هل يجب على بوتين أن يدع الروبل يهبط ليجد الأرضية الملائمة؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أحدث زعيم من سلسلة طويلة من القادة الوطنيين الذين لديهم تعلق وجداني مشؤوم لمساندة عملات بلدانهم.

ونستون تشرتشل: باع الذهب لينقذ الجنيه الإسترليني
ونستون تشرتشل: باع الذهب لينقذ الجنيه الإسترليني

موسكو – حازم أيّوب

يمكن للمرء تقريباً أن يعذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمحاولته الجادة للدفاع عن عملة بلاده. هذا هو رجل، بعد كل شيء، بنى شهرته على صورة عامة في جزء منها مبنية على مآثر من الأعمال البطولية: إرتداء قميص خفيف عبر صقيع سيبيريا، والقفز بالمظلة مع الطيور المهاجرة، وإطلاق سراح فهد من قفص إلى محمية طبيعية. لذلك ربما ليس من المستغرب أن يواجه الرئيس الروسي بجرأة مماثلة الأزمة الإقتصادية في بلاده، التي سرّع بها تراجع أسعار النفط العالمية والعقوبات الغربية. لماذا لا يستخدم القوة المالية الهائلة ل”مصارعة” هبوط سعر الروبل والعودة به إلى بر الأمان؟
في الواحدة صباحاً بتوقيت موسكو في 16 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أعلن البنك المركزي الروسي عن إرتفاع هائل في أسعار الفائدة في البلاد، من 10،5 إلى 17 في المئة. مع ذلك، كانت المؤشرات الأولى لتحرّك الحكومة إيجابية إلى حد ما، مع إرتفاع الروبل في صباح اليوم التالي بنسبة 10 في المئة مقابل الدولار. على الرغم من ذلك، خلال ساعات أعاد ثقل سوق الصرف الأجنبي تأكيد نفسه، مُسقِطاً الروبل إلى أقل من نصف قيمته في العام 2014 ورافعاً أشباح التضخم والركود. خلال الأسابيع التالية، أثبت بوتين ومساعدوه تقريباً عجزاً كلياً للسيطرة على إثنتين من القوى الإقتصادية التي تمثل أهمية كبرى لهم: إعتباراً من منتصف كانون الثاني (يناير)، إنخفضت الأسعار الفورية لنفط الخام برنت الأوروبي إلى مستوى منخفض تاريخياًأ إلى 46 دولاراً للبرميل، وقد تراجع الروبل بعناد إلى 65 إلى الدولار.
من الواضح لماذا أن تراجع أسعار النفط وإنخفاض سعر الروبل يحملان الخوف والقلق حتى إلى بوتين صديق الفهد. لا يزال الإقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير على النفط والغاز الطبيعي، واللذين شكلا في العام 2013 ما نسبته 68٪ من عائدات التصدير في البلاد و50 في المئة من الموازنة الفيديرالية. إن هبوط أسعار الطاقة العالمية قد يؤدي إلى إنكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.5 في المئة في العام 2015، وفقاً لبنك البلاد المركزي. وبالمثل فمن شأن تراجع الروبل أن يقلق أصحاب الديون بالعملة الصعبة البالغة 130 مليار دولار في البلاد، والتي تستحق هذا العام.
ما هو غير واضح هو كيف يمكن أن يكون بوتين وزملاؤه حقاً يتوقّعون تحقيق أي شيء من طريق رفع سعر الفائدة. إلّا إذا كان المقصود زيادة جذب رؤوس أموال أجنبية – حدثٌ مستبعدٌ جداً. وهذا الإجراء من الممكن أن لا يؤدي سوى إلى إرتفاع معدلات التضخم وزيادة الضغط الهبوطي على سعر الروبل. ومن المتوقع أن يصبح الوضع صعباً لخدمة الديون الدولية للبلاد؛ ومن المرجح أن ترتفع أسعار السلع المستوردة؛ كما أن الروس أصحاب الديون الخارجية في طريقهم إلى مواجهة صعوبات في الحصول على عملات أجنبية.
مع ذلك، ليس بوتين أول زعيم وطني يطارد عملة أقوى ويخاطر بإضعاف الإقتصاد. في عشرينات القرن الفائت سحب ونستون تشرشل ذهباً من إحتياطي بلاده لدعم الجنيه البريطاني، بعد فترة طويلة من تحوّل السلطة المالية العالمية من بريطانيا الى الولايات المتحدة. وكانت النتيجة إنخفاضاً ملحوظاً في القدرة التنافسية الصناعية البريطانية وركود الإقتصاد الأمر الذي ساهم في وقوع الكساد العظيم. بعد نصف قرن، كافح الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للحفاظ على موقع الدولار كعملة إحتياطية في العالم على الرغم من التكلفة المالية المتزايدة على الولايات المتحدة للقيام بذلك. وتعهّد الرئيس المكسيكي خوسيه لوبيز بورتيو “الدفاع عن البيزو مثل الكلب” قبل وقت قصير من إضطراره إلى تعويم العملة، جرّاء الإقتصاد المنهار لبلاده، والتي غرقت. في كل هذه الحالات وغيرها العديد مثلها (روسيا في العام 1998، وإندونيسيا في العام 1997، والمملكة المتحدة في العام 1992)، لم يؤدِّ التدخل سوى إلى الشعور بالضيق: إرتفاع معدلات التضخم، وتباطؤ النمو، وإرتفاع معدلات البطالة، وهروب رأس المال.
لماذا مثل هذه السلسلة الطويلة من السياسات لم يكن لها الحظ بالنجاح؟ ربما لأنه، على غرار العديد من مواطنيهم، كثيراً ما يبدو القادة الوطنيون أنهم يشعرون بتعلق مادي وعاطفي بعملاتهم. إنه أثر غريب وشاذ، يمكن القول، في عالم يتّسم بزيادة التدفقات عبر الحدود من النقد الأجنبي، ولكنه واحد قوي مع ذلك. من الناحية النظرية، إن قيمة أي عملة هي غير شخصية، في الواقع غير سياسية – هي نتيجة العرض والطلب في السوق المفتوحة. على الرغم من ذلك، في الممارسة العملية فإن القادة في كثير من الأحيان ينسبون العملات القوية إلى القوة الوطنية بشكل عام وبالتالي ينظرون إلى إنخفاض العملات (وبخاصة التي تتراجع سريعاً منها) كإهانة لبراعتهم.
ونتيجة لذلك، في بصريات التدخل، يسعى الزعيم الوطني إلى نقل عنصر معيّن من وساطة القوة – لعرض العضلات ووعد ضمني بأنه لا يجب التخلي عن الدولة لقوى خارجية مدمّرة. تذكّر مرة أخرى تشرشل، الذي خاطر في العام 1925 بذهب بريطانيا لدعم الجنيه الحبيب. كانت الحكمة الإقتصادية واضحة: إن التدخل لا يعمل ولا يفيد. في ذلك العام عينه، كان الخبير الإقتصادي جون ماينارد كينز حذر من أن عودة بريطانيا إلى معيار الذهب بمعدل تضخم مصطنع من شأنه أن يؤدي حتماً إلى البطالة، والصراع الطبقي، والإضرابات لفترات طويلة. مع ذلك نفّذ تشرشل قراره، غير راغب في السماح لسقوط الجنيه إلى مستوى إعتبره غير عادل وغير شرعي.
بالنسبة إلى بوتين، أيضاً، الجلوس من دون عمل شيء ما وهو يشهد تراجع الروبل ربما لم يكن أبداً خياراً – ولم يزل كذلك. من المرجح أن يبقى منغمساً في الجهود الرامية إلى رفع سعر الروبل والسحب من الإحتياطي الروسي بالعملة الصعبة وفقاً لذلك. (وفي خطوة مفاجئة، أقدم البنك المركزي على خفض الفائدة في أواخر كانون الثاني (يناير) – ولكن فقط بنسبة نقطتين مئويتين). ولأن أياً من هذه التدابير لن يفعل أي شيء لمعالجة المشاكل الإقتصادية الأساسية في البلاد، مع ذلك، من المحتمل أن تتابع روسيا التخبط حتى ترتفع أسعار النفط العالمية في نهاية المطاف مرة أخرى.
ما يجب أن تقوم به روسيا حالياً هو تنويع إقتصادها بعيداً من أي شيء ينطوي على إستخراج الموارد من الأرض وبيعها بأسعار مضطربة محدّدة دولياً. ينبغي على موسكو أن تتبع سبيل المثال النروجي لعزل عائدات الطاقة في صندوق ثروة سيادي، وإستثمار العائدات في المدى الطويل، وعزل الإقتصاد الأوسع من الإعتماد على أسواق السلع. وينبغي أن تتبنّى إستراتيجيات مثل تلك المستخدمة في تشيلي، حيث إستثمرت بعناية إيرادات النحاس في طائفة واسعة من الصناعات، وحيث يتم حفظ عائدات التصدير خلال فترات الإزدهار الموثوقة لأيام أقل سعادة وأقل إنتعاشاً.
وإلى أن يحدث ذلك، سوف تكون روسيا وزعيمها لاعب الشطرنج الشاذ في قفص من صنع أيديهما، يعملان بشكل رمزي ولكن من دون أي تأثير حقيقي. وسيبقى البلد على قائمة طويلة من الدول التي تتخذ سياسات تستند إلى الحنين إلى الماضي بدلاً من أن تعتمد على إستراتيجيات يكون لها معنى عملي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى