هل تستطيع المملكة العربية السعودية إطعام شعبها؟

في العام 2007، بعد حوالي ثلاثين عاماً على إطلاقها مشروع زراعي طموح، أعلنت المملكة العربية السعودية أنها سوف توقف المساعدات الحكومية للقطاع الزراعي وتتخلّص منها تدريجاً حيث ستنتهي في مجملها في العام 2016. وكان خبراء كثيرون إنتقدوا المشروع منذ بداياته، حيث شدّدوا على العبء الذي يضعه ذلك على الإقتصاد، والضرر الذي سيلحق بأصول المياه في البلاد. لقد كان النقاد لاذعين على وجه الخصوص بالنسبة إلى قرار الدعم الحكومي للمشروع وآثاره الضارة في الإقتصاد السعودي ككل.
ومع ذلك، سارت الرياض إلى الأمام مع ما تراه سعيها إلى تقديم الأمن الغذائي لشعبها المزدهر، وكذلك فرص عمل إضافية. وفي هذه الدراسة المعمَّقة لصناعة القمح التي ازدهرت في المملكة بين عامي 1980 و2007 وإنجازاتها وإخفاقاتها، وكذلك تأثير القطاع الزراعي في الإقتصاد المحلي وفي الموارد المائية نريد أن نوجه تحذيراً، ونؤكد من جديد على الحقائق التي كانت وراء قانون ذي عواقب غير مقصودة.
قبل تحليل الأسباب الكامنة وراء هذا القرار الذي يهدف إلى زيادة الإنتاج الزراعي في المملكة الصحراوية، فمن الضروري الحصول على الصورة الكاملة لما جرى قبل ذلك القرار، والخطوات الملموسة الفعلية التي إتخذت لتمريره.

الزراعة في السعودية: سوف تعاني كثيراً بع 2016
الزراعة في السعودية: سوف تعاني كثيراً بع 2016

