مسرح الأخوين الرحباني صنع مجد الفن في لبنان والعالم العربي

على الرغم من أن المسرح في لبنان بدأ خطواته منذ أمد بعيد، منذ 1887، فلم يحظَ بالنجاح المطلوب إلّا في وجهه الشعبي الضاحك مع شوشو (حسن علاء الدين) ولفترة قصيرة. لكن الأخوين عاصي ومنصور رحباني صنعا مسرحاً خاصاً ممزوجاً بالتاريخ ومعطراً بالفولكلور الشعبي والتراث والحداثة عمّت أصداؤه لبنان والعالم العربي، ومدرسة خرّجت فنانين طليعيين ما زالوا يحملون الشعلة.

"جبال الصوان" للأخوين الرحباني: تفوح بعبق التاريخ والتراث
“جبال الصوان” للأخوين الرحباني: تفوح بعبق التاريخ والتراث

بيروت – جوزف قرداحي

تنقسم الآراء حول المسرح الرحباني، لا سيما في أوساط الرعيل الأول المؤسس للحركة المسرحية الجادة مثل المخرجة لطيفة مُلتقى التي لا تعترف بهذا المسرح القائم على الإستعراض والذي يدخل بحسب رأيها في تصنيف “المغناة الشعرية” البعيد كل البعد من المسرح الجاد الذي يعتمد كلياً على النص وحركة الجسد ونبرة الصوت والحبكة المتراصّة التي لا تشوِّش عليها أغنية من هنا وحوار غنائي من هناك قد لا يمتّان إلى ترابط القصة المسرحية بصلة.
مُلتقى ومعها نخبة من المخرجين الطليعيين أمثال منير ابو دبس وريمون جبارة وروجيه عساف وجلال خوري وأنطوان مُلتقى ورضا كبريت وغيرهم، وعلى الرغم من كل محاولاتهم وتجاربهم وإختباراتهم لم يستطيعوا أن يحققوا هوية للمسرح اللبناني الجاد، وبالتالي لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الجمهور العريض، أو حتى أن يشكّلوا جمهوراً لهذا المسرح الضائع ما بين الأعمال المُقتبسة عن المسرحيات العالمية على غرار مارون النقاش، أوالملبننة ولكن بشكل هجين ولغة معقّدة تفتقر إلى البساطة التي تميّزت بها اللغة الرحبانية التي وصلت إلى كل بيت في كل قرية ومدينة، وإخترقت حواجز اللغة لتصل إلى فهم كل عربي تكلم لغة الضاد سواء في المشرق أو في المغرب.
ولكن قبل الحديث عن مسرح الأخوين رحباني الذي انطلق فعلياً في العام 1960، علينا أن نلقي جولة سريعة عن أحوال المسرح اللبناني بشكل عام وذلك منذ تأسيس أول صالة للمسرح في العام 1887 “زهرة سوريا” في بيروت المتحوّل في ما بعد إلى “مسرح فاروق” ثم “مسرح التحرير”، والذي يبدو أن مؤسسة “سوليدير” لم تلحظه في مخططها الإعماري، لإعادة ترميم وسط بيروت من آثار الحرب الأهلية، فأبقته مهملاً، ومرتعاً للقوارض والكلاب الشاردة، بعدما كان شاهداً على مرحلة كبيرة من تاريخ بيروت، منذ الحكم العثماني مروراً بالإنتداب الفرنسي فالإستقلال فالإنقلابات والخضات السياسية المترافقة مع النهضة الثقافية التي شهدت ذروتها في ستينات القرن الفائت، لينتهي مصيره في العام 1971 إلى ألسنة النار، إثر تعرضه لحريق كبير أتى على محتوياته. ويشير زياد سامي عيتاني في كتاب “مسارح بيروت وتواريخها”، إلى أن “مسرح فاروق” تميّز عن باقي مسارح العاصمة بإنفراده في إنتقاد السلطة السياسية والحكومات المتعاقبة والشخصيات السياسية البارزة في البلاد. وهذا ما جعل المؤرخين يصفونه بالمسرح السياسي الأول في لبنان”.
شهدت بيروت نهضة عمرانية ثقافية، منذ بدايات القرن العشرين، تميزت بتشييد عشرات صالات المسرح والسينما كان مركزها في الوسط التجاري أو ما كان يعرف بساحة البرج، مثل: مسرح “الكريستال”، ومسرح “الرويال”، ومسرح “الأمبير”، ومسرح “التياترو الكبير”، ومسرح “شهرزاد” الذي حوّله الفنان الكوميدي الراحل شوشو في العام 1965 إلى مسرح يومي يحمل إسم “المسرح الوطني” وذلك بالتعاون مع المخرج نزار ميقاتي والكاتب وجيه رضوان. فشكّلا مع الفنان حسن علاء الدين (شوشو) فريق عمل استطاع أن يتجاوز جميع الصعاب لتحويل العمل المسرحي إلى نشاط يومي وصلت ذروته إلى إنتاج حوالي أربع وعشرين مسرحية تركت أثراً واضحاً في عالم الكوميديا، غيّرت من خلاله مفهوم الفن الكوميدي، مكرّسة شوشو كأحد رموز المسرح الكبار بشخصيته المركبة التي لم يستطع أحدٌ ان يقلدها أو يدانيها من بعده على الرغم من عشرات المحاولات. فكان موت شوشو المفاجىء في العام 1975 صدمة قاسية لمحبيه، وخسارة فادحة لمستثمري أعمال شوشو في “المسرح الوطني”، الذي سرعان ما لفظ أنفاسه بالتزامن مع موت بيروت “منارة الشرق”، التي كان قدرها أن تصاب بلعنة الحرب الأهلية.
في موازاة مسرح شوشو الضاحك وفرقته التي خرج منها نجوم كبار مثل فريال كريم وابراهيم مرعشلي ومارسيل مارينا وآمال عفيش وغيرهم، كانت ثمة فرقة كوميدية أخرى هي فرقة “أبو سليم الطبل” تنافست مع شوشو على صناعة الضحكة وإن باسلوب آخر نابع من بيئة لبنانية صرفة، فاستقطبت تلك الفرقة الآتية من بيئة ريفية شمالية، الصغار والفئات الشعبية. الأمر الذي جعل الأوساط الثقافية تنصرف عن أبو سليم، ولم تبايعه كأحد رموز الكوميديا مثل شوشو، لأسباب منها: إتجاه هذا الأخير الى الاعمال المُقتبسة، وأيضاً إدخال الكثير من القضايا السياسية الى مسرحه، كان من أنجحها “آخ يا بلدنا”. فأمسك شوشو المسرحي بإمتياز بأقلام نقاد الصفحات الثقافية، التي كتبت عنه طويلاً، فيما غاب “ابو سليم الطبل” عن الصفحات الثقافية، ليحتل البيوت عبر شاشة التلفزيون والمسرح المقتصر على الأطفال.
من رواد المسرح الشعبي اللبناني الذين أسسوا مداميك اللغة المباشرة والسهلة كان الفنان والكاتب الراحل محمد شامل، صاحب التجربة الغنية والمتنوعة، وإن إفتقدت الى الغزارة، غير أنها أعطت الأمل في تأسيس مسرح شعبي إبن بيئته، ينبع من المجتمع، بشخصيات إستوحيت من الشارع اللبناني بتناقضاته وتنوعه: “عزيز السلمنكي”، بلبل أفندي”، “الست زمرّد”، الست ورده”، “الدروندي”، “خردق”، “كوكو” و”ابو الزوز”. الى جانب العديد من الشخصيات الجانبية، المتداخلة في محور أعماله التي حصدت نجاحاً شعبياً كبيراً، متميزاً بمواضيعها الإجتماعية، التي تدور في كل بيت لبناني. وغني عن القول أن محمد شامل كان أول من ساهم في إكتشاف شخصية شوشو وتقديمه إلى جمهور المسرح.
هذه التجارب المسرحية الشعبية المباشرة القائمة على الموقف الإجتماعي الضاحك، وإن إستثنينا منها “حالة” زياد الرحباني الخاصة، التي ادخلت الى قاموس المسرح اللبناني، مفردات جديدة، سرعان ما تلقفها الجيل الجديد من المسرحيين، وأسسوا عليها معظم أعمالهم، ومواقفهم المركّبة. فاذا إستثنينا حالة زياد المسرحية الشعبية، نجد أن تجارب الرواد الأوائل الكبار، على غناها وتنوّعها، لم تستطع ان تخلق جيلاً جديداً من المسرحيين ينتمي الى بيئته. فمعظم ما يقدمه ليس أكثر من إسكتشات كاريكاتورية ساخرة، تعتمد على النكتة السوقية التي تخاطب الغرائز الجنسية أكثر مما تخاطب العقل.
إلى جانب المسرح الكوميدي الشعبي الذي كان في أوج مجده في ستينات القرن الفائت، عرف الجمهور اللبناني حركة ما يُعرف بمسرح “الساعة العاشرة” أو مسرح القوّالين، التي كان من روادها: إيفيت سرسق، وغاستون شيخاني، ووسيم طبارة، وسامي خياط، والياس الياس، ودودول (عبدلله نبوت)، ومحمد شبارو، وكريم أبو شقرا، ونبيه أبو الحسن قبل أن يتّخذ منحى آخر من الفن المسرحي مع أنطوان غندور. فكان مسرح الساعة العاشرة نسخة ملبننة لمسرح “الشانسونييه” الفرنسي الساخر، والذي كان مؤشراً ديموقراطياً لرحابة صدر السياسيين اللبنانيين، الذين كانوا يتقبّلون السخرية منهم بضحكة عريضة في ظل رقابة متسامحة نسبيا،ً تتيح سقفاً عالياً من “رفع الصوت” على سياسة الدولة وحكومتها، في أسلوب لا يخلو من النقد اللاذع وإستعمال العبارات المتهكّمة، التي قد تكون وسيلة تنفيس خفيفة الكلفة أمام المواطن اللبناني المُثقل بشتى أنواع الهموم الحياتية اليومية.
وهو فن كانت إستوردته تلك النخبة “الفرنكوفونية” من فرنسا مع بداية قيام نهضة ثقافية حديثة في الشارع البيروتي في ستينات القرن الماضي، وإقتصر تحديداً على جمهور أرستوقراطي غالبيته تنتمي الى الطبقة الحاكمة، التي كانت تُشكِّل مادة فرقة القوّالين بإمتياز، قبل ان تنتقل مقاليده الى الجيل الثاني من القوّالين أمثال:أندره جدع وبيار شَمَاصيان وماريو باسيل وجو قديح وشربل خليل وغيرهم.
الى ما تقدم، عرفت فترة ستينات حتى منتصف سبعينات القرن الفائت حركة مسرحية شعبية من نوع آخر، هي الحركة التي أسسها الكاتب أنطوان غندور مع المخرج جلال خوري والممثل الراحل شفيق أبو الحسن، وإن كانت أكثر إقتراباً من التلفزيون، عبر نبشه شخصيات تراثية عاشت في هامش الأدب العربي والأدب الشعبي اللبناني،”جحا” و”أخوت شانيه” و”بربر آغا”، وغيرها. وقد تميّزت نصوص انطوان غندور بتكيّفها مع اللغتين المسرحية والتلفزيونية، وهي على بساطتها إستطاعت أن تؤسس لحالة خاصة تصل إلى كافة المستويات الإجتماعية. وقد يكون أنطوان غندور أكثر الكتَّاب بحثاً وتدقيقاً ونبشاً وإستقصاءً وتعَباً على أعماله الأكثر إقتراباً من الناس، وإلتصاقاً بهمومهم، وإنسجاماً مع لغتهم (“شباب 73″ و”بربر آغا”).
في خضم كل تلك الأجواء المسرحية المتنوّعة وتجاربها الممتدة إلى نشوء مسرح مارون النقاش في العام 1848، شقّ المسرح الرحباني طريقه في إتجاه مستقل، مستفيداً من تجارب هؤلاء الروّاد، فإستعان ببعضهم، وأدخل تجارب بعضهم الآخر، جامعاً من “مدارسهم” باقة بألوان متعددة ونكهات مختلفة تحت جناحيه. فأخذ من المسرح الطليعي أنطوان كرباج وروجيه عساف ومادونا غازي وأندره جدعون، وبنى من تجاربهم الجادة مواقف ملحمية في أعمال تاريخية مثل: “فخر الدين” و”جبال الصوان” و”بترا” وغيرها. وإستعان من المسرح الضاحك بأبو سليم الطبل وفهمان وأسعد لحواراته الخفيفة، وإقتبس من المسرح الساخر إنتقاداته ومواقفه اللاذعة مع فيلمون وهبي، كما عرف كيف يجمع ما بين التراث والفولكلور فجمع نخبة من الفنانين الراقصين وعلى رأسهم عبد الحليم كركلا الذي إنطلق من رحم المسرح الرحباني إلى العالمية.
الكثير من الأعمال المسرحية التي وضعها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني ، حملت رسائل في الحب في كافة أشكاله؛ حب الوطن، حب الأرض، حب الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كما حمل مسرحهما قضايا الإنسان في بعدها النضالي، ترافقت مع ثورات التحرر التي غزت الشارع البيروتي في ستينات ومنتصف سبعينات القرن الفائت. فعرف هذان الأخوان العبقريان أن يوظفا صوت فيروز لنشر كل افكارهما وهواجسهما الى العالم. ولعل صوت فيروز بخفره وحيائه وإنسيابه في المسامات، هو صوت المرأة الثائرة والورعة في آن معاً، المتأججة شوقاً وعشقاً ورغبة وتمرّداً، تمرداً خفياً، ولكنه واضح الإيحاء. صوتها (يقول أنسي الحاج): “لفرط صفائه تظنه آتياً إليك كالفكرة. تظنه مجرداً، روحاً تاماً بلا شكل. من هنا قولهم إنه ملائكي وهم يرمزون إلى هذا الانفلات التصاعدي النقي الذي لا يأسره شكل. (ويخلص الحاج إلى ما معناه:) “فيروز في الحقيقة تغني بكل حواسها. (لا بل) تغني بكل جسدها… وهي تؤدي أداءً داخلياً لم يعرف له الغناء اللبناني ولا العربي مثيلاً. ولغنائها، من أوطى درجات صوتها حتى أعلاها، ومن أبسطها حتى أشدها تعقيداً، فعل تحريك وإيحاء وتحريض يراوح بين فعل الوحي وفعل الحب وفعل الرصاص”.
على الرغم من كل هذا النجاح الشعبي، واجه المسرح الرحباني منذ نشأته عاصفة من الإنتقادات شنّها مسؤولو الصفحات الثقافية التي كانت تخضع لسيطرة المسرحيين الطليعيين الذين شكّلوا جبهة مواجهة مع كل أنماط المسرح المختلف عنهم، وبشكل خاص مع هذا المسرح الذي كانت تمنحه فيروز تلك الهالة المقدّسة بصوتها الفريد. ما يجعل هذه النخب المثقّفة تقع في حالة من الإنفصام والإنبهار والخوف. فكانت تهاجم الأعمال الرحبانية من دون أن تهاجم بطلة هذه الأعمال، وتصنف مسرحهم بالمنوّعات الغنائية التي يتغلب فيها طابع الغناء والشعر على طابع الإبداع المسرحي. فكان الأخوان عاصي ومنصور يتجنّبان الرد على أي من هذه الإنتقادات، ويرددان في جلساتهما الدائمة مع الصحافيين “إن الفن ما لم يحمل رائحة التراب ويخرج من بيئة الفلاحين ويتكلم لغة البسطاء، لا يصل إلى الناس”… “نحن نزلنا إلى الناس وأصعدناهم إلى مستوى فننا، ولم نصعد إلى الناس وننزل إلى مستوى أذواقهم الفنية”… “البطولة، أن ترتقي بالناس إلى مستواك الفني لا أن تهبط إلى ما يريده الجمهور”!
من هذا المفهوم إنطلقت أعمال الأخوين رحباني في العام 1960 مع مسرحية “موسم العزّ” في مهرجانات بعلبك، بطولة صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين، والتي طرحت قصة في جو قروي، ينشأ بين فتاة وشاب ينتميان الى قريتين متجاورتين، ولكن عداوة قديمة فرّقت بين الأهالي وأقامت حواجز الكراهية والبغض بينهما. وهي قصة تتكرر في معظم مسرحيات الأخوين عاصي، حيث ينقسم الأهالي إلى معسكرين متخاصمين، بسبب الأطماع والمؤامرات التي تلعب بمصائر أهل القرية، والقاسم المشترك في معظم مسرحياتهما هو الغريب الذي يأتي من المجهول ليرمي الفتنة ويحرّض الأهالي على القتال.
