المصرفية الإسلامية والرأسمالية الواعية

الصيرفة الإسلامية أو المصرفية الإسلامية يقصد بها النظام أو النشاط المصرفي المتوافق مع الشريعة الإسلامية. حيث أن الفائدة التي تدفعها البنوك عن الودائع أو التي تأخذها عن القروض تدخل في حكم الرُبا الذي يعد من الكبائر. وقد تم إنشاء أول بنك إسلامي في دبي في أوائل سبعينات القرن الماضي، ثم أنشئ العديد من المصارف الإسلامية بعد ذلك التي بلغت حوالي 100 مصرف في جميع أنحاء العالم ومن أشهرها بنك فيصل الإسلامي وبنك دبي الإسلامي.

القاضي الشيخ الدكتور محمد تقي عثماني: بحث مفيد في المصرفية الإسلامية
القاضي الشيخ الدكتور محمد تقي عثماني: بحث مفيد في المصرفية الإسلامية

دبي – عمار الحلاق

في الإجتماع السنوي للمنتدى الإقتصادي العالمي الذي عُقد في دافوس في كانون الثاني (يناير) 2010، دُعي الباحث الوافر الخبرة في الشريعة الإسلامية، القاضي الشيخ الدكتور محمد تقي عثماني، لإلقاء كلمة عن موضوع جذري إلى حد ما: إصلاح المشهد المالي بعد الأزمة العالمية من خلال عدسة الدين. وعلى الرغم من أهميتها فقد ولّدت هذه الكلمة القليل من الإهتمام لدى وسائل الإعلام العالمية، التي فضّلت بدلاً من ذلك التركيز على إفتقار المُنتدى إلى خطط الإصلاح والموقف الدفاعي المتوقَّع الذي إتخذته البنوك. مع ذلك، لو تسنّى لهذه الوسائل الإعلامية قراءة البحث المدوّن على 37 صفحة، لكان أمكنها الوصول إلى خلاصة مهمة مفادها بأن “الرأسمالية الراعية أو الحامية” يمكنها أن تكون أكثر من مجرد فكرة رومانسية.
لقد أثبتت كلمة عثماني البحثية بأنها دراسة مُلهمة للمصرفيين المهتمّين بالمصرفية الإسلامية الباحثين عن إتجاه. إنها تشكّك في طبيعة المال، وتدعو إلى هزّة جذرية فلسفية في عالمه. ربما كانت هناك قلة من الحضور (إن وُجدِت) أقدمت في ذلك اليوم على تغيير ممارساتها المصرفية، لكنها مع ذلك خرجت مع نصيحة بأن الوعي الإجتماعي ينبغي أن يكون دعامة للتمويل.
عندما تُعلِن الصحف ووسائل الإعلام عن إطلاق منتجات أو مؤسسات مالية جديدة متوافقة مع الشريعة الإسلامية فإنها غالباً ما تفترض فقط بأن المنتجات تتوافق مع حظر ومنع الإسلام للفائدة، كما لو أن هذا الأمر هو المعيار المناسب الوحيد والعمل الوحيد للبنك لتقديم قروض. ربما كنتيجة مباشرة، هناك كثير من المسلمين يجدون ممارسة المصارف الإسلامية الحديثة كريهة ولا تختلف كثيراً عن ممارسة البنوك التقليدية. وتفيد حجتهم هو أنه إذا كان الإسلام يحرّم إستلام أو دفع الفوائد، فإن العمل الوحيد الذي ينبغي أن تفعله البنوك الإسلامية هو الانخراط في الإقراض من دون فوائد، متجاهلين ببساطة بأن قرضاً من دون فوائد يعني أنه عمل من الأعمال الخيرية في القوانين الإسلامية، وليست هناك شركة تعمل بدافع الربح يمكنها أن تعتمد وتعيش على الأعمال الخيرية.
في الواقع، إن أرباح البنك هي موضوع إنفعالي لدى المسلمين، وخصوصاً عندما يوضع في سياق الإقتصاد العالمي الذي يئن متشائماً تحت وطأة الرأسمالية. إلى أي مدى يُقبَل السعي وراء الربح في الإسلام، إذا كان يُقبل في أي حال؟ وكيف يُسمَح لأحد تحقيق ربح بطريقة حلال؟ وبالتالي كيف سُمِح للمؤسسات المالية الإسلامية بإستخدام وإستثمار رأس المال ليكون مربحاً بطريقة غير متوافقة مع الشريعة الإسلامية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من معالجة طبيعة المال في حد ذاته.

الشريعة ودور المال

فيما إقتربت حياة النبي محمد إلى نهايتها في العام 632، إتخذ قراراً ربما كان يعتبره الفرصة الأخيرة له لكي يثير قضايا ذات أهمية قصوى لمنع أمّته من الوقوع في المحظور والخطأ. لقد غطت خطبته الأخيرة (خطبة الوداع) حقوق المرأة، والحاجة إلى أداء الصلوات اليومية، والصيام خلال شهر رمضان، ومنح الصدقة. وذكّر أتباعه أيضاً بأن الحياة والممتلكات هما أمانة مقدّسة؛ وبأنه لا ينبغي أن يصيبوا أحداً بأذى من خلال تصرفاتهم المالية، قائلاً: “إن الله حرّم عليكم أن تأكلوا الربا، ولذلك فإن كل إلتزام بالربا يجب التنازل عنه من الآن فصاعداً. ولكن، لك أن تُبقي رأس المال الخاص بك، لن يلحقك ظلم ولايجوز لك أن تظلم أحداً”.
في غضون بضع دقائق، ذكّر النبي أتباعه للمرة الأخيرة بأن حقوق الإنسان وحقوق الملكية هما من الأمور المهمة جداً – وبأن العدالة والإنصاف ينبغي أن يكونا قوة دافعة في حياتهم اليومية. وبأن لديهم الآن إطاراً متكاملاً يمكن من خلاله بناء عالم جديد، بغض النظر عن أي فضول وبراعة للعقل البشري في مجال الإكتشاف والخلق. إن صحابة النبي محمد، والرجال الذين أتوا بعد جيل من بعدهم، تحوّلوا إلى ترميز الشريعة، ولا سيما في مجال المعاملات التجارية، وقد أثبت تحليلهم القانوني في حينه على أنه كان مادة مهمة للنهوض بالمعرفة الإنسانية، بدلاً من أن يكون عقبة كأداء للعقيدة والتعصب اللذين ينظر إليهما العديد من الناس اليوم بإعتبارهما سمات الدين.
لقد أقدم التجار العرب والفرس على إقامة روابط تجارية مع الهند والشرق الأقصى، التي أصبحت أمراً لا غنى عنه في سلسلة التجارة بين الشرق والغرب. كان التجار العرب من بغداد يسافرون إلى قرطبة في إسبانيا، آخذين معهم “سفتجة” أي إعتماد إئتمان، حيث يُصرَف لدى وصولهم من وكيل، الذي كان جزءاً من شبكة لتحويل الأموال تُعرف بإسم “الحوالة”. وكان للحوالة تأثير في تطور مفهوم الوكالة في القوانين العامة والمدنية في جميع أنحاء أوروبا. ومن جهته تحوّل الصك – السبّاق على الشيِك في العصر الحديث – إلى شيء مهم بالنسبة إلى المصرفيين الأوائل، إذ أنه صار عنصراً لا غنى عنه لكل تاجر كضامن للنقود الورقية في أسواق المدن في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وكان التجار المسلمون يتقاسمون أرباح مشاريعهم مع كفلائهم من خلال الشراكات الإستثمارية التي يشار إليها الآن بالشراكة والمضاربة. وهكذا أصبح يومها إقتصاد التبادل إطاراً للرأسمالية التجارية الإسلامية.
بينما كان الأوروبيون يغامرون أبعد قليلاً من جنوب وشرق جزر اليونان، كان التجار العرب والفرس يتمددون عبر القارات. وبحلول القرن العاشر والحادي عشر، بدأت أسر التجار الغنية جداً تهيمن على الأنشطة التجارية بين الثقافتين. في المدن الرئيسية على طول الطريق التجاري شرق/غرب، أنشئ الفندق (مركز تبادل تجاري) والذي كانت تديره العائلات التجارية الرائدة في منطقتها. وقد تطورت الفنادق إلى مراكز لتبادل السلع ومستودعات، وقد مكّنت الثروة الكبيرة التي تراكمت لدى العائلات التي تسيطر عليها هذه التبادلات من تمويل مشاريع الدولة والعمل بشكل مبكر كمؤسسة مصرفية، مع أخذ الودائع ومنح الإئتمان للعملاء. في غضون بضعة قرون، تعرف الصليبيون على التجار العرب وأخذوا عنهم أفكارهم الفتية الجديدة – مثل قانون الثقة المغلف في “الوقف” ومفهوم الوكالة المسمّى “الحوالة” – حيث حملوها مرة أخرى إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط. ولم تتسرب فقط أساليب التجارة والتمويل إلى أوروبا في العصور الوسطى، ولكن أيضاً روح المبادرة للمؤسسة التي كانت، حتى الآن، أقل إنتشاراً في القارة القديمة.
من المفارقات أنه نظراً إلى الدلالة السلبية التي تتمتع بها الرأسمالية اليوم – مع جميع الآثار المترتبة على الجشع والأنانية – فإن العالم الإسلامي هو الذي أضفى الطابع المؤسسي على الرأسمالية وحملها إلى الغرب في الشكل الذي نعرفه الآن. في مكان ما على طول الطريق، مع ذلك، فإن الرأسمالية الإسلامية التي توفر الحماية للضعفاء والمحتاجين صارت ضعيفة. بحلول الوقت الذي أصبح العثمانيون القوة الإسلامية البارزة في نهاية القرن الخامس عشر، كان نهجهم بالنسبة إلى المؤسسات المالية والنقدية الإستغناء عن العادات والتقاليد والإرشاد الديني. وكانت نظم مصرفية سابقة مثل طريقة “الحوالة” لتحويل الأموال لا تزال تُستخدَم على نطاق واسع، وواصل ال100،000 شخص من الحجاج المسافرين سنوياً إلى مكة الإستفادة من مشروع قانون الصرف المعروف ب”سُفتجة” من أجل تسهيل إستخدام الأموال في رحلتهم. مع ذلك، تُظهِر سجلّات المحكمة في مدن الأناضول أن الإقراض الربوي كان ممارسة شائعة على ما يبدو ومسموحاً به.
وفيما صعد المرابون الأوروبيون إلى الصدارة، تراجعت الممارسات العثمانية في نهاية المطاف وإتبعت الخط عينه. لذا سوف ينتظر التمويل الإسلامي حتى منتصف القرن العشرين لكي يعود ويستطيع أن يستعيد تأكيد هويته.
وكانت التجربة في وقتنا المعاصر للمصارف الإسلامية بدأت في ماليزيا في العام 1940 وباكستان في العام 1950 حيث تم إنشاء أول صناديق إدّخار لا تعمل بالفائدة. وفي مصر تبلورت أول تجارب واقعية في العمل بالمصارف الإسلامية في العام 1963 تمثلت في إنشاء بنوك الإدخار المحلية وكان ذلك على يد الدكتور أحمد النجار في مدينة ميت غمر في محافظة الدقهلية، إذ كانت لا تتعامل بالفائدة، ولم يكتب لهذه التجربة الاستمرار حيث أغلقت في العام 1967. ثم تقرر تدريس مادة الإقتصاد الإسلامي في جامعة أم درمان في الخرطوم بالسودان في العام 1963 وتخرج منها مصرفيون طالبوا بفتح بنوك إسلامية بلا فوائد، ثم ظهر بنك ناصر الاجتماعي في مصر في العام 1971، وهكذا تبلورت الفكرة في المؤتمر الثاني لوزراء مالية الدول الإسلامية في جدة في العام 1973 حيث تقرر إنشاء بنك إسلامي للتنمية كمؤسسة إسلامية من بين دول أعضاء المؤتمر الإسلامي، وإفتتح البنك الإسلامي رسمياً في تشرين الأول (أكتوبر) 1975، وكان هذفه الرئيسي دعم التنمية الاقتصادية، ثم بدأت المصارف الإسلامية بالانتشار في مختلف الدول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى