سلمى حايك تسجن “النبي” في مدينة أميركية!

بعدما عرضت مقاطع من فيلمها “النبي” المصور بطريقة الرسوم المتحركة في مهرجان “كان” السينمائي في الصيف الفائت ونال إستحسان النقاد هناك، سافرت سلمى حايك إلى لبنان حيث أطلقت منه فيلمها الجديد عالمياً والذي شارك في إخراجه 9 مخرجين.

سلمى حايك في إفتتاح "النبي" في بيروت: لو إستنجدت بالروحية الرحبانية؟
سلمى حايك في إفتتاح “النبي” في بيروت: لو إستنجدت بالروحية الرحبانية؟

بيروت – جوزف قرداحي

هل يمكن أن يتحوّل كتاب “النبي” لجبران خليل جبران إلى فيلم روائي طويل؟ وبالتالي هل يحق للمنتج أو لكاتب السيناريو أو للمخرج أن يعيد صوغ أحداث كتاب وصلت أرقام مبيعاته إلى ما يزيد عن المئة ميلون نسخة وبأكثر من خمسين لغة مثل كتاب “النبي”، وبالتالي يغيّر وقائعه وشخصياته وينسف هيكليته وجوهره من أساسها؟!
قد يبدو السؤال للوهلة الأولى رفضاً أو إعتراضاً على فيلم سلمى حايك الكرتوني والذي حاولت من خلاله مع مخرج “الملك الأسد” “The Lion King” روجيه آلِلرْز أن تعيد صياغة كتاب “النبي” على طريقتها وبأسلوب مبسّط يفهمه الأطفال، فجاء الفيلم مغايراً تماماً لرسالة وهدف “نبي” جبران المستوحى من ليتورجيا متماهية مع فكر نيتشيه الفلسفي، والقائمة على حكمة وشخصية نبيٍ خارج من ثقافات مشرقية هي خليط زرادشتي فارسي وبابلي سومري، منسجمة مع لاهوتية المسيح الذي كان يخطب في الجماعات المؤمنة، وفي مدينة مشرقية قديمة شبيهة بمدينة القدس أو بإحدى المدن التي شهدت ولادة المذاهب الفلسفية مثل أثينا أو روما أو بغداد.
من هنا، تبدأ سلسلة من التساؤلات حول فيلم حايك الذي وصلت كلفة إنتاجه إلى 12 مليون دولار، وقام بتنفيذه نمانية مخرجين إلى جانب آللِرز الذي (بحسب حايك) قام بالتوليفة الأساسية لسيناريو وقصة الفيلم، معتمداً على خياله الكرتوني أكثر من إعتماده على نص كتاب جبران، فجعل من “نبي” أورفليس المصطفى المختار الحبيب (صوت الممثل ليام نيسون)، الذي كان فجراً لزمانه، سجيناً محكوماً بالإقامة الجبرية وسط حراسة مشددة من شرطة المدينة، وهو الذي في واقع كتاب جبران عاش بين أهل المدينة إثني عشر عاماً، متنقلاً بين معابدها، مبشّراً بالخلاص وبالملكوت السماوي. وهو ما جعل الناس يؤمنون به نبياً مختاراً من الله. وتخدمه في الوقت ذاته كاهنة صبية كانت أول من آمن به هي “المطرة”. غير أن الخيال الكرتوني لسلمى حايك وللمخرج آللِرز إستبدل المطرة بوالدة جبران “كاملة”، جاعلاً المطرة في الوقت عينه طفلة شقية وإبنة ل”كاملة” لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، وهي بحسب الفيلم تسعى دائماً إلى المشاكل والتسبب بالكوارث نتيجة عبثها وشقاوتها. إنها حبكة الكرتون الضرورية لإضفاء بعض التشويق والإثارة والمغامرة على الرواية لتجذب الأطفال وهواة الكرتون، وبالتالي لتجعل أحداثه أقرب إلى فيلم أميركي منه إلى قصة فلسفية تخاطب العقل أكثر من الغريزة.
حاولت سلمى حايك أن تمزج ما بين حياة النبي المنعزل في التأمل والصلاة والتصوّف، وبين حياة جبران الفتى اليافع الخارج من رحم ثقافة مشرقية ومجتمع متزمت تتسلط عليه الإقطاعيات الدينية والسياسية، إلى رحم ثقافة غربية واسعة الآفاق ومجتمع متحرر من قيود الدين والسياسة. وقد أعطت الهامش الأكبر لوالدته “كاملة رحمة” الهاربة من إضطهاد مجتمع ذكوري وظلم زوج سكير مستهتر، فسلطت الضوء على بداية رحلة إمرأة مكافحة، تحدّت الأقدار وعملت خياطة متجوِّلة، تصل الليل بالنهار لتربّي أولادها الأربعة وتأمين مستقبل أفضل لهم، ولتتكافل في ما بينها وبين إبنها الأكبر بطرس وبنتيها مريانا وسلطانا على تقاسم العمل لتأمين العلم لجبران الذي بدأت تتفتح مواهبه صغيراً في بشري.
تقاسم دور البطولة الرئيسية في فيلم “النبي” والدة جبران ولكن بشخصية مدبرة غرفة “النبي” السجين، (صوت سلمى حايك) فكانت تتولى بشكل دوري العناية بغرفته في السجن، ترافقها تسللاً، إبنتها الشقية “المطرة” التي كانت تحاول التلصص على رسومه في أثناء غرقه في بحور الريشة واللون والإبداع، ولكنها كانت عاجزة عن مخاطبته بسبب بكمها الذي أصيبت به إثر صدمة موت والدها. ففي هذه المدينة التي تشبه إلى حد كبير مدينة بوسطن في اوائل القرن العشرين، تجري أحداث الكتاب، الذي يدور في حوار بين كاملة رحمة والنبي المصطفى بدلاً من المطرة. فنشاهد لوحة الزواج على وقع موسيقى صاغها برهافة وإبداع غبريال يارد، حيث كان إختيار هذا الأخير يارد في هذا المجال موفقاً في إضفاء الروح الشرقية الى الموسيقى التي تحاكي نصوص جبران. غير أن اللافت بقوة في أثناء مشاهدة الفيلم الكرتوني، هو حضور الأخوين الرحباني وفيروز بقوة ومعهم زياد الرحباني، وإن غابوا تماماً عن أي بصمة فيه. حضور الرحبانيان وفيروز في أغنية “المحبة”، حضور زياد وفيروز في “الأرض لكم”، وهو حضور ذهني في وجدان من عاصروا فيروز ونبيها جبران ومُلهما صوتها عاصي ومنصور، وإن كان حضورهم في هذا الفيلم حضوراً رمزياً، إلى درجة أن أكثر من سؤال تبادر إلى أذهان من شاهد الفيلم من الرعيل المخضرم: “ماذا لو إلتقطت سلمى حايك المبادرة، ومزجت الروحية الرحبانية وصوت فيروز في هذا العمل الكبير؟! ماذا لو سمعنا أغنية “المحبة” بلحنها الرحباني الأصلي وصوت فيروز الأصلي من دون أي تعديل ما خلا متطلبات التقنية السينمائية؟!
تُرى، هل لفت أحدهم إنتباه سلمى حايك إلى ضرورة نبش أرشيف الرحابنة وفيروز، قبل المباشرة بأي محاولة إنتاج؟!
جميل أن يفهم الجيل الجديد كتاب “النبي” بأسلوب مبسط ومن خلال الرسوم المتحركة الأقرب إلى مزاج الأطفال، ولكن الأجمل أن يفهم هؤلاء “النبي” تماماً كما أراده جبران، وليس كما ارادته سلمى، سجيناً في مدينة عصرية، وبأزياء “فانكي” أقرب إلى عازف موسيقى في فرقة البيتلز منه إلى نبي وقور في مدينة قديمة. وعلى وجه أخص أهمية دور “المطرة” في حياة هذا المصطفى الذي كان يكن لها مشاعر تفوق الحواس البشرية، مشاعر تجيش بالحنان، إذ كانت أول من سعى إليه وصدّق به وكان لم يمضِ على وصوله إلى المدينة غير يوم واحد. فنشأت علاقة حب روحية سامية بين نبي وكاهنة، إختصرها المصطفى بفلسفته عن الحب حين إنبرت وسط الجمع الحزين على فراقه وسألته: “يا نبي الله، يا من سعى وراء أسمى الغايات، يا من ظلَّ يتطلع إلى الآفاق بحثاً عن سفينته. ألا ما أعظم حنينك إلى مهد ذكرياتك، وموطن رغباتك الجسام، فحبُّنا لن يقيدك، وحاجاتنا لن تستوقفك، غير أنّا سائلوك قبل أن ترحل عنا أن تتحدث إلينا عن الحب”!
تلك العلاقة المفعمة بشغف الحب النبيل ما بين المطرة ونبيها، غابت عن مجريات أحداث الفيلم، ليغيب عنه أروع مشهد وحوار كان في الإمكان إستغلالهما في فيلم وصلت كلفة إنتاجه إلى 12 ميلون دولار، ومن خلال معالجة مختلفة وأكثر عمقاً وإبهاراً وملحمية تاريخية. ذلك أن كتاباً من مستوى “النبي” شئنا أم أبينا هو كتاب للبالغين وفوق مستوى فهم الصغار ولو عالجناه بالرسوم على طريقة قصص “الساحرة” وليلى والذئب” أو”الأميرة الصغيرة. وكأن من شاؤوا تخليد كتاب “النبي” لجبران من خلال فيلم هوليوودي مبهر، لم يفقهوا إطلاقاً عمق وكنه الفلسفة الجبرانية التي ترتقي إلى مستوى إلياذة شعرية، كان ينبغي معالجتها سينمائياً على قاعدة أفلام من طراز كليوباترا مشهدياً وسينوغرافياً من حيث تصميم الملابس والديكورات والموسيقى والمؤثرات التي تعود إلى العصر الإغريقي والروماني بعظمته التراجيدية المسرحية. إذا لا يمكن تفريق نبي جبران عن المسرحية الدرامية ولو من خلال معالجة سينمائية صرفة. فالرحابنة اختصروا كل تلك المشهدية حين خرجوا برائعة “المحبة” ومشهديتها الإحتفالية المؤثرة، حين يهتف أهالي اورفليس صوتاً واحداً: “لا لا تأذن لموج البحر أن يفرقنا”. فهذه الإحتفالية الموسيقية وحدها كانت كافية لتؤسس بداية متينة لسيناريو فيلم “النبي” الذي كان له أن يولد أكثر إشراقاً ومهابة من خلال الرؤية الرحبانية التي وحدها كشفت سر المختار الحبيب الذي كان فجراً لذاته!
حبذا لو أدركت سلمى حايك تلك الحقيقة، قبل أن تقدم على مغامرتها الكرتونية!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى