حرب الرقابة الدينية وثقافة الرذيلة!

بقلم جوزف قرداحي

المعركة ما بين العقل ورجال الدين، يبدو أنها طويلة وشرسة وبدأت تأخذ منحى تصاعدياً، لا سيما وأن عدداً من الزملاء الإعلاميين وجد في إثارة المواضيع الدينية المحرّمة، مادة جاذبة ولاقطة للمشاهدين الذين ملْوا البرامج السياسية، وكفروا بالسجالات العقيمة والممجوجة التي تدور على ألسِنة السياسيين المتخاصمين.
أكثر من قناة فضائية طرحت في برامجها الحوارية قضايا إجتماعية متنوعة، الجامع المشترك بينها هو التسلّط الديني الذي يدخل في مفاصل مختلف الحياة الإجتماعية للفرد الذي يعيش في منطقة الشرق الأوسط.
مواضيع مختلفة ناقشها إعلاميون يعملون في محطات فضائية متباعدة في سياستها وتوجهاتها الإعلامية، هي: “الفضائية اللبنانية أل بي سي” مع الزميل أحمد عدنان من خلال برنامج “عيشوا معنا”، “الجزيرة” مع الزميل فيصل القاسم في “الإتجاه المعاكس”، و”الحرة” مع الزميل جوزف عيساوي في برنامجه الثقافي “قريب جداً”.
فيصل القاسم على طريقته التحريضية، إستقبل في إحدى حلقاته مؤلف كتاب “الجنس تواصل لا تناسل” الدكتورخالد منتصر، الذي طرح فكرة جريئة جداً في مجتمع لا يزال يعيش أسيراً لسلطة رجال الدين، وهي تعميم الثقافة الجنسية على طلاب المدارس، من خلال مناهج علمية حديثة تتماشى مع العصر وتطوره، معتبراً أن ممارسة الجنس بين الرجل والمرأة، عملية لها بعد عاطفي أسمى من مجرد التناسل والإنجاب الذي يقتصر فقط على الحيوان. ومتّهماً بالتالي رجال الدين، بأنهم يقفون حاجزاً بين العقل والتطور، باسم الدين وبحجة إحتكارهم الفضائل الأخلاقية لأنفسهم، مكفِّرين كل من يخرج عن طاعة فتاواهم الدينية.
وفي مواجهة هذا الطرح الذي يلتقي مع العقل في عصرنا الحديث، إستقبل البرنامج الإستاذ في جامعة الأزهر الشيخ إبراهيم الخولي، الذي رفض هذه الفكرة جملة وتفصيلاً، مقدماً الحجة تلوَ الأخرى من أجل “نسف” ما وصفه بالإنحطاط الأخلاقي والفسق الإجتماعي، رافضاً بالتالي إستخدام مفردة “جنس” التي تعني في قاموسه مصطلحاً آخر لمفردة الرذيلة، مغلباً فتاوى مشايخ الأزهر على أي بحث علمي، ومتمسّكاً بدور رجال الدين في توجيه الطلاب جنسياً وفقاً لتعاليم القرآن!
وكما أن الدين لا يزال حتى يومنا هذا يتدخل في فراش الزوجين، ويقرر عنهما ما يمارسانهما، وما يمتنعان عنه حتى في أدق تفاصيل حياتهما الجنسية، فإن رجال الدين أنفسهم ومن مختلف الطوائف، لا يتورّعون من التدخل حتى في مسائل رقابية فنية، قد تكون من إختصاص الأمن العام، أو دوائر الرقابة على المصنفات الفنية، وهو ما كان قد طرحه الزميل جوزف عيساوي في برنامجه “قريب جداً” على قناة “الحرة” تحت عنوان: “سينما العالم السفلي”، جرّاء منع عرض فيلم: “Help” للمخرج اللبناني مارك أبي راشد، وبتدخل مباشر من المركز الكاثوليكي للإعلام مع دائرة الأمن العام اللبناني التي كانت قد أعطت الموافقة على عرض الفيلم، ثم عادت وسحبت منه الترخيص لأسباب أرفقها مدير المركز الكاثوليكي بلائحة إعتراضه، ومنها: “خدش الحياء العام” و”تشجيع القاصرين على الرذيلة والشذوذ” إلخ.
مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبده كسم الذي كان أحد ضيوف عيساوي، دافع بشدة عن موقفه من الفيلم، مشدّداً على أن الكنيسة لا يمكن أن تقف على الحياد في مسائل تتعلق بالأخلاق! الأمر الذي جعل النقاش في وتيرة عالية بين كسم والمخرج أبي راشد، الذي دافع بدوره عن فيلمه الذي طرح نماذج موجودة في المجتمع، مؤكداً أن منع الفيلم من العرض حتماً لن يلغي الشذوذ الجنسي، ولا الجريمة ولا الدعارة، ورسالة الفن وخصوصاً الفن السينمائي، هي تسليط الضوء على العالم السفلي كما هو، وليس طمسه والتعتيم عليه.
وإذا إستخدمت الكنيسة عبر مركزها الاعلامي سلطتها الدينية مع الامن العام اللبناني لمنع فيلم: “Help” من العرض والتداول (علماً أنه وُزِّع على أقراص مقرصنة بالآلاف، وشاهدته أضعاف مضاعفة من القاصرين الذين حرصت الكنيسة على أخلاقهم)، فإن سلطة “حماس” في غزة وبإسم الدين أيضاً، أفتت بمنع السباحة بالمايوه، وإلزام السابحات بإرتداء الثياب الطويلة المحتشمة وذلك منعاً للرذيلة والفلتان الأخلاقي. وهو قرار صدم شريحة واسعة من المثقفين العرب، غير أنه لم يجرؤ الكثيرون منهم على المجاهرة بآرائهم المستهجنة لهكذا قرار سوى قلة نادرة.
من هذه القلة النادرة كان الشاعر أدونيس الذي إتهم “حماس”، عبر برنامج “عيشوا معنا” على شاشة “أل بي سي الفضائية اللبنانية”، بأنها تساهم في شلّ المجتمع الفلسطيني، وتُضعف مقاومته ضد المحتل، ولا سيما في قراراتها التي تلغي دور المرأة من “البؤرة التي يُفترض أن تكون بؤرة تحرر لا تخلف، فالمرأة في الجاهلية (على ما يقول أدونيس) كانت حرة وصنواً للرجل، تصلي معه، وتمارس دورها على أكمل وجه”، مستهجناً قيام بعض رجال “حماس” بقطع رؤوس “المانوكان” الدمى المعروضة في واجهات محلات الألبسة النسائية، “الأمر الذي يعيدنا إلى الوراء”.
وأطلق أدونيس العديد من مواقفه الجريئة تجاه الكثير من المسائل لا سيما الدينية منها، متجاوزاً كل المحرمات التي يضعها رجال الدين أمام عباد الله، مؤكداً أن الدين جاء لخدمة الانسان وليس الانسان لخدمة الدين، داعياً إلى قراءة النص القرآني بوصفه نصاً تاريخياً، يرتبط بزمان ومكان معينين. وذلك في حوار أجراه معه الزميل أحمد عدنان الذي أخضعه على مدى ساعتين لاستجواب هادئ في الشكل ومستبد في المضمون.
وفي الخلاصة، رجال الدين على إختلاف طوائفهم ومشاربهم، متى يستقيلون من وظائفهم كـ”شرطة أخلاق” إنتهت مهامهم مع تطور المجتمع المدني، وإكتشاف وجه الله الحقيقي من خلال العقل، الطامح إلى العلم والتحليل والمنطق؟
فلو إكتفى شيخنا الجليل إبراهيم الخولي برفض فكرة تعميم الثقافة الجنسية على الطلاب بمناهج حديثة، من دون إتهام من يقفون وراء هكذا مناهج بخدمة إبليس وبالرذيلة والإنحطاط الأخلاقي، مكرّساً وقته وجهده في توعية المجتمعات الفقيرة في مصر، التي تكثر فيها كل أنواع المظالم والفحشاء والتعديات الجنسية على القاصرين، حتى من رجال دين يدعون الورع والأخلاق، أما كان يكسب ثواباً أعظم عند الله؟
وبالتالي، لو إكتفى الأب المحترم عبده كسم مدير المركز الكاثوليكي للإعلام، بلعب دوره في توعية المجتمع والنشء الجديد من خلال إصدار مجلات متخصصة بهموم هذا الجيل، والسعي إلى تحسين المستوى المعيشي للمواطن من توفير العلم المجاني، والطبابة، وإيجاد فرص العمل، أما كان ساهم في التخفيف من ارتكاب الجرائم، وحماية القاصرين من الرذيلة، والحد من تفشي الدعارة في المجتمعات الفقيرة!
قرار منع فيلم “Help” من العرض، لم يمنع القاصرات والقاصرين من مشاهدته وفي الأماكن السفلى السرية وبكثافة. كذلك قرار رجال الدين مصادرة العقل وقمع الحريات، سوف يزيد الكبت ويشجع على الرذيلة. فمتى يكفّ رجال الدين عن ممارسة وظيفة “شرطة الأخلاق” “لنظام إلهي” أصبح من التاريخ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى