بتولّيها دور المُشَكِّل والمهندس لحلِّ مُعاناة سكان غزة، تبني مصر على تجربتها الطويلة والمُرهِقة في الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وكما أشار السيسي مرارًا بعد الكشف عن خطة إعادة إعمار غزة، فإنَّ “مصر التي قادت السلام في منطقتنا قبل نحو 50 عامًا… لا تعرف إلّا السلام القائم على الحق والعدل، والذي يصون الأرض والسيادة”.
ليزا أندرسون*
في مؤتمرٍ صحافي مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في شباط (فبراير) الفائت، رَوَّجَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمقترحه بأن تُسَيطِرَ الولايات المتحدة على غزّة، وتُفرِغَها من سكانها البالغ عددهم مليوني نسمة تقريبًا، وتُعيدَ تطويرَ القطاع كمنطقةٍ سياحية، “ريفييرا الشرق الأوسط”. مثل هذه الخطة مرفوضة لدى الدول العربية، إذ تعتبرها بمثابةِ قُبولٍ بالتطهير العرقي في غزة. في موقفٍ مُحرج، اعترضَ الملك عبد الله، مُشيرًا إلى أنه ينتظرُ خطّةً بديلة لغزة، خطة تُقدّمها مصر.
على الرُغم من أنَّ غزة تقع على حدودها، إلّا أنَّ مصر تركت القطاع لإسرائيل ثم ل”حماس” منذ عقود. في النهاية، لا تزال مصر تُعاني من آثار محاولتها الأخيرة لإحلال السلام في الشرق الأوسط – اتفاقية كامب دايفيد لعام ١٩٧٨ التي أنهت الأعمال العدائية بين إسرائيل ومصر. أُشيدَ في حينه بالاتفاقية باعتبارها انتصارًا، لكنها كلّفت مصر غاليًا. لم يؤدِّ هذا إلى اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في العام ١٩٨١ فحسب، بل أدّى أيضًا إلى تهميش دور القاهرة في المنطقة وتبعيتها الاقتصادية لواشنطن. كما أثار غضب الناس في مصر والشرق الأوسط عمومًا، ما غذّى التشدُّد الإسلامي الذي عصفَ بالمنطقة لعقود.
مع ذلك، تُتيحُ الحرب في غزة لمصر فُرصةَ استعادةِ مكانتها العربية. ففي الرابع من آذار (مارس)، كشفت مصر عما وصفته بـ”رؤيةٍ شاملة لإعادة إعمار غزة مع ضمان بقاء الفلسطينيين على أرضهم”. وقَدَّمَت خطّةَ إعادة إعمار غزة هذه في نشرةٍ من 112 صفحة، مُرفَقة بخرائط ورسومات مُوَلَّدة بالذكاء الاصطناعي، وجدولٍ زمني مُتدرِّجٍ على خمس سنوات، وموازنة تُقدّر بنحو 53 مليار دولار. وتتصوَّرُ الخطة إعادة تطوير البنية التحتية، وتوفير وحدات سكنية لـ1.6 مليون شخص، وميناءً بحريًا تجاريًا، ومركزًا تكنولوجيًا، ومناطق صناعية، وفنادق شاطئية، ومطارًا. وتُصرّ، خلافًا لادِّعاءات ترامب، على أنَّ هذا التطوير العقاري في غزة مُمكنٌ من دون تهجير سكانها. في الواقع، كان هذا هو الهدف الرئيس للخطة؛ إذ إن وصفاتها السياسية غامضة عمدًا، وتُحدّد إدارةً فلسطينيةً مؤقتةً تكنوقراطيةً للقطاع، بمساعدة قوات حفظ سلام دولية. وفي اجتماعاتٍ مُنفصلة عُقدت في أوائل آذار (مارس)، أيّدت جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإسلامية الخطة المصرية. وأشاد وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة بالخطة ووصفوها بأنها “واقعية”.
من جهتها، رفضت إسرائيل، التي يبدو أن حكومتها اليمينية عازمة على إجبار سكان غزة على النزوح، الخطّة فورًا. وصدرت عن واشنطن رسائل مُتباينة، حيث رفضها ترامب في البداية باعتبارها غير قابلة للتنفيذ قبل أن يُرَحِّبَ مسؤولون آخرون في الإدارة بالمبادرة. ووصف ستيف ويتكوف، المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، الخطة بأنها “خطوة أولى حسنة النية من المصريين”، ما يُشيرُ إلى أنَّ الاقتراحَ العربي لم يولد في الواقع ميتًا. لا شكَّ أنَّ هناك عقباتٍ لا تزالُ قائمة. لا يبدو أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولا ترامب في عجلة من أمرهما للتوصُّل إلى اتفاقٍ سياسي طويل الأمد. لكنَّ المصريين وضعوا بوادر أمل على الطاولة، وهو ما يفوق قدرة أيّ طرف آخر على فعله – وهذه خطوة مهمة للقاهرة.
بمجرَّدِ طرح خطة السلام هذه لغزّة، أنقذت مصر الطموح الفلسطيني لإقامة دولة من رغبة ترامب في استحضار صفقة تطوير عقاري باذخة. وعلى نطاقٍ أوسع، تسعى القاهرة إلى استعادة إرث كامب دايفيد المُتعثّر. وبذلك، قد تتمكّن مصر من تنويع مصادر دعمها الاقتصادي في وقتٍ يتأرجح اقتصادها على شفا أزمة. يعتمد نجاح القاهرة على استعادتها لدورها الذي غاب عنها لعقود، وهو دورٌ قائد إقليمي قادر على حشدِ الدعمِ من مجموعةٍ واسعة من الحكومات ذات المصالح المتنوّعة والمُتضاربة في كثيرٍ من الأحيان. تتعدّدُ العقبات التي تعترضُ الخطة المصرية، لكن مصر قد تخرجُ من حرب غزة مرة أخرى كقوّةٍ محورية في الشرق الأوسط.
تكاليف السلام
كان الدورُ القيادي لمصر في تصوُّرِ مستقبل غزة بعد الحرب مفاجئًا بعض الشيء، ويشهدُ جُزئيًا على تاريخها الوثيق مع غزة نفسها، ولكن الأهم من ذلك، على إرهاق وقلق المنافسين الآخرين المحتملين على القيادة الإقليمية. آخر مرة أبرمت فيها مصر صفقة كبرى مع إسرائيل بناءً على طلب الولايات المتحدة، لم تنتهِ على خير. وقد حاز السادات جائزة نوبل للسلام (مناصفةً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن) بفضل اتفاقية كامب دايفيد للسلام التي توسطت فيها واشنطن في العام ١٩٧٨، وحققت لمصر ما اعتبرته الولايات المتحدة وحلفاؤها استقرارًا مُثيرًا للإعجاب. إلّا أنها في معظم الجوانب الأخرى، كانت مُضرّة للغاية.
نُبِذَت مصر في المنطقة. عُلِّقَت عضويتها في جامعة الدول العربية، وتعرَّضت لانتقاداتٍ من الحكومة الثورية في إيران، فتنازلت عن موقعها القيادي في الشرق الأوسط لسلسلةٍ من الطامحين إلى العظمة، بمَن فيهم معمر القذافي في ليبيا وصدام حسين في العراق، واليوم، لحكام الخليج الطموحين والأثرياء، ولا سيما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وتبيّنَ أنَّ غالبية الفوائد الاقتصادية لاتفاقيات السلام وهمية، إذ فشل “السلام البارد” في تحفيز التجارة، وجعل مصر في النهاية تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات الخارجية الأميركية. ففي العام 2024 وحده، تلقّت مصر أكثر من 1.5 مليار دولار من الولايات المتحدة؛ ذهب 80% من هذا التمويل إلى الإنفاق العسكري، أما الباقي، والذي تديره إلى حدٍّ كبير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تمَّ تفكيكها الآن، فقد دعم برامج تتعلّقُ بالتعليم والرعاية الصحية وانعدام الأمن الغذائي، وحتى الحفاظ على الآثار التي تدعم السياحة، وهو استثمارٌ يهدف، كما وصفته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قبل سنوات عدة، إلى “تقليل اعتماد مصر على الديون الخارجية” ودعم “رحلة البلاد نحو الاعتماد على الذات”.
خلالَ عقودٍ من الاعتماد، أصبحت مصر بارعة في تأمين الموارد -دعم الموازنة العامة وتخفيف أعباء الديون، والمساعدة الإنمائية، والمعونة العسكرية- من خلالِ لعبِ دورٍ مُفيدٍ في تعزيز مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في المنطقة. بين العامين 1978 و2022، قدمت الولايات المتحدة لمصر أكثر من 50 مليار دولار من المساعدات العسكرية و30 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية. ولتحقيق هذا، ضمنت مصر للولايات المتحدة أنها لن تُشَكِّلَ أيَّ تهديدٍ عسكري خطير لإسرائيل، وأنها ستتعاون في مكافحة الإرهاب، وأنها ستساعد في ملفات ليبيا والسودان المعقَّدة، إلى جانب تقديم عددٍ لا يحصى من الخدمات المفيدة الأخرى، بما في ذلك المرور التفضيلي في قناة السويس. ولكن لم تكن كل التدفّقات مساعدات؛ فقد ذكّرت الاضطرابات المحيطة بالإطاحة بالرئيس حسني مبارك في العام 2011 المؤسّسات المالية الدولية المدعومة من الولايات المتحدة بأنَّ مصر “أكبر من أن تفشل”. وارتفع الدين الخارجي للبلاد من أكثر بقليل من 40 مليار دولار في العام 2014، عندما تولّى الرئيس الحالي، الجنرال عبد الفتاح السيسي، منصبه، إلى أكثر من 160 مليار دولار في العام 2022، مع فتحِ خطوطِ ائتمان جديدة مع صندوق النقد الدولي والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومع تفاقُم الوضع الاقتصادي للبلاد بسبب جائحة “كوفيد-19” والحرب في أوكرانيا، أصبحت مصر ثاني أكبر عميل لصندوق النقد الدولي، بعد الأرجنتين فقط.
لم يَكُن التأجيل المستمر لـ”رحلة مصر نحو الاعتماد على الذات”، على حدِّ تعبير تقرير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، النتيجة الوحيدة غير المتوقَّعة لمعاهدة السلام مع إسرائيل؛ بل كانت هناك عواقب سياسية لا تزال تتردّد أصداؤها حتى اليوم، حتى بعد فترة طويلة من عودة مصر المتردّدة إلى الساحة السياسية الإقليمية العربية في أواخر الثمانينيات الفائتة. اعتبر الرأي العام في الداخل والخارج الحكومة المصرية مُتواطِئة على نطاقٍ واسع في الفشل في التوصل إلى تسوية عادلة للفلسطينيين. وقد غذّت هذه المظالم غير المحسومة خصوم إسرائيل والولايات المتحدة الإسلاميين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك إيران وتنظيم “القاعدة”، وبالطبع “حماس” في غزة. لطالما كانت الحكومات العسكرية المصرية متشكّكة بشدة في الحركات الإسلامية، ولا سيما جماعة “الإخوان المسلمين” المصرية، وقد وصل السيسي نفسه إلى السلطة بانقلابٍ عسكري ضد رئيس ينتمي إلى جماعة “الإخوان المسلمين” انتُخِبَ بعد انتفاضة العام 2011. وحتى لو كان الرئيس المصري يتعاطف بشكلٍ كبير مع القضية الفلسطينية، فإنه لا يتعاطف مع “حماس”، ولا يُكنّ احترامًا واضحًا لقيادة السلطة الفلسطينية.
مع ذلك، يُشكّل إهمالُ الفلسطينيين خطرًا سياسيًا، وربما شخصيًا أيضًا. كان أحد أعضاء حركة “الجهاد الإسلامي”، وهي فرع متطرّف من جماعة “الإخوان المسلمين”، هو من اغتال السادات في العام ١٩٨١، بعد ١٨ شهرًا فقط على توقيع معاهدة السلام. وقد قوبلت عملية الاغتيال، التي وقعت أثناء العرض العسكري السنوي للاحتفال بالانتصارات المصرية في بداية الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973، بقبولٍ عام من جانب حكومات العالم الإسلامي. ورُغمَ حضور ثلاثة رؤساء أميركيين وعدد من رؤساء الدول الأوروبية الجنازة، إلّا أنَّ الزعيم العربي الوحيد كان رئيس السودان. وأطلقت إيران اسم قاتل السادات على أحد شوارع طهران.
الصفقة المصرية
كانت تكاليفُ نهجِ السادات الانفرادي معروفةً جيدًا للسيسي، وهو يضعُ خطةً لإخراج سكان غزة من بؤسهم من دون الموافقة على المقترحات الأميركية والإسرائيلية لنقلهم إلى دول أخرى، بما في ذلك مصر نفسها، التي تستضيف أصلًا حوالي 100 ألف غزّي فرّوا من الهجوم الإسرائيلي بعد هجمات حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر). واجهت الحكومة المصرية ثلاثة تحدّيات في وضع خطتها. كان عليها عرقلة جهود ترامب لتحويل النقاش من المفاوضات حول التطلّعات الفلسطينية إلى المساومة على عقود التمويل والبناء لمشروع تطوير عقاري. كما احتاجت مصر إلى إثباتِ إمكانية وَضعِ ترتيبٍ لإدارة غزة يعكسُ السعي الفلسطيني إلى إقامة دولة. وأخيرًا، أمل القادة المصريون في استغلال الحرب لضمان استمرار التدفّقات المالية التي من شأنها درء الأزمة الاقتصادية في الداخل، حيث يعاني واحد من كل سبعة أشخاص من انعدام الأمن الغذائي، ويعاني أكثر من واحد من كل خمسة أطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية وقصر القامة.
كلُّ هذا يتوقّفُ على قدرة مصر على الاضطلاع بدورٍ لم تلعبه منذ عقود. إنها بحاجة إلى حشدِ الدعمِ من الحكومات في المنطقة وخارجها التي لها مصالح مختلفة ومتنافسة في كثير من الأحيان في علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة. أصرّت مصر على أنَّ حتى أكثر مشاريع إعادة الإعمار طموحًا لا تتطلّبُ إخراجَ أيِّ شخصٍ من غزة؛ وفي هذا المسعى، تتمتّعُ مصر بتجهيزٍ جيد بشكلٍ خاص لجمع التمويل من مجموعة متنوعة من البلدان، بما في ذلك الصين والمملكة العربية السعودية وتركيا، وطلب عروض من الشركات الدولية لعقود إعادة بناء البنية التحتية المادية في غزة. بعد كل شيء، أظهر السيسي بالفعل حماسه لمثل هذه المشاريع الضخمة في تطوير العاصمة الإدارية الجديدة لمصر، والتي صُمِّمت لإيواء أكثر من ستة ملايين نسمة وتغطي منطقة خارج القاهرة تبلغ ضعف مساحة قطاع غزة.
لا يمكن اعتبار القادة المصريين يبيعون الفلسطينيين مرة أخرى كما فعلوا بعد اتفاقية العام 1978، بمفردهم أو بالتنسيق مع حلفائهم، مهما كانت تكلفة ذلك. وبصرف النظر عن مبدَإِ دعم حقوق الفلسطينيين في وطنهم -وهو مبدأٌ مُتَبنّى على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة- يجب على القاهرة أن تتعاملَ مع اعتبارات أكثر دنيوية. يعلم السيسي أنَّ تضخيمَ صفوف الفقراء المتضخِّمة بالفعل في مصر باللاجئين الفلسطينيين لن يعزز “رحلة البلاد نحو الاعتماد على الذات”. من المرجح أن يحتاج سكان غزة، أينما كانوا يعيشون، إلى مساعدة إنسانية كبيرة ومستدامة. ومع ذلك، فإنَّ هذا القطاع محاصرٌ أصلًا، كما يشير تفكيك إدارة ترامب للوكالة الأميركية للتنمية الدولية وحظر إسرائيل للأونروا (وكالة الأمم المتحدة التي قدمت المساعدة للاجئين الفلسطينيين لمدة 75 عامًا) من العمل في الضفة الغربية وغزة. علاوة على ذلك، فإنَّ أيَّ تدفُّق كبير للاجئين من غزة سيشمل حتمًا مؤيّدي “حماس”. من شأن هذا أن يُهدد استقرار الحكومة المصرية -كما أدرك خلفاء السادات- وربما الأكثر إثارةً للقلق أنه قد يُوفر مبرِّرًا للتدخّلات الإسرائيلية في الشؤون الداخلية المصرية، سواءً كانت توغلات إقليمية، كما يبدو أنه يحدث حاليًا في سوريا، أو من خلال عمليات سرية، مثل مناورة الاستخبارات الإسرائيلية عالية التقنية في أيلول (سبتمبر) 2024 التي شهدت تفجير آلاف أجهزة النداء واللاسلكي التابعة لعملاء “حزب الله” الشيعي في لبنان في يوم واحد.
لن تسمح الحكومة المصرية لنفسها بتجاوز الرأي العام أو حلفائها الإقليميين. ما لم تكن الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، بما في ذلك الإماراتيون والأردنيون والقطريون والسعوديون، على استعداد لتحمّل العبء المتعلِّق بسمعتها، وربما المالي والحكومي، للتوصل إلى اتفاق بشأن إدارة غزة، فلن تكون أي خطة قابلة للتنفيذ. لكن مصر تعود إلى دورها القديم كمُنسِّقٍ إقليمي. بدعوة جامعة الدول العربية، التي كانت في حالة احتضار أخيرًا، لمناقشة مقترحاتها، كانت مصر وحكومات عربية أخرى تُعرِبُ عن آمالها في تشكيل جبهة موحدة، جبهة لن تتفكك بفعل تكتيكات “فرّق تسُد” التي اتبعتها إسرائيل في اتفاقيات السلام المنفصلة مع مصر في سبعينيات القرن الماضي، ومع الأردن في تسعينياته، وفي اتفاقيات أبراهام الأحدث عهدًا بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. وقد أكد الأمين العام للجامعة (ووزير الخارجية المصري السابق) أحمد أبو الغيط أنَّ “الخطة المصرية أصبحت الآن خطة عربية”.
لا شكَّ أنَّ الخطة، جُزئيًا، كانت مُبَسَّطة نسبيًا في تفاصيل الإدارة السياسية لغزة، نظرًا لاحتمال رفض إسرائيل والولايات المتحدة أي عرضٍ أولي رفضًا قاطعًا (وهو ما حدث بالفعل). اقترحت الخطة تشكيل بعثة مؤقتة لمساعدة الحكم الرشيد بقيادة تكنوقراط فلسطينيين، وإعادة إحياء دور السلطة الفلسطينية، لكن التفاصيل كانت غامضة عمدًا لإفساح المجال أمام مفاوضات مستقبلية. وكخطوةٍ افتتاحية، بدا أنها نجحت: فقد خفف ويتكوف، المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، من حدّة إدانة ترامب الأوّلية للخطة، قائلًا إنها “تحتوي على العديد من الميزات الجذابة”.
سيتعيَّن على ويتكوف وإدارة ترامب إقناع إسرائيل بمزايا التسوية مع جيرانها العرب. بقدرِ ما يبدو ترامب مُستَعِدًّا لمنح نتنياهو حرية التصرف في غزة وحريصًا على تحويل القطاع إلى “ريفييرا” برّاقة، فإنَّ للرئيس أيضًا مَصالِحَ في علاقاتٍ ودية، وربما مُربحة، مع دولٍ أخرى في المنطقة، بما في ذلك أطراف اتفاقيات أبراهام، الذين كان غزو إسرائيل لغزة وهجماتها في لبنان وسوريا مصدر إزعاج وإحراج لهم. وقد صرّحت إسرائيل بأنها لن تُعوّض الفلسطينيين أو تُساهم في دفع تكاليف إصلاح الأضرار التي ألحقتها بغزة، ولكن قد تضطر الحكومة الإسرائيلية إلى التنازل عن مزيد من الاستقلال السياسي وجدول زمني أطول -إن لم يكن ترتيبًا دائمًا- مما ترغب فيه لأولئك الذين سيدفعون تكاليف إعادة الإعمار.
مَن سيدفع الفاتورة؟ قد تكون هذه فرصة لمصر لمواجهة تحدٍّ آخر تواجهه وتنويع محفظة رعاتها بعيدًا من الاعتماد على عائدات الأزمة التي خدمت في إبقائها (والأردن) مرتبطةً بالدعم الأميركي. أوضح ترامب أنه لا يرغب في تمويل مصر إلى أجلٍ غير مسمى، ويريد اختصار رحلة البلاد نحو الاعتماد على الذات. وعندما سُئل عما إذا كان سيقطع المساعدات عن مصر والأردن إذا لم يستقبلا لاجئي غزة، أجاب ترامب: “نعم، ربما، بالتأكيد، لِمَ لا؟ إذا لم يفعلا ذلك، فمن المحتمل أن أقطع المساعدات، نعم”. ورُغم أنَّ إدارته تراجعت عن هذا التهديد منذ ذلك الحين، إلّا أن تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قد عرّض بالفعل برامج مدنية مهمة في كلٍّ من الأردن ومصر للخطر.
من الواضح أنَّ دول الخليج الغنية ستلعب دورًا رئيسًا في توفير تمويل إعادة إعمار غزة، ومن المرجح أن تطلبَ مصر نسبةً من هذا التمويل مقابل عملها كمقاولٍ عام. وفي تأييدها للخطة، دعت منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تضم 57 عضوًا، “المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية إلى تقديم الدعم اللازم لها على وجه السرعة”. بل إنَّ زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس الوزراء السابق يائير لابيد اقترح تعويض مصر عن دورها الإداري في غزة مقابل تخفيف أعباء ديونها الخارجية دوليًا. ولا ننسى أنَّ نفوذ الصين في مصر قد ازداد بشكلٍ ملحوظ خلال العقد الماضي، حيث زار السيسي بكين أكثر من ضعف عدد زياراته إلى واشنطن خلال فترة ولايته، واحتفل البلدان بعام 2024 “عام الشراكة المصرية-الصينية”. وأيّد وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الاقتراح المصري، قائلًا إنَّ “جميع الأطراف في الشرق الأوسط يجب أن تتغلب على خلافاتها لدعم قيام الدولة الفلسطينية”، بينما ينبغي على القوى الخارجية تعزيز السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
بتولّيها دور المهندس لحلِّ معاناة سكان غزة، تبني مصر على تجربتها الطويلة والمرهقة في الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وكما أشار السيسي مرارًا بعد الكشف عن الخطة، فإنَّ “مصر التي قادت السلام في منطقتنا قبل نحو 50 عامًا… لا تعرف إلّا السلام القائم على الحق والعدل، والذي يصون الأرض والسيادة”. الخطوة التالية هي إسرائيل. غزة أكثر من مجرّدِ أرضِ مُدَمَّرة، موطنٌ لشعبٍ مُهجّر تحكمه إسرائيل إلى الأبد. يبدو أنَّ مصر على أهبّة الاستعداد لتكريس قوتها التنظيمية وخبرتها ومهاراتها لتحقيق مستقبل عادل ومستدام للمنطقة وشعبها والمنطقة بأسرها.
- ليزا أندرسون هي أستاذة العلاقات الدولية الفخرية في جامعة كولومبيا، وكانت رئيسة الجامعة الأميركية في القاهرة من العام 2011 إلى العام 2015.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.