
هنري زغيب*
راجت في كُتب النقد وتأْريخ الفن قصةُ النحاتة كميليا كوديل (1864-1943) وما فيها من سيرة مـأْساوية بسبب علاقتها العاطفية الصاخبة مع النحات الفرنسي الرائد أُوغست رودان، وهي آلت بها إِلى الجنون ودخولها مصح الأَمراض العقلية، ووفاتها في تلك الحالة التاعسة، بعيدةً عن أَهلها الذين أَنكروها، وعن الوسط الفني الذي أَغفلها فترة طويلة بعد وفاتها. سوى أَن مسيرتها الفنية الإِبداعية لم تكن مجرد ظلٍ لرودان، بل لها منحوتاتها الخاصة التي تجعلها ذات أُسلوب خاص في الفكرة والتنفيذ.
هنا، في هذا المقال، نبذة عن خمسة من أَبرز أعمالها.
- بول كلوديل
هو شقيقها الأَصغر بول (1868-1955)، الذي أَصبح في ما بعد شاعرًا كبيرًا ودبلوماسيًّا فرنسيًّا لامعًا. كانت علاقتها به قويةً خصوصًا أَن والدتها لم تكن حنونة معها بل كانت تميل أَكثر إِلى شقيقها بول وشقيقتها لويزا. وبالمقابل كانت كميليا محببة أَكثر إِلى والدها الضابط، وهو شجَّعها على النحت ودعمِها حين لاحظ أَنها تميل منذ صغرها إِلى هذا الفن. وحين انتقلَت الأُسرة إِلى باريس رعاها النحات ألفرد بوشيه (1850-1934) حين اكتشف موهبتها وكان له الفضل في تقديمها إِلى أُوغست رودان. وسنة 1883 وضعت تمثالًا لشقيقها بول (وهو في السادسة عشرة)، كتب عنه الناقد الفني ماتياس مورهارد (1863-1939) أَنه يكاد ينطق لِما فيه من تعابير كاملة. وهي تعمَّدت نحته بالياقة القديمة التي تُذكِّر بالتماثيل الرومانية العريقة.
- أُوغست رودان
سنة 1888 وضعَت كميليا تمثالًا نصفيًّا لرودان، بدا واضحًا فيه تأْثير تقنية “أستاذها وراعيها” الذي تتلمذَت عليه بعد عملها مع أَلفرد بوشيه. وفي محترف رودان نضجَت خبرتها، وباتت محظيَّة رودان فعشيقتَه فملهمتَه. وكان رودان يقرُّ بأَنها لم تكن فقط موهوبة، بل روحًا يتماهى فيها، وجديرة بتبادل الأَفكار معها. وكانا يعملان معًا في شغف فني وعاطفي. كانت تساعده في تنفيذ منحوتاته، إِنما كانت لها في محترفه منحوتاتها الخاصة. وفي منحوتتها عنه برعت في إِظهار شخصيته لا شكل وجهه فقط، ما دل على مدى تعلُّقها به طيلة عشر سنوات من العمل معًا، مع أَن المأْساة كانت أَكبر من احتمالها، لأَن رودان كان على علاقة بامرأَة أُخرى وله منها طفل. وهو ما أَدى بها إِلى الإجهاض والطرد من محترفه والانتهاء في مصح عقلي توفيَت فيه.
- رقصة الفالْس
سنة 1893 وضعَت بالبرونز تمثال “رقصة الفالْس”، وهو من أَنجح أعمالها. ويقال إِنها استوحتْه من صداقتها مع المؤَلف الموسيقي الفرنسي كلود دوبوسَّي (1862-1918)، وجعلت منه نسخًا عدة، قدَّمت واحدة منها إِلى دوبوسي فاحتفظ بها في صدر بيته طوال حياته. وبرعَت في تنفيذه بحنان كثير بين رجل وامرأَة، تَظهر العاطفة الحارّة بينهما في تأَمُّل تفاصيل التمثال مليًّا. وفيه ظهرت تقنية النحاتة في إِبراز العاطفة من بسمة الراقصَيْن من حركة التمثال كأَنهما فعلًا يدوران في رقصة الفالْس وهما يتبدلان قبْلة طويلة.
- العناق
سنة 1905 وضعت كميليا تمثال Vertumnus and Pomona في أَكثر من نسخة وأَكثر من مادة نحتية وأَكثر من اسم. وحاولَت فيه أَن تُبرز أَكبر نفحة من الحب، فنالت عليه تنويه “مشرِّف” من معرض الفنانين الفرنسيين. وهي استوحت موضوع التمثال من القصة الهندية “شاكونتالا” للشاعر الهندي القديم كاليداسا، تدور على زوج عاد إِلى زوجته بفضل تعويذة سحرية. وعرفت كميليا كيف تنحت لحظة التقائهما معًا بعد فراق طويل. وفي ما بعد، أَخرجَت منه نسخة رخامية مبنية على أُسطورة يونانية عن فيرتومْنوس (إِله التحولات) الذي سعى كثيرًا إِلى حب بومونا (إِلهة الفاكهة) حتى ناله بعد طول انتظار. وجسَّد التمثال لحظة ركع فيرتومْنوس عند قدَمَي بومونا تعبيرًا لها عن حبه. ويرى النقاد أَن لجوء كميليا إِلى الحب في الأُسطورتَين الهندية واليونانية لأَجل التعبير عما كانت تكابده في علاقتها مع رودان.
- الموجة
سنة 1903 حققَت كميليا تمثال “الموجة” بمادة الأُونيكس التي برعَت فيها براعتها في البرونز، ونجحت بإِبراز اللغة الشعرية في تفاصيل التمثال. وهي نحتَت فيه ثلاث نساء يتخبَّطن في قلب موجة كبرى تتقلَّب فوقهن، كأَنها موجة حب عاصف كبير تنهال للسعادة أَو للتدمير.
هذه الأَعمال أَعلاه، بقيَت زمنًا طويلًا في عتمة الإهمال والنسيان، وبقي من كميليا فقط أَنها عشيقة رودان وملهمَته. لكن السنوات الأَخيرة كشفت عن كميليا وأَعادت إِليها رونقها في أَفلام سينمائية ومعارض وكتُب عنها، وأَكثر: أُنشئَ متحف على اسمها في مدينة نوجان سور سين الفرنسية، وتماثيلُها اليوم موزعة ومشهورة بجمالها وزهوتها وعمق اللمسة العاطفية فيها، حتى أَن نقادًا كثيرين كتبوا عنها بأَن منحوتاتها الصلدة “تكاد تنطق”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).