وقف إطلاق النار المُذل، ستكون دافعًا لمعاقبته من ناخبيه في انتخابات ٢٠٢٦وقد تدفع بالشيعة الى التصويت لخياراتٍ أُخرى إن نجحت مُقايضة إعادة الإعمار بسحب سلاح الحزب. وُينافي هذا الاعتقاد الدراسات التي أجريت على أنماط التصويت في انتخابات المجتمعات التي تتعدّد فيها الهويات الصغرى “sub-national identities” وتتفوّق في تأثيرها على الهوية الوطنية عندما تغيب الدولة عن لعب دورها المحتكر للقوة والضامن للأمن والعدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي، كالمجتمعات القبلية في دولٍ أفريقية عاشت حروبًا أهلية. فقد أثبت البروفسور بول كوليير من جامعة أوكسفورد في كتابه “حروب وبنادق وانتخابات: الديموقراطية في الأماكن الخطرة[1]“، أنَّ هذه المجتمعات تميلُ إلى التصويت بناءً على خطوطِ الصدع، طائفية أو أثنية، وفاءً لهويّتها الصغرى، بغضِّ النظر عن إنجازات اللاعب السياسي في مجال الحوكمة ما يقضي على أيِّ آمالٍ بالإصلاح والتغيير. فهذا اللاعب السياسي مهما تعددت صفاته السيئة يبقى هو الحامي والضامن لبيئته في معركتها الوجودية. وليس بالضرورة أن تكون تلك البيئة في معركة وجود حقيقية إلّا أنَّ اللعبَ على وترِ سياسات الهوية قادرٌ على تحويلِ أيِّ خصومةٍ سياسية، بين هذا اللاعب واللاعبين الآخرين، الذين لا يقلّون سوءًا عنه في العادة، مهما كانت تافهة إلى معركة وجود وكرامة. وسياسات الهوية فعّالة وعميقة التأثير وعصيّة على المواجهة بالعقل والأرقام. ويشرح المفكر والفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتاب “الهوية[2]“، كيف يخاطب التيار الشعبوي، الذي يحترفه دونالد ترامب وفلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وتيارات الإسلام السياسي، مكنونات النفس البشرية الدفينة وحاجتها الأزلية إلى الاعتراف بالحقوق والقيمة والتاريخ، والتقدير للقوة، والإنجازات، والتضحيات، ويُغذّي خوفها من الآخر ويذخّره فيتحوّل أتباعه إلى أداةٍ طيِّعة يستخدمها كما يشاء خدمة لأجندته، يتظاهرون بالأمر، ينتخبون بالأمر، يحاربون بالأمر ويصافحون بالأمر. لكن هل إذا ما قرر أن ينتحرَ سينتحرون بالأمر؟ هل يذهب الشيعة إلى آخر الشوط مع “حزب الله” حطبًا في معركة الدفاع عن إيران حتى آخر قطرة دم شيعية؟ ربما سيفعلون.

هوامش

[1] Collier, Paul. Wars, guns and votes: Democracy in dangerous places. Random House, 2009.

[2] Fukuyama, Francis. Identity: Contemporary identity politics and the struggle for recognition. Profile books, 2018.

Exit mobile version