الاقتصادُ العالمي أكثر عُرضَةً للخطرِ مِمّا يبدو

في الوقت الحالي، القادةَ مُنشَغلون بالحروب، والصراعات على السلطة، والتوتّرات الاجتماعية، والاستقطاب السياسي، حتى إنهم يبدون غير راغبين إلى حدٍّ كبير في الاستثمار في إنقاذ الاقتصاد العالمي المُتَكامِل.

النائبة الأولى للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث: التجزئة الإقتصادية تُخلّف عواقب وخيمة.

برتراند بادري وإيف تيبِرجيان*

تبدو التوقّعات الاقتصادية للعالم اليوم مُتناقِضة إلى حَدٍّ غريب. رُغمَ أنَّ الأسواقَ العالمية، بقيادة التكنولوجيا والطاقة، كانت مُتفائلةً بالأرباح المُرتفعة للأمد القريب، فإنَّ المزاجَ السائد في اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الشهر الفائت كانَ كئيبًا كُلّيًا. لقد أصدرت المؤسّستان العالميتان، اللتان تتحدثان عادةً عن تفاهات، تحذيراتٍ قوية حول المخاطر المتزايدة الناجمة عن التجزئة الاقتصادية أو التفتت الاقتصادي.

إنَّ الفكرةَ القائلة بأنَّ الاقتصادَ العالمي المُترابِط قادرٌ على العملِ ضمن نظامٍ جيوسياسي يعتمدُ على السيادة الوطنية لنحو 200 دولة كانت تعكس دائمًا قدرًا مُعَيَّنًا من المثالية. أو ربما كانَ الأمرُ أشبه بالغطرسة. لكن هذا الزواج الغريب انهارَ في ثلاثينيات القرن العشرين، واستمرَّ الانقسامُ حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

لكنَّ المثاليةَ لم تَمُت، فقد أُعيدَ بناءُ النظام العالمي في وقتٍ لاحقٍ على أساسٍ من القواعدِ المُتَّفَقِ عليها، والمؤسّسات الدولية المُشترَكة، ودرجة من التسامح المُتبادَل، وإدارة الأزمات. منذُ البداية، ظلّت الاعتباراتُ الأمنيةُ مُنفَصِلة قدر الإمكان عن الاقتصاد، ولكن هذا أصبح ذا أهميةٍ خاصة في تسعينيات القرن الفائت، عندما بدأت البلدان ذات الأنظمة المختلفة جذريًا الاندماجَ في الاقتصاِد العالمي.

لكن اليوم، تتآكلُ أُسُسُ هذا النظام بسرعة، ويبدو أنَّ التكامُلَ الاقتصادي العالمي يسير في الاتجاهِ المُعاكِس. وكما أوضحت أخيرًا  غيتا غوبيناث، النائبة الأولى للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، فإنَّ التجزئة الاقتصادية قد تُخلّفُ عواقبَ بعيدة المدى على التجارة، مثل انخفاض مكاسب الكفاءة، وزيادة خطر التقلّبات المالية الكُلِّية. ومن الممكن أن تؤدي التجزئة أيضًا إلى خفضِ تدفّقات رأس المال إلى “الجنوب العالمي” وتقويض توفير المنافع العامة العالمية، بما في ذلك العمل المناخي.

هناكَ خمسةُ عوامل رئيسة تدفع هذا الاتجاه نحو التجزئة. أوّلًا، أدَّت المخاطر الجيوسياسية المتزايدة إلى تغذيةِ انعدامِ الثقة والحَدِّ من رغبةِ البلدان ذات الأهمية النظامية في التعاون. ورُغمَ أنَّ صنّاعَ السياسات نادرًا ما يعترفون بهذه الحقيقة، فإنَّ الأزمة بشأن تايوان، التي تُمثّلُ نقطةَ اشتعالٍ في التنافُسِ الصيني-الأميركي، قد تؤدّي إلى انهيارِ النظامِ الاقتصادي العالمي.

ثانيًا، تسمحُ البلدان الرئيسة على نحوٍ مُتزايدٍ للاعتبارات الأمنية بتشكيلِ السياسةِ الاقتصادية، مع اتّخاذِ بعضها إجراءات مُوَسَّعة لتأمين الوصول إلى المدخلات والبنية التحتية والتكنولوجيات. ورُغمَ أنَّ هذا أمرٌ مفهوم، إلّا أنَّهُ يتعيَّنُ على البلدان مُمارسة ضبط النفس. في حين حدثت العولمة تدريجًا، فإنَّ عملية تراجع العولمة المدفوعة بتدابير ذات دوافع أمنية (والتي يكاد يكون من المؤكد أنها ستؤدّي إلى التصعيد من قِبَلِ المنافسين والشركاء) ربما تكون سريعة وغير عملية، مما سيفرُضُ مخاطرَ نظامية شديدة.

