بقلم سجعان قزي*
لا يكفي أن تَصفَ أميركا وإسرائيل وغيُرهما “حزبَ الله” إرهابـيّـاً لكي يكونَ كذلك. يمكن أن يُشكِّلَ “حزبُ الله” خطراً على نفسِه وعلى لبنانَ من دونِ أنْ يكونَ إرهابيّاً. ولا يكفي أن تُطالبَ أميركا وإسرائيل وغيرُهما بالقضاءِ على “حزبِ الله” لكي يَندفعَ اللبنانـيّـون ويَقعَوا في هذا الفَـخِّ الفِتنَوي. تَكفينا رهاناتٌ على الخارج ضِدَّ هذا الشريكِ أو ذاك في الوطن.
لكنَّ معالجةَ سلاحِ “حزبِ الله” ضروريّـةٌ ليس لأنّـه إرهابيٌّ ولا لأنها مَطلَبٌ خارجيٌّ، بل لأنَّ بناءَ دولةٍ واحدةٍ، تعدديّـةٍ، ميثاقـيّـةٍ، سيّدةٍ، مستقلَّةٍ ومستقرَّةٍ يُـحتِّم ألا يكونَ المواطنون فقط سواسيَةً أمامَ القانون، بل أنْ تكونَ الجماعاتُ اللبنانـيّـةُ المختلِفةُ أيضاً سواسيَةً أمامَ الدستور. التعدّديةُ الحضاريّـةُ لا تُـترجَمُ بتعدّديةِ السلاح، فلبنانُ لا يَـحتمِلُ “الطَبقـيّـةَ الأمنيّـة”.
ما عدا “حزبِ الله”، مَن يُريدُ بقاءَ هذا السلاح منتشِراً بين “باب فاطمة” و”بابِ الـمَندَب”؟ المواقفُ المخالِفةُ هذه الحقيقةَ يُـمليها مَنطقُ “الهروبِ من مُشكِل”. لكنَّ هذا المنطقَ، وقد نَفدَت مُدَّتُـه، أوصَلنا إلى منطقِ التَسبُّبِ بحرب. وعدمُ وقوعِها اليومَ يَعني إرجاءَها لا إلغاءَها. وإستقالةُ سعد الحريري، بمنأى عن ظروفِها، لا تُــغيِّر بالـ”مَكتوب”، فـتَوقّعاتُ حصولِ حربٍ سَبقَت الإستقالةَ.
سَعت الدولةُ في مراحلَ سابقةٍ إلى تسويةِ موضوعِ السلاحِ في إطارٍ لبنانيٍّ، فدَعَت إلى مؤتمرَي حوارٍ وطنيٍّ: في المجلسِ النيابيّ سنةَ 2006، وفي القصرِ الجُمهوريِّ سنةَ 2010 حيث صدرَ “إعلانُ بعبدا” (112012/06/). الحوارُ الأوّلُ إنتهى بحربِ 2006، والثاني بتَنكُّرِ “حزبِ الله” لـ”إعلان بعبدا” وإنخراطِه في حربِ سوريا. وحاول المجتمعُ الدوليُّ، بالـمُوازاةِ، مساعدةَ لبنان لإحتواءِ هذا السلاحِ سلميّاً، فأصدَرت الأممُ المتَّحدةُ ستَّــةَ قراراتٍ: 1559 و 1595 و 1636 و 1644 و 1701 و 1748. لكنَّ الدولةَ اللبنانـيّـةَ، بضُعفِها أو بتواطُـئِـها أو بالإثنين معاً، أَجهضَت عبرَ السنواتِ مفعولَ هذه القراراتِ، فإحتَوى “حزبُ الله” الدولةَ عِوضَ أنْ هي تَـحتويَه.
رغم ذلك، تَغاضى المجتمعان العربيُّ والدوليُّ عن التنفيذِ المبتورِ للقرارات، حتّى أنَّ دولاً عربـيّـةً عزيزةً تَـخطَّته ودَفعَت بحلفاءَ لها لبنانيّين إلى تَـجرُّعِ تسوياتٍ مع “حزبِ الله” وسوريا وإيران على حسابِ هذه القراراتِ وعلى حسابِ شهداءِ “ثورةِ الأرز”، إلى أنْ إشترك “حزبُ الله” في حروبِ المِنطقةِ إلى جانبِ “الحرسِ الثوريِّ” الإيرانيِّ، وإمتلَكَ أسلحةً متقدِّمةً. حينئذٍ، تغيّر الموقِفُ العربيُّ والدوليُّ، وصار العالمُ يُحمِّلُ دولةَ لبنانَ وحدَها المسؤولـيَـةَ، فيما هو، وبخاصةٍ السعوديّـةُ وأميركا، مسؤولٌ عن ملابساتِ تركيبةِ النظامِ اللبنانيِّ منذُ حربِ الخليجِ الأولى سنةَ 1991 إلى اليوم. ألَـم يُسلِّمْ التحالفُ الدوليُّ ـــ العربيُّ آنذاك لبنانَ لسوريا (وحلفائِها المحليّين) مقابلَ إنضمامِها إلى التحالفِ الذي حَرَّر الكويت من الجيشِ العراقيّ؟
لم نَـعُد الآنَ في مرحلةِ توزيعِ المسؤوليّات، بل في مرحلةِ البحثِ عن حلٍ لسلاحِ “حزبِ الله” خَشيةَ أنْ يَقومَ التحالفُ الدوليُّ ــــ العربيُّ، من دونِ إسرائيل، بمعالجةِ فائضِ السلاحِ في كلٍّ من لبنانَ وسوريا واليمن. فعددٌ من الدولِ العربيّـةِ ــــ إنقاذاً لِماءِ العروبة ـــــ يُـفضِّلُ أنْ يقومَ هذا التحالفُ الذي أُنشِئَ سنةَ 2014 بالتصدّي ل”حزبِ الله” إنطلاقاً من سوريا. وأصلاً، إسرائيلُ ليست مُتحمِّسةً للحربِ الآنَ.
لكنَّ مُشكِلتَـنا الأساسيّـةَ ليست سلاحَ “حزبِ الله” في الخارج. هذا إشكالٌ سياسيٌّ جانبيٌّ بين لبنانَ ودولِ الخليج. مُشكِلتُنا الأمُّ هي وجودُ هذا السلاحِ في لبنان. هذه معضِلةٌ كِيانـيّـةٌ بين لبنان، شعباً ودولةً وجيشاً، من جهةٍ و”حزبِ الله” من جهةٍ أخرى. وبالتالي، لا تَـهُمّنا عودةُ “حزبِ الله” من الخارجِ ما لَـم تَـقـتَرن بدخولِه إلى الدولةِ اللبنانـيّـةِ وإيداعِه إيّــاها سلاحَه؛ وإلا سنَـتكــبَّــدُ حزبَين: المقيمَ والمنتشِر.
في هذا الإطارِ، حريٌّ بالجيشِ اللبنانيِّ أن يَـمنعَ إدخالَ سلاحِ “حزبِ الله” من سوريا إلى لبنان؛ فحتّى لو سَلَّمنا بثلاثــيّــةِ “الشعبِ والجيشِ والمقاومة”، تبقى هذه محصورةً بسلاحِه في الجنوبِ ضِدَّ إسرائيل وليس بسلاحِه في سوريا والعراق واليمن. ويُـفترضُ بالجيشِ اللبنانيِّ، وقد أصبحَ قادراً على حمايةِ لبنان، أنْ يبادرَ ويَـقترحَ على السلطةِ السياسيّـةِ مشروعَ إستراتيجـيّـةٍ دفاعـيّـةٍ، لا أنْ يَنتظرَ العكْس.
الـمُرهِقُ أنَّ “حزبَ الله” يُكمِلُ القتالَ إذا خَسِرَ ويُتابعُه حتّى إذا إنتصَر، وكأنَّ القتالَ سببُ وجودِه ومُبرِّرُه. التفسيرُ الآخَرُ ــــ والـمُكَمِّل ــــ أن سلاحَ “حزبِ الله” جُـزءٌ من مشروعٍ إستراتيجيٍّ وليس سلاحاً بديلاً من تحريرِ أرضٍ (الجنوب) أو لحمايةِ جماعةٍ (الشيعة) تَزعَمُ تقصيرَ الدولةِ سابقاً حيالَها. وبالتالي، يُــصَعِّبُ “حزبُ الله” أكثرَ فأكثرَ حلَّ موضوعِ سلاحِه بتسويةٍ سياسيّـةٍ لبنانـيّـة. هذا المأزِقُ يُـجيزُ طرحَ أسئلةٍ ثلاثةٍ على قادةِ الحزب:
1) لماذا تَقبَلون بأنْ تكونوا جُزءاً من إستراتيجـيّـةٍ حربـيّـةٍ إيرانـيّـةٍ، ولستُم إيرانـيّين، وتَرفضون أنْ تكونوا جُزءاً من إستراتيجـيّـةٍ دفاعـيّـةٍ لبنانـيّـةٍ، وأنتم لبنانـيّـون؟ الإستراتيجيّـةُ الأولى تُورِّطُ الدولةَ وتُعرِّضُ إنجازاتِكم للإنهيار، والإستراتيجـيّـةُ الأخرى تَبني الدولةَ وتَـحفَظُ إنجازاتِكم.
2) قد نُجاريكُم بفائدةِ قتالِكم في “القْصَير” (مِنطقةٌ تَعيش فيها عائلاتٌ لبنانـيّـةٌ)، وحتى في القَلَمون (مِنطقةٌ محازيةٌ الحدودَ اللبنانـيّـةَ)، لكنْ، أيُّ حُجّةٍ يُمكن أنْ تُـقنِعونا بها لتأييدِ قتالِكم في الداخلِ السوريّ والعراقِ واليَمن؟
3) يَـتَّضِحُ أنَّ تسويةَ الحربِ في سوريا تَـلحَظُ إنحسارَ سلاحِكم، فهل لديكم إستراتيجـيّـةٌ غيرُ المواجَهةِ العسكريّـةِ وهي مُدمِّرةٌ للبنان بغضِّ النظرِ عن المنتصِرِ فيها؟
حبّذا لو يَـتقبّـلُ “حزبُ الله” رأيَ الآخَرين، فلا يَعتبر كلَّ من يُعارضُ سلاحَه هو ضِدُّه. وحبّـذا لو يؤمِن أنَّ السلاحَ، وقد كان مَصدرَ قــوَّتِه، صار نُقطةَ ضُعفِه. ويَكفيه أن يتأمَّلَ بمصيرِ المنتصِرينَ قبلَه ليُدركَ أنّـنا مخلصون بنصيحتِنا إيّــاه. صحيحٌ أننا بَلغنا مرحلةَ الاستحقاقاتِ الحاسمةِ، لكــنّ هذه ليست قدرًا. ف”حزب الله” قادرٌ على تَـجنُّبِها في حالِ إكتفى بأرباحِه المتراكِمةِ، وهي كثيرةٌ. يَكفيه أنْ يَقتديَ بإيران ـــ ومَن شَـبَّـههُ بإيران ما ظَلمَهُ ـــ التي قَبِلت سنةَ 2015 بتسويةٍ سلميّةٍ لسلاحِها النوويِّ فتفادت حربـاً كانت طُبولُها تُقرَع أيضاً.
• وزير لبناني سابق