الحبكة الرحبانية المبسّطة لتصوير الصراع السياسي بين اللبنانيين، ولكن بقالب تجميلي قروي أقرب إلى حكايات ليلى والذئب، لم تسلم هي الأخرى من إنتقادات “أهل البيت” وتحديداً الإبن البكر للعائلة، زياد الرحباني. وعلى ما يقول المثل، فما كاد ينمو ريش هذا الإبن المتمرّد ويكبر جناحاه ليتعلم الطيران، حتى خرج من سرب العائلة وراح يبحث عن هوية مستقلّة عن والديه عاصي وفيروز وعمه منصور. فإتخذ لنفسه لوناً مستقلاً في الجملة الموسيقية المتأثّرة بثلاث مدارس متباعدة في الشكل ولكن ملتحمة في الجوهر، هي مدرسة سيد درويش ومدرسة الجاز ومدرسة الأخوين عاصي ومنصور الرحباني. وفي المسرح إختار خطاً كوميدياً شعبياً ساخراً لا يشبه إلا نفسه، فإبتكر لغته الخاصة ومشهديته المسرحية التي أدهشت حتى الطليعيين، الذين رأوا في زياد ظاهرة سابقة لعصرها.
بلغ زياد الرحباني ذروة الفن المسرحي في بداياته “سهرية” و”نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو” و”فيلم أميركي طويل”، ليصل إلى منتصف طريق بداية التقهقر في مسرحية “شي فاشل” التي واجهت موجة من الإنتقادات، والتي أراد من خلالها أن يعلن عصيانه بشكل مباشر على النمط الرحباني الطوباوي في مقاربة الفن. فإنتقد والده وعمه ووالدته الرمز، تلك “الصبية الطاهرة التي لا تمارس الجنس مع المختار”، غامزاً من قناة عمه ووالده الحريصين على اللغة الغنائية ولو إنكسرت بالسجع الشعري فيضطران أحياناً إلى مزج “البواريد” ب”العناقيد” ب”المواعيد” ليستقيم سلم الغناء.
هذا الزياد الثائر على قوانين الفن والمسرح والغناء والشعر، لم يكتفِ بالإنقلاب على مدرسة الأخوين رحباني التي تأسّس على تراثها وتخرّج منها، بل حاول العبث بصوت أمه وتسخيره لتجاربه وإختباراته في الشعر والموسيقى، ولعلَّ الأعمال الأخيرة منذ “كيفك إنت” وما قبلها، إلى “إيه في أمل”، تعرّض زياد الرحباني ومعه والدته فيروز لوابل من النقد والمقارنة. ففيروز الأمس بالنسبة إلى شريحة كبيرة من عشاق صوتها، رمز ذو قدسية خاصة، ليس من السهولة المساس به، وإختراق هالته الكبيرة، بفضل ذلك التراث الغني مع الأخوين العبقريين.
غير أن زياد الإنقلابي على كل الرموز الكبيرة، بدءاً من فخر الدين البطل التاريخي الذي نزع ملابسه التقليدية (الشروال والعباءة والعمامة الأميرية المعنية)، وألبسه بنطلون جينز من إحدى أشهر الماركات (مسرحية “شي فاشل”)، ليس عصياً عليه أن ينزع فستان والدته “الماكسي” الوقور، ويلبسها التنورة القصيرة، مستعرضاً مفاتن صوتها بطريقة عصرية وبأسلوبه الخاص!
ومنذ أغنية “عا هدير البوسطة” ذي الطقس الفولكلوري الشعبي، المفصَّلة أصلاً على قياس صوت الراحل جوزف صقر (مسرحية “بالنسبة لبكرا شو”) مطعماً إياها إيقاعاً وتوزيعاً يتكّئان على سلّم الجاز، لتنسجم مع صوت فيروز، واجه زياد عاصفة من النقد، متهمة إياه بتخريب الموسيقى الرحبانية العريقة والتطاول على صوت فيروز وإنزاله إلى مستوى الأغاني الخفيفة.
ومع إصدار كل عمل جديد، كان زياد يواجَه على أثره بموجة من الرفض، وتُواجه بالتالي فيروز بالمقارنة بين الأمس والحاضر، حيث تنجح أكثر من أغنية، وتلاقي الأصداء الطيبة، والإقبال لدى الجيل الجديد، كما لدى الجيل المتحفّظ، المترعرع على تراث “جبال الصوان” و”ناطورة المفاتيح” و”الشخص” و”لولو” و”ميس الريم” وغيرها… فيقبل على مضض أغنيات من طراز “عودك رنان” و”كيفك إنت” و”مش كاين هيك تكون” الذي يغرق فيروز في أحوال الصابون والزيتون، وأيضاً شريط “ولا كيف” ذات التوزيع الخارج من سلم “السامبا” و”الرومبا”، المتفرعين من سلالة “الجاز” التي التزمها زياد منذ منتصف ثمانينات القرن الفائت وأجرى عليه أبحاثاً ومقاربات وتجارب توثيقية (شريط “هدوء نسبي” التلفزيوني)، وأخيراً شريط “إيه في أمل”، الذي على ما يبدو أراد ان يجمع فيه ما بين النوستالجيا الرحبانية وبين تجاربه المستمرة في البحث والتغريد خارج السرب الرحباني الكلاسيكي، شعراً وجملة موسيقية.
المفارقة أن زياد الذي وضع في بداياته أروع المؤلفات الموسيقية، وأكثرها إقتراباً من الميلوديا العالمية (“قديش كان في ناس” من قصيدة حب في بعلبك 1973)، فضلاً عن نوتات غنائية لا تقل شفافية وعذوبة عنها، مثل: “نطّرونا كتير” ذات الشقاوة الخاصة (من مسرحية “لولو”) و”سألوني الناس” (مسرحية “المحطة”) التي ابكت فيروز أكثر من مرة في أثناء إنشادها على المسرح، وأبكت معها الجمهور المفجوع بإنفجار دماغ عاصي الرحباني، والذي لم تعد تتسع له “المطارح والمسافات الأرضية”. المفارقة أن زياد صاحب هذا التراث العريق والفريد في تأليف الجملة الموسيقية، ذات الحضور العالمي، أدار ظهره لكل تاريخه وماضيه الغني، من أجل التفرّغ لنمط موسيقي سبقه إليه رواد وعمالقة في “الجاز” لهم بصماتهم الواضحة، في وقت نجد فيه أن ساحة الأغنية اللبنانية بمفهومها العريق، خالية ومقفرة، إلا من محاولات يتيمة.
لكن هل هذا التنويه بماضي زياد، يفسّر فشل حاضره مع “الجاز”؟! حاشا وكلا… فزياد بالنسبة إلى هواة هذا النوع من الموسيقى، أكثر من مبدع، وخصوصاً أنه استطاع أن يتفرّد بإعطاء روحه الرحبانية المشبعة، هذا الجو الرحب في موسيقى “الجاز”. ويعبّر بالتالي من خلال تقاسيم واسعة الغنى، التي يتميز بها “الجاز”، عن حالات فائقة الإحساس الموسيقي، إلى حدود “التطريب” و”السلطنة” وهو ما لامسناه في اكثر من عمل، حيث ينفلت البيانو بين أصابعه في تقاسيم إحتفالية تصل بالإحساس إلى مستوى النشوة.
في هذه الاجواء وهذا المناخ، لعب زياد لعبته، مستعيناً بصوت فيروز، القادر على الوصول، والتكّيف، وخصوصاً أن تجربته السابقة مع صوت سلمى مُصْفي ذي الأداء الخاص (شريط “مونودوز”)، لم تصل بموسيقاه إلى كل المستويات والأذواق، على الرغم من أهمية التوزيع والألحان، إلى درجة أن أكثر من رأي أجمع على أن هذا المستوى من “المونودوز” إفتقد إلى مستوى من “دوز” صوت فيروز… هذا الصوت الذي مهما تقدم به الزمن، إزداد رسوخاً في ذاكرة الناس، وحضوراً لا يتزعزع في وجدانهم. حيث أجمع الباحثون والنقاد على أن صوت فيروز مع زياد الرحباني، هو أكثر إنفلاتاً نحو الغواية، وحضوراً أنثوياً متحرراً من العقد الجنسية المكبوتة.
مع زياد الرحباني، نرى فيروز إمرأة من لحم ودم، تحب رجلاً، تعاشره معاشرة المرأة لرجل، إمرأة ذات إحتياجات عاطفية طبيعية: “عندي ثقة فيك/ عندي أمل فيك/ عندي ولع فيك/ عندي حلم فيك/ شو بدك بعد أكتر فيك/ بدك موت فيك/ والله رح موت/ شو بدك مني إذا متت فيك/”. مع زياد نلمس إمرأة تغضب من رجلها، تتمرّد عليه: “بتسأل علي إسأل/ ما بتسأل ما تسأل/ مش فارقة معاي/ بتمرق علي إمرق/ ما بتمرق إيه ما تمرق/ مش فارقة معاي/”. معه هذا الزياد، نعثر على إمرأة من لحم ودم ومشاعر، تشتاق إلى حبها القديم، تتودد له معلنة عن رغبات ما زالت متأججة على رغم الفراق، والسفر والأولاد. إمرأة متحررة من كل القيود الإجتماعية: “قال عم يقولوا صار عندك ولاد/ وشو بدي بالاولاد/ الله يخللي الاولاد/ بيخطر عبالي إرجع أنا وياك/ إنت حلالي برجع انا وياك/.
تفلّت صوت فيروز مع زياد الفتى الصعب المراس، من طهرانية رسخت في أذهان الناس، وإنطلق إلى عالم الواقع، حيث المرأة تقول كلاماً في العشق والحب، يشبه الكلام الذي يسمعه الجار من جارته، وإبن الحي من رفيقته، والزوج من زوجها، والعشيق من عشيقته. وكأنه إعلان إنقلاب على رمزية الصبية النقية في المسرح الرحباني، التي أشار إليها زياد متهكّماً في “شي فاشل”: “الصبية المندورة لبلدها” و”التي لا تمارس مشاهد الجنس مع المختار”.
في خط موازٍ، حافظ أبناء منصور الرحباني مروان وغدي وأسامة على تراث الأخوين عاصي ومنصور المسرحي والموسيقي وإن بسقف أعلى من الحرية، لمسناه جيداً في أعمال الإبن الأصغر أسامة والذي يُعتبر لولب الحركة الفنية في العائلة والأكثر حضوراً في وسائل الإعلام . وقد إستطاع هذا الثلاثي أن يعيدنا إلى الزمن الرحباني الجميل في أكثر من عمل مسرحي، مثل “عأرض الغجر” التي أعادت إلى أذهان عشاق المسرح الرحباني، زمن مسرحيات من مستوى “ميس الريم” العام 1975 وقبلها “لولو” وما قبلها الكثير، مثل: “ناس من ورق” و”يعيش يعيش” و”الشخص” و”صح النوم”، وذلك من خلال حبكة مسرحية حقيقية عرف غدي الرحباني كيف يتقنها كتابة، ومروان إخراجاً، وأسامة مشاركة في الألحان والتوزيع الموسيقي. فيعرف غدي منصور الرحباني، إبن شقيق عاصي الرحباني، كيف يبهر عشاق هذا المسرح، بسرده البسيط، السهل، العميق، الجذاب، لقصة مشوّقة وكأنها خارجة من كتاب “ألف ليلة وليلة” لتلامس الواقع، بإسقاطات ذكية لمّاحة، إبتعدت عن الشعارات المباشرة، والكليشيهات الجاهزة.
يعيدك هذا الرحباني المتواضع، في سرده المسرحي ذي التقطيع المشهدي النابض، إلى زمن مسرح الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، في معالجتهما للنص المُنزل تنزيلاً مع اللحن، والمحفور دراماتيكياً للمسرح، إلى حد الإستغناء عن بهلوانيات الإخراج، وعقد المخرجين الطليعيين، الذين إبتكروا “مسرح التحنيط” عوضاً عن تطويع ثقافة المسرح لفهم الجمهور.
الشخصيات التي إبتكرها غدي الرحباني، في “عأرض الغجر” وإن بدت مركبة وتحاكي الخيال، إلا أنها تحمل في سلالتها كل الجينات اللبنانية المتوارثة منذ الفينيقيين، أو أبعد قليلاً… وقراءة سريعة لإسم بطل الرواية: “سلفادور قزحيا حسين” (غسان صليبا)، نكتشف كم أن شخصية هذا المغترب تتقمص الفرد اللبناني في إنتماءاته المتعدّدة والمتلونة. وهو اللامنتمي إلا لمصالحه، واللاملتزم إلا بما يتكيّف مع نزواته وأهوائه الشخصية، وقد عاد إلى الوطن ليس حباً بالوطن، بل طمعاً بمزيد من الإستثمارات والأرباح، ولا سيما بعدما إكتشف أنه وريث الصدفة لأرض تقطنها قبائل “الغجر”.
من هنا أيضاً، نكتشف أن مسرح الأخوين رحباني الذي صنع مجد الفن في لبنان والعالم العربي، استطاع أن ينتج إلى جانب الأعمال الخالدة، عائلة فنية راقية اختلفت على إرثها المادي ولكنها برعت في الحفاظ على أرثها الفني الباقي مدى الأجيال!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى