لبنان والتغلّب على اللاءات القاتلة

الدكتور ناصيف حتّي*

حَدَّثَني صديقي عن لاءاتٍ ثلاث كأصدقِ وصفٍ يَختَصِرُ حالةَ لبنان الراهنة، وهي: لا دواء، لا غذاء، ولا آفاق للحلّ، والمقصود الحلّ التغييري وليس حلّ “مَراهِم“ التسويات الموقّتة، وشراء الوقت بانتظارِ تغيّر الوضع (الخارجي بالطبع) لمصلحةِ هذا الطرف السياسي الداخلي أو ذاك. ويبدو ما يصفه البعض بالقَدَرية السياسية بمثابةِ سمة استقرّت مع الزمان في الثقافة السياسية لأهل السلطة وجماعاتهم  في لبنان. وبانتظار ذلك تصبح المُناكفات الداخلية باسمِ حقوق الطوائف هي المُهيمنة بشكلٍ كبير في اللعبة الدائرة. ولو ادّت هذه إلى شللٍ سياسي ذي تداعيات كبيرة على لبنان أمام التحدّيات الداخلية والخارجية الخطيرة وذات التكلفة الكبيرة، إذا استمرّت اللعبة ذاتها الى حين تفاهم أهل الحلّ والربط في الخارج.

يُحذّر البعض من مخاطر التدويل (استقدام العنصر الخارجي)، تدويل مُسبّبات الأزمة والحلول، فيما هو  يُمارسها ويتّهم  خصم اليوم بالقيام بالشيء ذاته. فمُجمَلُ سياساتنا الداخلية، بخلافاتها وتفاهماتها وصراعاتها تحت عناوين مُتعدّدة، يَعكُسُ ويَحمُلُ درجاتٍ مُختلفة من التدويل (رهاناً وتماشياً واعتماداً على الصديق او الحليف الخارجي). المشكلة في لبنان ليس وجودُ علاقاتِ تحالفٍ أو تقاربٍ، أو تناغمٍ مع هذا الطرف الخارجي أو ذاك في قضية أو قضايا مُعَيَّنة، وهي سمة طبيعية في العلاقات الدولية، ولكن في درجة وأحياناً شمولية هذا الارتباط. و لا بد من التذكير دوماً أن مُجمَلَ خلافاتنا وحروبنا الداخلية كان بسبب تماهٍ كبير مع “الصديق” الخارجي في الاصطفافات اللبنانية، وأن اتفاقَ “الخارج” كان المَدخَلَ للسلم الأهلي أو لتجميدِ خلافٍ أو نزاع.

تغيّر اللاعبون وعناوين اللعبة وبقيت اللعبة هي ذاتها. المشكلة أو المأساة اليوم أن الأزمة الاقتصادية بتداعياتها الاجتماعية الكارثية وغيرها، والتي تُهدّد بالانهيار الشامل للبنان وتحويله كلّياً إلى “دولةٍ فاشلة”، لم تَعُد تسمح بلعبةِ عضِّ الأصابع وشراء الوقت. اللعبة التي قامت دائماً على الرهان على اتجاهِ الرياحِ الخارجية التي تعصف بالمركب اللبناني وتُسرِّعُ بغرقه إذا لم يتم الإسراع في عملية انقاذه من طرف المُمسكين بدفّة القيادة والمُتقاتلين حولها من خلال  تشكيل “حكومة مهمة”، وهي الهدف الذي يجري الصراع حوله منذ عامٍ تقريباً. حكومةٌ تكون بمثابة فريق عملٍ مُتجانس لتنفيذِ إصلاحٍ شاملٍ على أساس خطّة عملٍ واضحة وإطارٍ زمنيٍّ مُحَدَّد. هدفٌ إنقاذي ضروري تحوّل إلى عنوانٍ جذّاب بدون أيّ مضمون. عنوانٌ بمثابةِ غطاءٍ شفّاف لا يخفي طبيعة اللعبة الدائرة: لعبة تقاسم “جبنة” الحكومة بعناوين تكنوقراطية، وبمضامين تقوم على الولاءات  السياسية التقليدية لزعماء فيدرالية المذاهب السياسية الحاكمة بالفعل في لبنان. حكومةٌ يريدونها أن تقوم على منطق المُحاصَصة الحامل في طياته دائماً لمخاطر الوقوع في الشلل السياسي عشية الدخول في مسار التحضير لاستحقاقاتٍ انتخابية مُقبلة من نيابية ورئاسية، حتى لو أن مهام هذه الحكومة يُفتَرَض أن تنتهي مع الانتخابات النيابية في منتصف السنة المقبلة. ولكن طبيعة التطورات الحاصلة داخلياً وإقليمياً تسمح بعدم إسقاط سيناريو استمرار الحكومة، فيما لو شُكِّلَت، إلى نهاية العهد (ويقول البعض حتى لو جرت الانتخابات النيابية في موعدها قد تبقى كحكومة مستقيلة). كما أن البعض الآخر ما زال لا يستبعد استمرار الحكومة الحالية المستقيلة الى نهاية العهد أيضاً.

باختصار، إنهم يتقاتلون حول ضرورة تغيير النظام ولو بعناوين مُلَطَّفة، أو التمسّك بما جاء به ”اتفاق الطائف“ وصار الدستور الحالي والخلاف حول تفسيره. ويُراهنون على انتصار هذا الصديق او الحليف الخارجي أو ذاك، وتوظيف ذلك في الصراع السياسي الداخلي فيما صار الانفجار ومعه الانهيار “على الأبواب”. ونعود لنذكر  ان المطلوب التوصّل إلى الحدّ الأدنى من التفاهم الخارجي بين الأطراف المُؤثّرة والفاعلة في “مسرح الصراع” اللبناني لإعادة بناء الإستقرار كشرطٍ أساس، ولو غير كافٍ، لإطلاق عملية الإصلاح الضروري والشامل للبنان، لبناء الدولة وإرساء ما يُعرَف بمنطق الدولة على حساب منطق فيدرالية المذاهب السياسية الحاملة والمُوَلِّدة للازمات بشكلٍ مستمر. وهذه تبقى أساساً مسؤولية اللبنانيين بكافة أطيافهم وانتماءاتهم. إنه أمرٌ يستدعي وضع الخلافات “الهوياتية” الكبرى التي يعيشها البعض، وكذلك السياسية العميقة موقتاً على “الرف“. تحدٍّ ليس بالسهل النجاح في مواجهته ولكنه ليس بالمستحيل طالما أن الانهيار الكلي هو البديل. تساؤلٌ لا يُمكنه تحمّل ترف الانتظار للحصول على الجواب المعروف والمطلوب اليوم قبل الغد.

Exit mobile version