ويتمثّلُ العاملُ الثالث الكامن وراء التجزئة الاقتصادية في تعمّقِ الصَدعِ بين الشمال العالمي والجنوب العالمي. لقد انهارَ الدعمُ العام والخاص للاقتصادات النامية في وقتٍ حيث تتصارع غالبيتها مع إرثِ جائحة كوفيد-19 وتواجه تغير المناخ. يبدو أنَّ الاتجاهَ الذي دامَ عقودًا من الزمن نحو التقارُبِ مع الاقتصادات المُتقدّمة قد تَوَقّف، ويتزايد الاستياء في الجنوب العالمي. لقد تحوّلَ صافي التدفّقات المالية إلى البلدان النامية إلى مستوى سلبي في العام 2023، وسيزداد الاتجاه سوءًا في العام 2024. ويُفسّرُ هذا جُزئيًا إحجامَ أو رفضَ العديد من دول الجنوب العالمي لدَعمِ الغرب في القضايا الجيوسياسية الرئيسة، مثل العقوبات ضد روسيا ردًّا على حربها العدوانية في أوكرانيا.

وتعكُسُ التجزئة أيضًا التصاعُدَ السريع للمخاطر والكوارث المناخية. مع انتشارِ الفيضانات والحرائق الضخمة وموجات الجفاف “التي لا تحدث إلّا مرةً واحدة في العمر”، فإنَّ العديدَ من البلدان مُعَرَّضٌ لخطرِ زعزعةِ الاستقرار في غضونِ السنوات القليلة المقبلة، ولا توجد “شبكة أمان” عالمية. من ناحية أخرى، وكما أشار الأكاديمي داني رودريك من جامعة هارفارد، فإنَّ البلدان تتنافس على الهَيمَنة في مجال التكنولوجيات الخضراء، بدلًا من العمل معًا لتسريع التقدُّم.

وأخيرًا، يعمل النمو الهائل للذكاء الاصطناعي على تغذية المنافسة الوطنية، بدلًا من التعاون العالمي المطلوب. وكما لاحظ دارون عاصم أوغلو وسيمون جونسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإنَّ القواعدَ التنظيمية والسياسات والمؤسّسات ستكون ضرورية لضمان قدرة الذكاء الاصطناعي على خلق الوظائف، بدلًا من تدميرها فحسب. وتحتاجُ بلدان الجنوب العالمي إلى صوتٍ في الجهود التنظيمية للذكاء الاصطناعي.

من المؤكّد أنَّ النظامَ الاقتصادي العالمي لا يزال يتمتّعُ بمصادر عديدة للمرونة. وكما أظهرت رئاسات مجموعة العشرين الأخيرة في إندونيسيا والهند والبرازيل، فإنَّ غالبية دول الجنوب العالمي تظل ملتزمة بالترابط والحَوكَمة العالمية. علاوةً على ذلك، لا يزال القطاع الخاص يتّسم بالترابط. ولا تزال لدينا منظمات دولية مُخَصَّصة، وشبكات تعليمية عالمية، ومجتمع مدني عالمي.

لكن لا ينبغي لنا أن نُقَلِّلَ من المخاطر التي تنتظرنا. هناكَ سببٌ وجيهٌ للاعتقادِ بأنَّ الأشهرَ والسنوات المقبلة سوف تجلبُ سلسلةً من الصدمات والأزمات. وإذا استجابَ القادة بسياساتٍ مُتبادَلة ومُتَضادة تهدفُ إلى تأمين المزايا والأفضلية على المنافسين، فقد ينهارُ الاقتصادُ العالمي المُتكامِل. وقد تطغى سرعةُ هذه العملية على صنّاع السياسات، وقد يكون الطريق من الألم الاقتصادي، إلى الاضطرابات الاجتماعية، إلى التخلّي عن القواعد العالمية المشتركة، قصيرًا.

في الوقت الحالي، يبدو أنَّ القادةَ مُنشَغلون بالحروب، والصراعات على السلطة، والتوتّرات الاجتماعية، والاستقطاب السياسي، حتى إنهم يبدون غير راغبين إلى حدٍّ كبير في الاستثمار في إنقاذ الاقتصاد العالمي المُتَكامِل، ناهيك عن تعزيز قدرته على التعامل مع المخاطر الوجودية التي نواجهها. لكن التاريخ والنظرية الاقتصادية والاتجاهات التجريبية الحالية تشير إلى أنَّ هذا خطأٌ.

حتى الانهيار الجُزئي لأنظمتنا الاقتصادية والمالية العالمية المُترابِطة سيكون كارثيًا، خصوصًا أنَّ من شأنه أن يُقوّضَ الاستثمار في المنافع العامة العالمية. وبالنسبة إلى الساسة الذين يشعرون بالقلق إزاء تأثير الهجرة في بلدانهم، فمن الجدير بالذكر أنه في غياب استثمارات ضخمة في مكافحة تغيُّرِ المناخ، وعكس اتجاه التصحّر والحَدّ من الفقر، قد يحاول الملايين عبور البحر الأبيض المتوسط بحلول العام 2050.

يجب أن يكونَ الأمنُ القومي أولوية بالنسبة إلى صانعي السياسات. لكنَّ التدابيرَ الرامية إلى “تأمين” و”حماية” الاقتصاد لا بدَّ أن تقترنَ بالجهود الرامية إلى تحسين التواصل مع المنافسين والاستثمار في المنافع العامة العالمية. ولتحقيقِ هذه الغاية، يجب على زعماء العالم استخدام مجموعة العشرين والهيئات المُتَعَدِّدة الأطراف الأخرى لرفع مستوى مجموعات العمل والمؤسّسات التي تدعم الحَوكَمة الجماعية، مع التركيز على إدارةِ مخاطر الذكاء الاصطناعي، ومعالجة تغيّر المناخ، وتجنُّب انهيار النظام الاقتصادي العالمي الذي نعتمد عليه.

Exit mobile version