سلوكُ مصرالإقتصادي والمالي يُحيِّرُ المؤسّسات الدولية ويُكَيِّفُها!

يبدو أنّ صندوق النقد الدولي تخلّى عن الإصلاح الهيكلي في مصر، وتَكيّفَ مع الدور الاقتصادي الاستراتيجي للجيش.

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي: ستتمُّ في العام 2025 خصخصةُ عشر شركات مملوكة للدولة، بما فيها أربع شركات عسكرية.

يزيد صايغ*

في الأسابيع القليلة الماضية من العام 2024، كان هناك تطوّران جديران بالملاحظة للاقتصاد المصري. في 11 أيلول (ديسمبر)، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أنه ستتمُّ في العام 2025 خصخصةُ عشر شركات مملوكة للدولة، بما فيها أربع شركات عسكرية. وبعد أسبوعين، أكد صندوق النقد الدولي أنه توصّلَ إلى اتفاقٍ على مستوى الموظّفين لإطلاق 1.2 مليار دولار في شكلِ قروضٍ جديدة لمصر، رهنًا بموافقة المجلس التنفيذي للصندوق.

ربما كان توقيت الإعلانَين القريب أكثر من مجرّد مصادفة. فقد أعلن مدبولي ووزراءٌ آخرون في الحكومة في وقتٍ سابقٍ عن الخصخصة الوشيكة للشركات المملوكة للدولة، بما فيها الشركات العسكرية، كوسيلةٍ للتأثير في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي قبل اتفاقيات القروض الجديدة أو مراجعات الصندوق للتنفيذ المصري للمعايير المُتَفَّق عليها. والأمرُ الأكثر أهمية هو أنَّ صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية والوكالات المانحة يبدو أنها قد تكيَّفت مع الوجود الاستراتيجي للجيش ودوره في الاقتصاد المصري.

ويبدو أيضًا أنَّ صندوق النقد الدولي مُستَعِدٌّ للمشاركة، على الرُغم من فشل الحكومة المصرية بشكلٍ واضح في إجراءِ إصلاحاتٍ هيكلية للوفاء باتفاقية القرض التي تمَّ التوصل إليها في كانون الأول (ديسمبر) 2022، ثم تمَّ توسيعها في آذار (مارس) 2024. والأمر الأكثر أهمية هو أنَّ الحكومة تعهّدت بوضع جميع الشركات المملوكة للدولة ــبما فيها الشركات العسكريةــ في إطارٍ مُوَحَّد للإدارة المالية الشفافة والإبلاغ عنها، ونشر تقارير شاملة ومفصّلة عن الإنفاق الضريبي السنوي ونصف السنوي، وإنهاء الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة، وتحسين الإجراءات الجمركية وتبادل المعلومات.

ولم يحدث أيُّ شيءٍ تقريبًا من هذا، باستثناء إنهاء الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة ــ ولكن حتى في حينه، لم يحدُث ذلك  للشركات العسكرية. ويؤكد مسؤولون من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشكلٍ خاص أنَّ التقارير الضريبية التي قدمتها الحكومة أقل كثيرًا من المُتطلّبات. من الواضح أيضًا أنَّ إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي تجاهلت حَثَّ صندوق النقد الدولي المُتكرّر منذ جائحة فيروس كورونا على إبطاء الإنفاق الضخم على مشاريع الأشغال العامة العملاقة التي تديرها المؤسسة العسكرية. وإذا أخذنا هذه العيوب مُجتمعة، فإنها تجعل الكثير من برنامج الإصلاح المُتَّفَق عليه بلا معنى. لكن صندوق النقد الدولي زاد القرضَ الممنوح لمصر من 3 مليارات دولار، تم الاتفاق عليها في الأصل في العام 2022، إلى 8 مليارات دولار في العام 2024، وأطلق شرائح أخرى من التمويل.

كيف إذًا نُقَيِّمُ مُقرضًا يدّعي أنه يسعى إلى الإصلاح الاقتصادي البنيوي ومع ذلك يكتفي مرارًا وتكرارًا بالسراب؟ إنَّ حقيقةَ أنَّ الحكومة المصرية استغلّت كثيرًا جهودها لخصخصة شركات مملوكة للدولة مختارة على مدى العامين الماضيين، على الرُغم من أنَّ صندوق النقد الدولي لم يضغط من أجل هذا، تشيرُ إلى أنَّ الخصخصةَ المحدودة هي نشاطُ ادعاءات كاذبة من قبل السلطات غير الراغبة في إجراء إصلاحٍ هيكلي. وعلى نحوٍ مماثل، فإنَّ الحديث عن خصخصة حفنة من الشركات العسكرية يُشكّلُ أيضًا تشتيتًا للانتباه عن التحدّي الحقيقي المتمثّل في جعل تمويل جميع الشركات العسكرية ــالتي يزيد عددها الآن عن 70 شركةــ والأشغال العامة التي تُديرها المؤسّسة العسكرية شفافًا. فضلًا عن ذلك، لم يتم طرحُ أيّ سهمٍ واحد في الشركات العسكرية بالفعل، بعد ثماني سنوات كاملة منذ اقتراح إدراجها في البورصة المصرية لأول مرة.

إنَّ الحكومة المصرية تفتقرُ إلى النفوذ السياسي اللازم لفرض رقابتها المالية على الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية القوية، حتى ولو كانت راغبة حقًّا في ذلك. وكان صندوق النقد الدولي يُدركُ هذا الأمر منذ البداية. وكان إقناع الحكومة المصرية بالاعتراف رسميًا بأنَّ الشركات العسكرية تندرج تحت مسمى الشركات المملوكة للدولة، وأنه ينبغي إخضاعها للنظام المالي، إنجازًا بالفعل بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي. ومن المؤكد أنَّ بذلَ المزيد من الجهود من شأنه أن يُشكّلَ جسرًا بعيدًا للغاية، ومن غير المرجّح أن ينفق صندوق النقد رأسَ مالٍ سياسيًا محدودًا لتحفيز تقدُّمٍ مُحدَّد في ما يتصل بالشركات العسكرية أو جعله شرطًا أساسيًا لصرف شرائح القروض للحكومة.

في جلساتٍ خاصة، يصرُّ مسؤولو صندوق النقد الدولي على أنَّ إخضاعَ الشركات العسكرية للإطارِ المنصوصِ عليه في مُذَكّرة السياسات الاقتصادية والمالية التي قدمتها الحكومة المصرية كجُزءٍ من اتفاقية القرض لعام 2022 يظلُّ مهمًّا. لكن ما يعنيه هذا في الممارسة العملية لا يزال سؤالًا مفتوحًا. إنَّ البنك الدولي، الذي أثار مخاوفه علنًا لأول مرة بشأن دور الجيش في الاقتصاد في العام 2020، هو فاعلٌ ثانوي في هذا الصدد. لكن بعض موظفيه يجادل بشكلٍ خاص لصالح نهج “إذا لم تتمكَّن من التغلُّبِ عليهم، فانضمّ إليهم”: بما أنَّ إحداثَ تغييرٍ حقيقي في وضع الشركات العسكرية يبدو مستحيلًا، فمن الأفضل تزويدها بالمساعدة الفنية على أمل جعلها جهاتٍ فاعلة أكثر كفاءة وفعالية في السوق، وبالتالي في نهاية المطاف جعلها متوافقة مع أفضل الممارسات. لقد دفعت المقاومة العسكرية لمحاولات صندوق مصر السيادي التي استمرّت ما يقرب من خمس سنوات لإعدادِ أيٍّ من الشركات المملوكة من الجيش للإدراج العام أو البيع الخاص إلى ما يُسَمّى “مستثمرين استراتيجيين” رئيسه إلى الاستقالة في آب (أغسطس) 2024. ويبدو من الوهم أن يعتقدَ الموظفون الدوليون أنهم قادرون على القيامِ بعملٍ أفضل.

على أيّة حال، فإنَّ التحوّلات التي يشهدها الاقتصاد المصري تجعل كل هذه التساؤلات غير ذات جدوى. فلم تستمر حصة المؤسسة العسكرية في الاقتصاد الكلي في النمو فحسب، بل إنَّ دورها المباشر في صنع السياسات الاقتصادية واتخاذ القرارات استمرَّ أيضًا. والواقع أنَّ كبار الضباط، مثل المستشار المالي للرئيس أو وزيره المفوض الفريق كامل الوزير، رئيس هيئة الهندسة السابق في الجيش والذي يُعَد الآن مرشحًا لمنصب رئيس الوزراء، يمارسون نفوذًا أعظم من نفوذ أغلب وزراء الحكومة في ما يتصل باستراتيجيات الاستثمار العام. فضلًا عن ذلك فإنَّ كبار الضباط العسكريين يحضرون جميع الاجتماعات التي يعقدها الرئيس لمناقشة القضايا الاقتصادية، كما تتولى الهيئات العسكرية أدوارًا جديدة في إدارة استيراد السلع الأساسية مثل القمح.

وبالتالي فإنَّ الحديثَ عن تحسين الحوكمة الداخلية والإدارة المالية في الشركات العسكرية يغفل عن الهدف إلى حد كبير. كان من المُبرّر حتى وقتٍ قريب أن يتعامل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية مع الوضع الخاص للشركات العسكرية في الاقتصاد المدني باعتبارها مجموعة فرعية من المشاكل البنيوية الأوسع نطاقًا في الاقتصاد السياسي في مصر. ولكن الاقتصاد العسكري بلغ كتلة حرجة تجعل مثل هذه الأساليب غير كافية على الإطلاق. والأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا التطور يعني أنَّ الإطار الوحيد الممكن لتوجيه السياسات وتوجيه المساعدات الدولية هو الإصلاح الهيكلي على النطاق الشامل الذي وعدت به الحكومة المصرية في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية.

عرضت المذكرة رؤيةً للتغيير كانت لتكون ثورية لو تمَّ تنفيذها. ولكن صندوق النقد الدولي لم يقل الكثير عن هذا منذ ذلك الحين، بل حافظ بدلًا من ذلك على التركيز على سياسة مُلكية الدولة التي أصدرتها الحكومة المصرية في أواخر العام 2022 باعتبارها المعيار الحاسم لبرنامج القروض. ولم تتجاهل الوثيقة الأخيرة قضية أنشطة الجيش في المجال المدني فحسب، بل انخرطت أيضًا في التضليل من خلال تحويل المناقشة السياسية من الإصلاح الهيكلي إلى المُلكية. والواقع أنَّ سياسة ملكية الدولة قد اختُزِلَت في الواقع إلى بيان لمُلكية الدولة وتدخّلها في الاقتصاد على نطاق واسع، وفي بعض الحالات بشكلٍ متزايد. وهي تفتقر بشكلٍ أساس إلى كونها مخططًا للإصلاح الهيكلي.

لذلك، فقد فعل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، أكثر بكثير من السماح لقضية الشركات العسكرية بالانتهاء. بل لقد تخلّوا بدلًا من ذلك عن الالتزام الحقيقي برؤية الإصلاح الهيكلي يحدث في مصر. إنَّ الفرق القِطرِية التابعة لصندوق النقد الدولي ربما تُدرِك بوضوح التناقض بين الخطاب والواقع في البلدان المتلقية للمساعدات مثل مصر، ولكن مجالسها التنفيذية تخدم في المقام الأول أجندة سياسية ــ وهي الأجندة التي تشكّلت إلى حدٍّ كبير في حالة صندوق النقد الدولي على يد الإدارة الأميركية آنذاك. وقد تعلم الموظفون الفنيون في صندوق النقد الدولي من تجارب مريرة أنَّ إقناعَ السلطات المصرية “بنقل أبو الهول إلى الجانب الآخر من خوفو، سيكون أسهل تحقيقًا من إقناع الحكومة بالوفاء بتقارير الضرائب”، على حدّ تعبير أحد المسؤولين القدامى. لكن بقبول هذه النتيجة وتجاهلها، يساعد مجلس إدارة صندوق النقد الدولي ويشجع على الاستمرار في إعادة تشكيل الاقتصاد المصري بطرقٍ تتعارض تمامًا مع أهدافه المُعلنة.

Exit mobile version