الرياض – راغب الشيباني

على الرغم من الشكوك الكثيرة حول قدرتها في المجال الزراعي، فقد تمكّنت المملكة العربية السعودية من تجنّب الإعتماد على إستيراد القمح منذ ثمانينات القرن الفائت. في الواقع، وصلت زيادات إنتاج القمح في المملكة إلى مستوى لم يسبق له مثيل، حيث إرتفع إنتاجها من هذه المادة من 148،000 طن في 1981 إلى 4.1 ملايين طن بحلول العام 1993. وكانت الزيادة في صادرات القمح حتى أكثر إثارة، حيث إنطلقت من مجرد 2.4 طن في العام 1978 إلى مليون طن في العام 2000، صُدِّر معظمها إلى الدول المجاورة في الخليج العربي، وإلى غيرها من البلدان الآسيوية مثل بنغلاديش.
وكانت هناك طريقة واحدة تم من طريقها إنجاز هذا المشروع وكَمنَت في توسيع كبير للمناطق المتاحة الصالحة للزراعة. كان لدى المملكة حوالي 67،000 هكتار من الأراضي الزراعية المقدَّرة في العام 1980، والتي نمت إلى 907,000 هكتار بحلول العام 1993. وبالمثل، في العام 1980، كان متوسط الإنتاج في المزرعة الواحدة 2.2 طن من القمح في الهكتار الواحد. ونما هذا الرقم إلى 5.19 أطنان بحلول العام 2005. وبعض الشركات في المناطق الشمالية للبلاد تمكّن من الحصول على زيادة كبيرة في الإنتاج إلى 8-10 أطنان للهكتار الواحد، وهو رقم، أكثر أو أقل، على قدم المساواة مع الإنتاج في أوروبا الشرقية والوسطى.
على مر السنين، أصبحت صناعة القمح السعودية تتركّز في مناطق عدة بما في ذلك منطقة القصيم في هضبة نجد، وضواحي الرياض، وضواحي القطيف في المنطقة الشرقية، والطائف وضواحيها في المنطقة الشمالية، وشمال غرب مدينة حائل، ومنطقة عسير الجنوبية.
بسبب الظروف المناخية الأفضل، إستثمرت الدولة السعودية جهداً أكبر في الأجزاء الشمالية من البلاد حيث تسيطر الشركات الزراعية على مساحات شاسعة والتي توسّعت أكثر من 268 هكتاراً إلى 380 هكتاراً. في معظم أجزاء أخرى من المملكة، كانت المساحة المعتادة للأراضي المخصّصة للقمح في نطاق 5 إلى 10 هكتارات.
مع ذلك، فإن الإنفجار في إنتاج القمح لم يكن ليحدث من دون دعم حكومي. في ثمانينات القرن الفائت، منحت الرياض القطاع الزراعي حوافز مثل الدعم والإعانات بالنسبة إلى الحبوب والأسمدة ومياه الري، وحسم (خصم) 45٪ على شراء الآلات الزراعية. وعلى الرغم من الفرق الكبير في الأسعار بين القمح المنتج محلياً (1،000 دولار للطن) وما هو متاح في الأسواق العالمية (100 دولار للطن)، واصلت الحكومة السعودية شراء المنتجات الزراعية المحلية وبيعه في السوق المحلية بأسعار مخفّضة بشكل مصطنع.
جلب هذا القطاع الزراعي المزدهر إرتفاعاً كبيراً في التوظيف. في منتصف سبعينات القرن الفائت، بلغ عدد العاملين في الزراعة 274،000 شخص؛ وإرتفعت هذه الأرقام إلى 681،000 في العام 1992. ورفعت هذه الطفرة الأرباح في قطاع الزراعة على الرغم من أنها ذهبت أساساً إلى كبار ملاك الأراضي.
لزيادة أرباحها وإدارة ممتلكاتها بشكل أفضل، إنضمت عائلات مهمّة من التجار والأمراء السعوديين مع شركات عالمية للإستثمار في الزراعة. في ثمانينات القرن الفائت، على سبيل المثال، صار الأمير مقرن بن عبد العزيز، محافظ مدينة حائل آنذاك، شريكاً في شركة حائل للتنمية الزراعية، والتي سرعان ما أصبحت أكبر شركة زراعية في المملكة. ولأن غالبية الشركات الزراعية الكبيرة قد أسّستها النخب السعودية، فقد زعم النقّاد بأن الدعم تمّ منحه أساساً لصالح النخب عينها. وثمة نتيجة أخرى لهذه السياسة تمثّلت بزيادة تهريب القمح من اليمن وسلطنة عمان من أجل بيعه في السوق السعودية والحصول على أرباح ضخمة.
بحلول ثمانينات القرن الفائت، أصبح إستقرار الحكومة السعودية يعتمد على أولئك الذين طالبوا بضمانات دعم في مقابل الحصول على إستقرار داخلي. وأنتج الدعم حصيلة هائلة من الآثار السلبية في إقتصاد البلاد، إذ أنه كان يهدر أو “يشفط” نحو 20 في المئة من أرباح النفط السعودية بين عامي 1980 و2000. كما أن الإعانات الزراعية الممنوحة لم تكن دائماً تُعطى بإستمرار. عندما إنخفضت أسعار المواد الغذائية والنفط، خفّضت الحكومة السعودية الدعم المالي من أجل تجنّب الإنتاج الزائد. وقد وصلت الإعانات إلى ذروتها في بداية ثمانينات القرن الفائت عندما بدأت الصناعة الزراعية إنطلاقتها، وكان في حينه دخل الحكومة مرتفعاً خصوصاً بعد عشر سنين من الإزدهار الناجم عن النفط. ومع ذلك فإن إنخفاض أسعار النفط في 1995-96 جعل الأمر أكثر صعوبة لمنح الإعانات على المستوى عينه كما كان الحال في السنوات السابقة. وهذا، بدوره، أدّى إلى إنخفاض في الإنتاج الزراعي في تلك السنوات. لقد نظرت الدولة إلى تجنب خفض الدعم بشكل متطرف حتى عندما كانت البلاد تشهد أزمة إقتصادية آخذةً في الحسبان أنه بمجرد منح القطاع الزراعي المساعدة، فإنه سيجد صعوبة للعمل من دونها. والواقع أن إعتماد القطاع على الدعم كان أحد العوامل التي أدّت إلى الإشتباكات العنيفة التي إندلعت في مدينة بريدة في كانون الثاني (يناير) 1995 عندما إحتجّ أولئك الذين يرتزقون من الزراعة على إمكانية التخفيضات. هذه الضمانات وفّرت مقايضة للإستقرار الأسري.

أثمن الموارد

لكن، كان لمشروع القمح الطموح أيضاً تأثير سلبي في إمدادات المياه الهشّة في البلاد. إن الصيف السعودي حارٌ جداً وجاف مع درجات حرارة مرتفعة تصل في كثير من الأحيان إلى 120 درجة فهرنهايت (49 درجة مئوية). كما أن متوسط هطول الأمطار هو 5 بوصات (130 ملم) سنوياً على الرغم من أن هناك بعض الفيضانات تحدث في بعض الأحيان في المناطق الزراعية خلال موسم “الأمطار”. إن المطر المتقطّع، وإرتفاع درجات الحرارة، ومعدّلات التبخّر العالية في المناطق الشرقية من البلاد تجعل من الصعب جداً إقامة إقتصاد زراعي قابل للتطبيق. على سبيل المثال، لري هكتار من القمح في السعودية يتطلب الأمر معدّل 13,173 متراً مكعباً من المياه بالمقارنة مع متوسط معدل عالمي يبلغ 1،622 متراً مكعباً.

27

بدأ إنماء وتطوير قطاع المياه السعودي في ثلاثينات القرن الفائت. حتى ذلك الحين، كانت غالبية المياه في المملكة تأتي من الآبار التي يمكن العثور عليها بالقرب من المدن الرئيسية. في العام 1956، تسلّلت مياه الصرف الصحي إلى العديد من الآبار، مما إضطر الحكومة إلى تسريع معدّل ضخ المياه الجوفية. في سبعينات القرن الفائت، وصل إستخدام الموارد المائية غير المتجدّدة إلى أبعد من ذلك. لقد قاد الإنفجار في عدد السكان — من 6.2 ملايين في 1970 إلى 16.2 مليون نسمة في 1990– إلى زيادة حادة في الطلب. وكانت للتحضّر السريع أيضاً سلبياته وتداعياته: فيما كان 2.7 مليوني شخص من أصل عدد السكان البالغ 7.6 ملايين سعودي وسعودية يعيشون في المدن في العام 1974، فقد إرتفع عدد سكان البلاد الى 18 مليوناً بحلول العام 1992 مع 3.8 ملايين شخص فقط ظلوا يعيشون في القرى والمناطق الطرفية.

27 - Copy

بحلول منتصف تسعينات القرن الفائت، كانت الصناعة الزراعية مسؤولة عن 92 في المئة من إجمالي إستهلاك المياه مع ذهاب نسبة 48 في المئة منها إلى القمح. وقد بدأ أول مفاعيل الإرتفاع الحاد في إستهلاك المياه لأغراض الزراعة في ثمانينات القرن الفائت. في العام 1980، على سبيل المثال، كان السعوديون يستهلكون ملياري متر مكعب من المياه، ولكن بعد ثلاث سنوات لاحقة، وصل الإستهلاك فعلياً الى 7.2 مليارات متر مكعب. وكانت من أسباب هذا الإرتفاع في معدل الاستهلاك أيضاً التغيّرات الديموغرافية في المملكة، كما هو الحال في مكة والرياض وأبها، ولم يكن حصرياً نتيجة لزيادة الإحتياجات الزراعية.
وبحلول العام 1993، بدأت الحكومة تشعر بالآثار الفادحة الناتجة من القطاع الزراعي على مواردها المائية. ووفقاً لوزارة الزراعة السعودية، فقد تم ضخ 140 مليار متر مكعب من المياه من مصادر المياه غير المتجددة بين عامي 1980 و1994، وهو الوقت الذي كان هناك إستنزاف كبير لموارد مياه الشرب في مناطق مختلفة من المملكة كما كان الحال في منطقة تبراك، التي تبعد 95 كيلومتراً من الرياض، وهي أحد أكبر مصادر المياه في السعودية. وفي أمكنة أخرى، مثل المنطقة الشرقية، فقد جفّت خزانات المياه أو أصبحت غير متوافرة بسبب سوء الإدارة، وإنعدام الصرف الصحي، وإستخدام أسمدة أكثر من اللازم، والتي تحتوي على مستويات عالية من المواد الكيميائية السامة. كل هذه العوامل سبّبت تلوث إمدادات المياه وأدّت بالتالي إلى إنخفاض في المياه الجوفية بين 8 و15 متراً بين عامي 1980 و1993.
كان هناك 26 ألف بئر في المملكة العربية السعودية في العام 1982 و52,500 بحلول العام 1990. خلال هذا الوقت، كانت هناك زيادة ملحوظة في إستخدام الموارد غير المتجدّدة من المياه الجوفية مثل تلك التي في الوجيد، والساق، وتبوك، والمنجور، والبياض، والوسيع، وأم رضمة. وقد إتّخذ بعض التدابير للحد من إستهلاك المياه بما في ذلك فرض أسعار مياه جديدة في العام 1994 وذلك لتجنب الهدر والإستهلاك الزائد. ثم في العام 2000، أصدرت الحكومة مرسوماً يفرض على جميع أصحاب المنازل الخاصة والمؤسسات العامة تثبيت جهاز لمعالجة مياه الصرف الصحي.
على الرغم من هذه التدابير فقد إستمرّت السعودية في تبوُّء المرتبة الثالثة في إستهلاك المياه في العالم مع 248.7 ليتراً للفرد في اليوم في العام 1993. ونتيجة لذلك بدأت الحكومة في العام 2005 إستخدام المياه المحلّاة بدلاً من المياه الآتية من مصادر غير متجددة. قبل ذلك، كانت كمية تبلغ 11,679 مليون طن مكعب من المياه تأتي من مصادر غير متجدّدة سنوياً في حين أن 8،000 مليون طن مكعب فقط كانت تأتي من المياه الآتية من مصادر الطاقة المتجدّدة. من جهتها بدأت الدول المجاورة مثل قطر والأردن والعراق تبدي إعتراضها على إستعمال الرياض الواسع للمياه الجوفية المشتركة، التي كانت تستنفد إمدادات الدول الثلاث الخاصة.
من ناحية أخرى، تم إنشاء 60 محطة لجمع مياه الصرف الصحي والتخلّص منها في مدن جدة والمدينة المنورة والخبر لتوفير 70 في المئة من المياه في البلاد بين أوائل تسعينات القرن الفائت وبداية القرن الحادي والعشرين. وتعتزم الرياض أيضاً إنشاء أربعين محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي وتبسيط خطوط أنابيب نقل المياه. ولكن هناك جانباً سلبياً كبيراً ينتج من هذه التدابير. إن محطات التحلية تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، والإعتماد عليها يتطلب حصيلة مالية من الإيرادات الحكومية المتأتية من صادرات النفط والغاز.

جذور القرار

بالعودة إلى العام 1993، فقد أفاد مسؤولون في الحكومة السعودية أن الموارد المائية في المملكة تقلّصت، ومع ذلك إستمرت الرياض في مسارها الهادف إلى مزيد من الإستثمارات في الزراعة. والسؤال هنا: ما هي الاعتبارات التي دفعت الحكومة السعودية إلى الإستمرار في دعم هذا المشروع، على الرغم من الخسائر المالية والبيئية العميقة؟
إعتبر البعض أن السياسة كانت هادفة ومستمَدّة من الرغبة للحد من عدد العمال الأجانب في البلاد. بشكل غير رسمي، تشير التقديرات إلى أن سبعة ملايين شخص أجنبي يعملون في 80 في المئة من القطاع الخاص، مما يجعل من الصعب على المواطنين السعوديين العثور على وظائف. إن الإعتماد على العمال الأجانب له تأثير مباشر في الإقتصاد: تفيد التقديرات بأن ذلك يتسبب في خسائر تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً ذلك أن الكثير من الدخل المتأتي يذهب إلى أيدي الأجانب الذين بدورهم يحوّلون أجورهم إلى أسرهم خارج المملكة.
ومع ذلك، إذا كان تجنيد المواطنين السعوديين في القطاع الزراعي وتشغيلهم كان الهدف من هذه الإعانات الحكومية، فإن نتائج الخطة كانت عكسية. بحلول ثمانينات القرن الفائت، كان معظم العاملين في الميدان هم من الأجانب، وكانت غالبية المزارع يديرها ويشغّلها أشخاص من أصل مصري، عُماني، وشرق آسيوي. وبالإضافة إلى ذلك، بسبب الفجوة بين قدرات العاملين السعوديين ومتطلبات الصناعة، كان العمل الأكثر تخصصاً مثل تشغيل نظم الري والمعدات المتطورة تحت سيطرة الغربيين. المواطنون السعوديون الذين يعملون في الزراعة إقتصر عملهم أساساً على مناصب في التسويق والتوزيع. وعلى غرار صناعة النفط السعودية (التي كانت تخضع لسيطرة الشركات الغربية حتى العام 1980)، تم تأسيس مشاريع زراعية كبيرة حيث أدارها الأجانب. على سبيل المثال، شركة سعد، وهي شركة كانت عاملة في تسعينات القرن الفائت، وظّفت 450 عاملاً، من بينهم كان 100 سعودي، 60 أميركياً وأوروبياً، والباقي من الدول الآسيوية.
وأشار آخرون إلى أن الرغبة في تنويع مصادر الدخل للمملكة كان مفتاح القرار للإستثمار الكبير في القطاع الزراعي. ولكن تحليلاً لمساهمة القطاع الزراعي في الإقتصاد السعودي يُظهر أنه قد كوّن 4.5٪ من الناتج القومي الإجمالي في العام 1975، و 1.8 في المئة في العام 1986، وما يقرب من 6 في المئة في العام 1998، و4.2 في المئة في العام 2002.
بدلاً من ذلك، ينبغي إيجاد جذور القرار السعودي في مكان آخر. المثير للدهشة، أنه قد يكون نتيجة لأزمة النفط العالمية في العام 1973، التي كانت مفارقة كافية لإثارة سلوك السعوديين الخاص. إن الإرتفاع الحاد في أسعار النفط في تلك الفترة أنتج زيادة في تكلفة السلع الزراعية من الخارج، وهذا بدوره، أقنع الحكومة بمحاولة تقليل الإعتماد على مصادر الغذاء الخارجية. لقد خشيت الحكومة أيضاً من إنشاء “كارتل” غذائي خارجي يمكنه أن ينشأ كرد فعل على منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) أي “كارتل” النفط. إلى جانب ذلك، فإن إغلاق قناة السويس بين عامي 1967 و1975 رفع نفقات النقل وأثار الخوف من أن الإمدادات الغذائية يمكن أن يتواصل تعطيلها. وعلاوة على ذلك، وقع عدد من الكوارث الطبيعية التي كانت تضرّ بإنتاج القمح في العالم بين عامي 1970 و1976 –مثل إعصار بولا القاتل في 1970 في شرق باكستان، وكذلك الجفاف الشديد في أوستراليا في العام 1972 — وأرادت الحكومة السعودية الوصول إلى ضمان أن البلاد لن تفتقر إلى مصادر الغذاء. مع إرتفاع إستهلاك الخبز بسبب الإزدهار الإقتصادي الناجم عن النفط وزيادة عدد الحجاج إلى الأماكن الإسلامية المقدسة بنسبة 50 في المئة بين 1980 و1989، كان السعوديون بحاجة الى مزيد من القمح، فضلاً عن تنويع مصادر غذائهم.

تسوية أوضاع البدو

ولكن ربما كان أهم عامل وراء قرار الحكومة لدعم وتوسيع القطاع الزراعي يكمن في إعتبارات محلية وسياسية.
قبل تأسيس المملكة السعودية الحديثة، كان 70 في المئة من المجتمع في شبه الجزيرة العربية من القبائل البدوية الرحّل. في تلك المرحلة، كان زعماء هذه القبائل يتحكّمون بحياة الناس الذين ينتمون إلى قبائلهم في طرق كانت معادية أساساً لحكومة مركزية. وإلى حد ما، حتى بعد تأسيس المملكة، حافظ هؤلاء القادة على وضعهم لفترة من خلال الزيجات السياسية، والسيطرة على المراعي، وإكتساب الوظائف لأعضائها وأفرادها في الإدارات الرسمية أو في الجيش. ولكن لتعزيز سلطتها حقاً، قررت الحكومة المركزية أنها بحاجة إلى تسوية أوضاع البدو الرحّل لذا أسكنتهم في المدن الكبيرة والقرى الدائمة، وبالتالي كسرت الترابط القبلي التقليدي بينهم.
ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن عائلة آل سعود لم تكن حاكمة منذ فترة طويلة لشبه الجزيرة وكان أعضاؤها في الواقع شيئاً من حديثي النعمة. إن الإعانات السخية الممنوحة إلى المزارعين من قبل الحكومة قد تكون تعويضاً مناسباً للتخلي عن الحياة البدوية السابقة وتوجيه المستفيدين من هذا السخاء إلى الإقتراب والتقرب أكثر إلى قصر الحاكم. إن نمو الصناعة الزراعية يجذب العديد من البدو الرحّل لأنه يعني أنه سيكون بإستطاعتهم الوصول إلى المراعي، وكذلك الحصول على دخل منتظم، كما سيحرّرهم من البنية القبلية الجامدة. في الواقع، في حين أن 25 في المئة من المواطنين السعوديين كانوا من البدو في سبعينات القرن الفائت، بحلول العام 1989، بعد خمسة عشر عاماً على بداية المشروع الزراعي، لم يبقَ هناك سوى 3.8 في المئة فقط من السكان من البدو الرحّل.
إبتداء من العام 1970، أطلقت الحكومة السعودية خطة خمسية لتسوية أوضاع البدو. ولم تمنح الحكومة الدعم للقطاع الزراعي فحسب، بل أنشأت أيضاً سلطات مسؤولة عن تعزيز الإستيطان في المناطق الحضرية. بين عامي 1971 و1974، على سبيل المثال، أصبحت الحكومة متورّطة بشكل متزايد في مسائل الإسكان من طريق صندوق التنمية العقارية، الذي منح قروضاً مريحة للشباب والمحرومين مالياً الذين يريدون شراء منازل. في العام 1975، تم إنشاء وزارة الشؤون البلدية والقروية للمساعدة في تسوية المناطق الريفية. وبحلول العام 1976، كانت هناك موجة تنمية رعتها الحكومة في الضواحي المحيطة بالمدن لتشجيع البدو على زراعة أراضيهم، بما في ذلك بالقرب من جدة، والرياض، والدمام، والطائف، وأبها، وجازان، التي إستقر فيها العديد من العائلات البدوية.
كان هناك سبب أساسي وراء الإصرار على منح إعانات سخية وهو الخوف من أن لا يكون للسكان البدو الذين غادروا نمط حياتهم البدوية دخل ثابت، وبالتالي فإن الدعم هدف إلى تفادي إضطرابات إجتماعية وسط شعب إستقرّ حديثاً. لقد خشيت العائلة المالكة من فقدان شرعيتها إذا لم تتمكن من توفير حلٍّ إجتماعي وإقتصادي لمرافقة التسوية البدوية.

التخطيط للمستقبل

مع ذلك، لم تتخلَّ الرياض تماماً عن القطاع الزراعي في الخارج. في كانون الثاني (يناير) 2009، أعلن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز إنشاء “مبادرة للإستثمار الزراعي السعودي” تهدف إلى خفض الإنتاج الزراعي السعودي والإستثمار في البلدان التي لديها إمكانات زراعية ولكن وسائلها ومصادرها المالية ضئيلة. وأعلنت الحكومة عن حزمة مساعدات بقيمة 800 مليون دولار للشركات التي تستثمر في الزراعة خارج المملكة، متعهّدةً بمزيد من الدعم لشراء الجرارات والمواد الكيميائية، وإنشاء شبكات الري، وغير ذلك في هذه البلدان. وهكذا، منحت الحكومة 95 مليون دولار من المساعدات لشركة حائل للتنمية الزراعية (هادكو)، وهي شركة سعودية تعمل في السودان. وقد زاد السعوديون أيضاً من إستيراد القمح من أوروبا وأميركا الشمالية وروسيا وأوكرانيا، وفي العام 2010، بدأوا في توسيع ميناء جدة، الذي يستقبل معظم هذه السلع الزراعية المستوردة.
لم يكن الجميع في المملكة العربية السعودية سعيدين من برنامج الملك عبد الله. لقد إعتقد البعض أن وقف الإعانات الزراعية من شأنه، في المدى الطويل، أن يكون ضاراً لأولئك الناس الذين يعيشون على هوامش المجتمع. كان هناك أيضاً أولئك الذين إدّعوا أن وقف الدعم يمكن أن يعرّض المملكة إلى تقلبات شديدة في سوق الأغذية العالمية وإلى خلق توازن قوي يمكن أن يسبّب صراعاً مع منتجين زراعيين في بلدان أخرى — بشكل رئيسي ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا– والتي تعتمد على صادرات نفط “أوبك”. في هذا الخصوص، إنضمت الرياض إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2005 وعلى هذا النحو إضطرت إلى وقف دعم الزراعة وإستيراد سلع أرخص من سلع تُنتَج في أي مكان آخر. ولكن المبادئ التوجيهية لمنظمة التجارة العالمية تسمح لدولة تعاني من أزمة غذائية تقييد صادراتها من المنتجات الزراعية، والتي يمكن أن تؤثر سلباً في إمدادات الحبوب السعودية إذا نشأت مثل هذه الأزمة.
لا يزال هناك آخرون يؤكّدون على أن وقف الدعم للمشاريع الزراعية يمكن أن يتسبب في فقدان ثقة الجمهور بالنسبة إلى محاولات الحكومة المستقبلية لتنويع الإقتصاد السعودي. في الواقع، كانت لبرنامج الملك الراحل تداعيات: في أعقاب الإعلان عن أن الدعم سينتهي، أعلنت 42٪ من 9،231 من الشركات الزراعية السعودية القائمة إغلاق أبوابها. من ناحية أخرى، يجمع كثيرون على أن قرار الملك عبد الله قد أكد على أن الحكومة تولي أهمية كبرى للحفاظ على المياه أكثر من رعاية القطاع الزراعي والذي من المرجّح أن يتقلّص بشكل كبير بحلول العام 2016.
بعدما أدركت المشكلة الأساسية لنضوب المياه بشكل كامل وأعلنت القرار بوقف دعم إنتاج القمح المحلي، إتّخذت الحكومة السعودية تدابير ملموسة لضمان الأمن الغذائي لسكانها الذين يتزايد عددهم وتطوير سبل أخرى لمساعدة المزارعين وعمال الأراضي. على سبيل المثال، المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق السعودية، التي أنشئت في العام 1972، هي وكالة حكومية مسؤولة عن إدارة برنامج القمح في المملكة. في العام 2010، وسعت هذه الوكالة سعة تخزين القمح في البلاد وتعمل حالياً في عملية توسيع مخزون القمح من أجل زيادة الإحتياطي الإستراتيجي لمملكة وتحريكه إلى مستوى أقرب إلى إستهلاك البلاد السنوي من القمح بحلول نهاية العام 2015. وقد أعلنت أيضاً أن الزيادة في الإحتياطات ستكون بين 6 و12 شهراً من الإستهلاك بحلول العام 2016.
على مدى السنوات القليلة الماضية، إنطلقت مشاريع عدة من صوامع القمح الجديدة. بحلول كانون الاول (ديسمبر) 2015، من المقرر أن يكون في إستطاعة مرافق التخزين هذه زيادة سعة تخزين القمح إلى حوالي 3.7 ملايين طن بالإضافة إلى صوامع المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق الحالية التي لديها القدرة على التخزين مجتمعة 2.8 طن. وقد وقعت المؤسسة أيضاً عقوداً لبناء خمسة مشاريع تخزين إضافية في مكة، وجازان، الإحساء، والقصيم، بسعة تخزينية مجتمعة تصل إلى 790،000 طن متري، والتي كان ينبغي أن تكون جاهزة للعمل بحلول نهاية 2014. إن صوامع التخزين قد لا تكون رخيصة البناء والإدارة، لكنها لا تزال أقل كلفة بكثير من تزايد الحبوب في مثل هذه الظروف المناخية القاسية. إن تكاليف التخزين السنوية للقمح في المملكة العربية السعودية هي حوالي 70 مليون دولار، وهو رقم صغير بالمقارنة مع تكلفة دعم الإنتاج، والتي تقدر بنحو 5 مليارات دولار سنوياً في فترة 1984-2001.
مع ذلك، فقد أشار النقاد إلى حقيقة أن تصميم معظم الصوامع الحالية في المملكة العربية السعودية قد تمّ في الأصل لإستقبال المحاصيل المحلية، وبالتالي فهي تقع في داخل البلاد؛ فمن أصل 2.5 طن متري التي تمثل قدرة الصوامع الحالية، يقع 90 في المئة منها في تلك المناطق. إن موقع الصومعة له صلة مباشرة بكفاءة التكلفة إذ أن إرتفاع تكاليف النقل سيولّد حاجة إلى تعويضه بطريقة أو بأخرى، وربما تحوّل إلى المستهلك. مع القرار بوقف إنتاج الحبوب المحلي في العام 2016، فإن بناء أكثر الصوامع الجديدة سيكون أقرب إلى الموانئ من أجل تخزين الواردات. ولكن حتى مع وجود خطط لتوسيع الصوامع بالقرب من جدة، وجازان، فإن 80 في المئة من طاقة الصوامع سوف تبقى في الوقت الحاضر في المناطق الداخلية من المملكة. ويدّعي آخرون بأن الإحتياطي لمدة 12 شهراً هو أكثر مما هو ضروري حتى مع خطر تعطّل الإمدادات. وهناك أيضاً المهمة الصعبة المتمثلة في الدورية وتبديل مثل هذا الحجم الكبير من مخزونات الحبوب من وإلى مواقع مختلفة، كما أن عدم القدرة على القيام بذلك يمكن أن يؤدي إلى تلف المخزون.
في الوقت الذي تبحث عن ضمان الأمن الغذائي للمملكة، فإن الحكومة تسعى أيضاً إلى الحفاظ على النسيج الإجتماعي المستقر الذي قد يتمزّق في غياب دعم المياه والتحوّل الكبير في أهداف الإنتاج الغذائي المحلي. وقد روّجت لتقنيات جديدة للمياه مثل أنظمة الري بالتنقيط وتعزيز كفاءة إستخدام المياه. ويقوم المهندسون الزراعيون السعوديون بتشجيع المزارعين على إستخدام أساليب زراعية متقدمة تشمل إستدامة أكثر للمحاصيل. وقد تم إدخال أنواع مختلفة من النباتات التي تتكييف مع مناخ الصحراء على أمل الحصول على إمكانات وفرص تجارية مستقبلية من ثمارها. ويمكن لهذه المحاصيل أن تقدّم طرقاً جديدة للمزارعين في المناطق القاحلة لكسب لقمة العيش.
إن البرامج التعليمية والإرشاد هما جزء مهم من المعادلة السعودية. التأكيد على أهمية هذه المبادرات سوف يرفع مستوى الوعي بأهمية المحافظة على المياه بين المزارعين. إن تزويد المزارعين بمعلومات البحوث الحاسمة سيساعد على التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي الداخلي مثل إنخفاض خصوبة التربة والحاجة إلى حماية البيئة. وهكذا، فقد أنشأت جامعة الملك سعود في الرياض مركزاً للإرشاد الزراعي في أيار (مايو) 1990. وهذا هو البرنامج الأكاديمي الوحيد من نوعه في منطقة الخليج بأسرها، الذي يمنح شهادة البكالوريوس في الإرشاد الزراعي والتنمية الريفية.
من حيث الأبعاد الإجتماعية والتحديات التي تواجهها المملكة، تشير التقديرات الأخيرة إلى أن حوالي 15 في المئة من الشعب السعودي ما زالوا يعيشون في المناطق الريفية. وتشعر الرياض بأن الحفاظ على نسبة متوازنة بين الريف وسكان المدن هو أمر مهم كثيراً بالنسبة إليها. إذا كان من الممكن إعادة تأسيس مثل هذا التوازن، فإنه سيخفّف الضغوط على المدن الكبيرة ويسهّل إيصال الخدمات الأساسية لجميع السكان.
بالنسبة إلى كثيرين من السعوديين، تلخّص المناطق الريفية وثمثّل شيئاً من العصر الذهبي الماضي، والحفاظ عليها وعلى سكانها يُعتبر شكلاً من أشكال حماية التراث الوطني. ويُنظر إلى هجرة المزارعين إلى المدن بإعتبارها خسارة، وبرامج التعليم والإرشاد الزراعي قد تحدّ من تلك الخسارة. إن الصناعات الريفية مثل الأدوية العشبية، وتربية النحل، وتربية الأغنام والماعز يمكن أن تستمر بمساعدة التكنولوجيا الحديثة. هذه المبادرات قد تساعد في جعل حياة الذين يعيشون في المناطق الريفية مريحة أكثر ومجدية إقتصادياً حيث قد تجذب أكثر الناس للعودة إلى مجتمعات أجدادهم الزراعية. بالقيام بذلك، سوف تكون الدولة السعودية قد حرصت ليس فقط على ضمان الإمدادات الغذائية ولكن على مجتمع آمن ومتوازن كذلك. إن هذه القرارات، جنباً إلى جنب مع الإضطرابات العربية التي تتتالى في جميع أنحاء المنطقة منذ أواخر العام 2010، أعطت الرياض سبباً للنظر في الأمن الغذائي، وأكثر تحديداً، في التحدي المتمثل في تأمين القمح، المصدر الرئيسي للرزق لدى شعبها. وقد أبرزت الإنتفاضات الأخيرة المشاكل بالنسبة إلى السعوديين التي يمكن أن تنشأ من حماية هذا المصدر الغذائي الرئيسي إذا لم تتخذ وتضع تدابير صحيحة لحلول عاجلة ومبتكرة.

والنتيجة؟

إن محاولة السعودية لتطوير الصناعة الزراعية الداخلية الخاصة بها لضمان أمنها الغذائي إعتبرت من قبل العديد من الخبراء بأن مصيرها الفشل منذ البداية. في الواقع، إن دعم القطاع الزراعي كان له أثر مدمّر في إمدادات المياه في البلاد، فضلاً عن التأثير السلبي في الإقتصاد ككل.
مع ذلك، وعلى الرغم من الفشل في ضمان الأمن الغذائي من مصادر محلية، فإن المشروع كانت له آثار إيجابية من خلال توفير فرص العمل لمئات الآلاف من البدو الذين تخلّوا عن نمط حياتهم التقليدي المتنقل بسبب التحضر السريع في البلاد. في المدى الطويل، إضطرت الحكومة السعودية إلى البحث عن حلول أخرى للتحدي الذي يولده الأمن الغذائي، لا سيما شراء الأراضي في الخارج وإيجاد مخزون إحتياطي من المواد الغذائية الذي يمكن أن يقلل من التحدي في أي أزمة غذائية في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى