إنهوا ديكتاتورية البنك المركزي الأوروبي

لندن – محمد سليم

“إنهوا ديكتاتورية البنك المركزي الأوروبي!” صاحت جوزفين ويت فيما كانت تقفز على المنصّة حيث كان ماريو دراجي يعقد مؤتمراً صحافياً في 15 نيسان (أبريل) الفائت، راميةً رئيس البنك المركزي الأوروبي بقصاصات من ورق. وفيما كان “بيان” المحتجّة الوحيدة طائشاً، فقد سلّط الضوء على قضية حقيقية: إن البنك المركزي الأوروبي هو البنك المركزي الأكثر إستقلالاً في العالم ويسيء إستخدام سلطته الواسعة غير الخاضعة للمساءلة من خلال العمل بطريقة سياسية وقحة على قضايا هي خارج إختصاص سياسته النقدية. لا بدّ تصحيح مساره ووضعه في مكانه الصحيح.
إن سلطة البنك المركزي الأوروبي هي إستثنائية. إن البنوك المركزية المستقلة العاملة الأخرى في نهاية المطاف تابعة إلى حكومات منتخبة: على الرغم من أن مسؤولي وزارة الخزانة لا يتدخلون في السلوك اليومي للسياسة النقدية، فمن غير المعقول أن يرفض مجلس الإحتياطي الفيديرالي في الولايات المتحدة شراء سندات الخزانة خلال أزمة إذا طالبته الحكومة الإتحادية الأميركية أن يفعل ذلك. ولكن البنك المركزي الأوروبي غير المُنتخَب لا يوجد له مرجع سياسي. لا توجد حكومة في منطقة اليورو. إن البنك المركزي يعوم فوق 19 حكومة وطنية، مراعياً برلين، ولكنه يرفض التعاون مع مجموعة اليورو، إجتماع وزراء مالية منطقة اليورو. وفيما ضرب الذعر منطقة اليورو إعتباراً من العام 2010 فصاعداً، تجاهلت فرانكفورت (حيث يوجد مقر البنك) مناشدات من أجل أن يفعل “كل ما يلزم” لقمع حجم السندات السيادية لدى العديد من البلدان – حتى في النهاية، تلفّظ دراجي في تموز (يوليو) 2012 العبارة السحرية وأخذ المستثمرون كلامه على محمل الجد.
إن إستقلال البنك المركزي الأوروبي المفرط راسخ في معاهدة الإتحاد الأوروبي، والتي لا يمكن تعديلها إلّا إذا وافقت كل حكومات الإتحاد الأوروبي ال28 وبرلماناتها، وفي بعض البلدان إجراء إستفتاء شعبي. وكأنه حاكم مطلق، فهو منعزل وبعيد من إستجواب أعماله المستقلة وسلطاته. هذه القوة الهائلة الموجودة في أيدي مسؤولين غير منتخبين تتطلّب المساءلة المناسبة، إلّا أن البنك المركزي الأوروبي يفضّل فقط إقامة حوار مع أعضاء البرلمان الأوروبي، حيث لا يوفّر لهم معلومات كافية لإجراء تمحيص دقيق حول أنشطته. كما لا يمكن للبرلمان معاقبة المسؤولين في البنك المركزي الأوروبي لفشلهم في أداء واجباتهم أو إساءة إستخدام سلطاتهم.
على أقل تقدير، يجب على محافظي البنوك المركزية المستقلّين وغير الخاضعين للمساءلة “التمسّك بعقدهم”، كما يقول وليم بيوتر، كبير الإقتصاديين في “سيتي غروب”. لكن البنك المركزي الأوروبي يحاضر، ويُخيف، ويهدد، وحتى يُملي على الحكومات شروطه بشأن قضايا خارج نطاق إختصاصه، ولا سيما معارضة إعادة هيكلة الديون ومطالباً بضبط أوضاع المالية العامة وإجراء إصلاحات هيكلية. للوصول إلى ما يبغيه، فإنه حتى، في الواقع، هدد بحرمان اليونانيين والإيرلنديين بشكل غير قانوني — وبالتبعية البعض الآخر أيضاً – من حق إستخدام عملتهم الخاصة، اليورو، كعملة قانونية.
بدأ التعفّن في ظل سلف دراجي، جان كلود تريشيه. قاوم المحافظ السابق لبنك فرنسا بأسنانه وأظافره لمنع إعادة هيكلة الديون في اليونان المُفلسة في العام 2010، والذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى خسائر ضخمة في البنوك الفرنسية. لإعطاء مصداقية للزعم الزائف أن اليونان كانت تمر بصعوبات تمويل مؤقتة، بدأ البنك المركزي الأوروبي في حينه شراء السندات الحكومية اليونانية. وهذا أعطى فرانكفورت سبباً آخر لمعارضة إعادة الهيكلة اللاحقة للدين الصادر عن اليونان للسوق في العام 2012 – وتهديد البنك المركزي الأوروبي بإلحاق الفوضى في منطقة اليورو إذا عُصي أمره للحد من تخفيف عبء الديون التي حصلت عليها أثينا. وهدد كلٌّ من تريشيه ودراجي، في الواقع، بإجبار اليونان على الخروج من منطقة اليورو إذا تخلٌفت عن الدفع. الآن، تشكل ملكية البنك المركزي الأوروبي من السندات اليونانية عقبة أخرى لتخفيف عبء الديون الذي تحتاج إليه اليونان. وتضغط فرانكفورت أيضاً على البنوك اليونانية للضغط على الحكومة للإمتثال لمطالب الدائنين في منطقة اليورو بطريقة سياسية سافرة.
علاج تريشيه لضحية أخرى من الأزمة، إيرلندا، كان شنيعاً ومهيناً على حد سواء. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، فقد هدّد بقطع شريان التمويل من البنك المركزي الأوروبي للبنوك الإيرلندية – الذي كان من شأنه أن يجبر إيرلندا على الخروج من منطقة اليورو – إلّا إذا وافقت الحكومة الحصول على قرض من الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لإنقاذ البنوك الدائنة (غالباً ألمانية)، و تنفيذ خطة تقشف وإجراء إصلاحات هيكلية.
إن إساءة إستخدام السلطة هذه قد رزّحت دافعي الضرائب الإيرلنديين تحت عبء 64 مليار يورو من الديون المصرفية – 14,000 يورو لكل شخص في إيرلندا.
بغض النظر عن مزايا ضبط أوضاع المالية العامة والإصلاحات الهيكلية، فإن البنوك المركزية غير المُنتخبة لا يحق لها المطالبة بها وليس هذا دورها- ناهيك عن إملائها. لكن مسؤولي البنك المركزي الأوروبي يقومون بها بشكل روتيني. فقد تبنّى تريشيه مراراً التقشف، مدّعياً (خطأ) أنه سيكون توسّعياً. حتى قيامه بتغيير لهجته في جاكسون هول في أميركا في آب (أغسطس) الماضي، فقد طالب دراجي أيضاً حكومات منطقة اليورو بشدّ أحزمتها. رئيس البنك المركزي الألماني “بانديسبنك”، ينس ويدمان، حاضر بإنتظام وطالب الحكومات الأجنبية، ولا سيما فرنسا، بما يجب القيام به. ومع ذلك لو أسدى المسؤولون الفرنسيون نصيحة للبنك المركزي الألماني، لكانت قامت قيامة ويدمان.
إنه ليس كلاماً فارغاً غير مناسب تماماً. في صيف 2011، كتب تريشيه ودراجي إلى رئيس وزراء إيطاليا آنذاك، سيلفيو برلِسكوني، حيث طالباه بالشروع في خطة تقشف وإصلاحات كشرط للبنك المركزي الأوروبي لكي يشتري سندات الحكومة الإيطالية للحد من الذعر الذي هدّد بإجبار البلاد على التخلف عن الدفع. عندما لم يمتثل برلسكوني، أجبر البنك المركزي الأوروبي، في الواقع، رئيس الوزراء المُنتخّب على ترك منصبه، من طريق إعلانه أنه سيشتري السندات الإيطالية فقط إذا جرى إستبدال رئيس الوزراء بتكنوقراطي أكثر مرونة.
في كانون الأول (ديسمبر) 2011، عندما بدا كما لو أن الذعر قد يتسبب في إنهيار اليورو في غضون أسابيع، طالب دراجي أن تتفق حكومات منطقة اليورو على “إتفاق مالي” الذي من شأنه أن يرسّخ إنضباطاً أشد بكثير، ملمّحاً إلى أن هذا الأمر قد يدفع البنك المركزي الأوروبي إلى التدخل لتهدئة حالة الذعر. إمتثلت حكومات منطقة اليورو حسب الأصول وصارت الآن مقيَّدة بهذه القيود المالية الجديدة من خلال إلتزامات معاهدة نقلت إلى الدساتير الوطنية.
وكان للبنك المركزي الأوروبي أيضاً دور مباشر في وضع السياسات المالية والإصلاحات على مستوى الإقتصاد كجزء من اللجنة الثلاثية (التي تضم أيضا صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية)، التي تدير البلدان التي حصلت على قروض من الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي – اليونان، إيرلندا، البرتغال وقبرص – كشبه مستعمرات.
السلطة تُفسِد. والسلطة غير الخاضعة للمساءلة تُفسِد أكثر بكثير. ينبغي على البنك المركزي الأوروبي أن يتوقّف عن التدخل في القضايا السياسية التي هي خارج دائرة إختصاصه في السياسة النقدية والإستقرار المالي. ينبغي عليه أن يتخلى عن سلطاته المُكتسَبة حديثاً للإشراف على بنوك منطقة اليورو وحلّها لوكالة منفصلة مستقلة عن البنوك وخاضعة للمساءلة بشكل صحيح من قبل البرلمانيين المنتخبين. وينبغي أن يكون أكثر إنفتاحاً وشفافية بالنسبة إلى أنشطته، وليس أقلها الإعلام عن الذين يجري معهم معاملاته المالية وبأية شروط. يجب أن تكون هناك معاقبة لمسؤوليه – وإذا لزم الأمر إقالتهم – من قبل البرلمان الأوروبي إذا فشلوا في مهامهم، أو أساؤوا إستعمال سلطاتهم.
إذا كان البنك المركزي حكيماً، فإنه يتطوع للقيام بكل هذا – أو حتى الدعوة إلى مثل هذه التغييرات التي يتم تنفيذها عبر التشريع. ولكن، لأنه ليس هناك أي مؤشر إلى حدوث ذلك، فإنه سيواجه في نهاية المطاف رد فعل ديموقراطياً أكبر بكثير من محتجة واحدة التي رمت رئيسه بقصاصات من ورق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى