المقدَّس والمدنَّس ومحنة العقل في الثقافة العربية!

بقلم جوزف قرداحي

في مقدمة كتاب “المقدّس والمدنّس” لمؤرخ الأديان الروماني ميرسيا ألياد، يقول الباحث السوري عبد الهادي عباس: “يدلنا التاريخ القديم أن العرب كغيرهم من الشعوب، بل ربما أكثر من غيرهم، قد أدخلوا صفة القداسة على كثير من الأشياء ونزعوها عن الكثير. ويُذكر في هذا الصدد أن عمر بن الخطاب، قطع الشجرة التي حصلت تحتها “بيعة الرضوان”، مخافة أن يعبدها العرب”.
لعلّ العرب على مرّ تاريخهم وعصورهم، إستطاعوا أن يواكبوا التطوّر ويستخدموا كل إبتكاراته الحديثة في أسلوب حياتهم اليومية، بإستثناء التطوّر في ثقافتهم الدينية، التي توقّف بها الزمن منذ الوحي القرآني الذي نزل على النبي الكريم قبل 1400 سنة.
عرفت أوروبا المسيحية عصراً مشابهاً للعصر الذي نعيشه في الوقت الحالي، حين مارست الكنيسة في القرون الوسطى كل وسائل الترهيب، ضد كل من تعتبرهم مهرطقين وخارجين عن طاعتها، فكانت تكفّر كل من كان يتجرّأ على مخالفة قوانينها وعقائدها، متهمةّ من يتسلّح بالبراهين العلمية لدحض الكثير من معتقداتها المبنية على الأساطير الدينية بمخالفة الكتاب المقدّس والتجديف على العزة الإلهية. ولعل أشهر تلك القصص الحمقاء التي إرتكبتها الكنيسة أيام محاكم التفتيش، هي تكفير العالم غاليليو غاليلي الذي برهن بأن الأرض كروية الشكل وتسبح في الفضاء حول الشمس، فحكم عليه أساقفة الكنيسة المتشددين بالموت، ما لم يُقدِّم إعتذاره ويطلب الصفح والغفران.
بلغ عدد ضحايا “محاكم التفتيش” الذين أعدموا حرقاً أو قُطعت رؤوسهم أو أطرافهم تحت المقصلة، ما يزيد على الخمسة ملايين شخص، معظمهم صدرت الأحكام بحقهم لمجرد الوشاية. فكان يُعامَل “الهرطوقي” مثل الأبرص الذي يجب إبعاده من “الجسم السليم من المؤمنين بالحرمان الكنسي”، ثم النفي أو مصادرة ممتلكاته.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه الآن وإن بأشكال مختلفة، فالتكفيريون الذين كانوا يلجأون إلى “الكتاب المقدّس” لتحقيق “العدالة الإلهية”، باتوا اليوم يستخدمون “القرآن الكريم”. وإشارة الصليب التي كانت تُرسم فوق جثث الضحايا، فقد إستبدلها التكفيريون الجدد براية “لا إله إلا الله”. المقدّس نفسه يُستخدم في المدنّس، فيصبح المدنّس محمياً بهالة من القداسة، لا يمكن المساس به أو رشقه بأي إتهام أو حتى الإحتجاج ضده. فيتعطَّل العقل لتتأجج الغرائز الدينية المدافعة بشراسة عن المدنَّس الملتبس بالآيات والنصوص القرآنية.
الخطير في الإلتباس ما بين المقدَّس والمدنَّس وتمازجهما حتى التماهي، هو حين تصبح المراجع الرسمية والدينية والقضائية أسيرة هذا الوباء الخبيث المختبىء بالمقدَّس. فتتعامى تلك المؤسسات عن الجريمة المتخفية بالرايات المقدسة، لتجلد الضحية إذا ما عبَّرت عن وجعها، تماماً كما حصل مع المعترضين على جرائم “داعش” في منطقة الأشرفية (بيروت)، الذين أحرقوا الراية السوداء التي رُفعت فوق أعناق الجنود اللبنانيين وهم يُذبَحون. ليتحوَّل هؤلاء إلى هراطقة وكفّار يدنسون الراية المغمَّسة بدماء الأبرياء، وقضية دينية تستفز المشاعر وتُحرّك النيابة العامة للإقتصاص من المتطاولين على “العزة الإلهية”!
في الوصف الدقيق لهذا النوع من تقديس العنف الديني هو ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني رودولف أوتو وصف “عاطفة الرعب تجاه المقدّس، وتجاه هذا الغامض المخيف، وتجاه هذه العظمة التي تنشر سيادة سلطة ساحقة من القوة”، الأمر الذي يجعل كل ما هو إلهي حالة متفرّدة لا تشبه أي شيء أرضي أو حتى كوني. فالإلهي فوق الكون والزمن والطبيعة، وكل ما يمثله من شعائر وكتابات حتى لو بنيت على باطل لا يمكن المساس به، تحت أي ذريعة كانت.
من هنا ندرك قوة التطرف الديني، وقدرته على التنامي حتى ما بين الأوساط المعتدلة نسبياً، وما ردود الفعل على قتل رسامي الكاريكاتور الفرنسيين الشهر الفائت، ومن مسيحيين معتدلين بالذات تبارك هذا الإعتداء، وتمنح القتلة صك البراءة، إلا دليل قاطع على تقاطع المقدَّس بالمدنّس، ليصبح كل مساس بالرموز الدينية ولو من باب النقد العلمي، عرضة لهدر الدم. ولا ننسى طبعاً الفتوى التي أصدرها الإمام الراحل الخميني بهدر دم سلمان رشدي عقاباً على كتابه (آيات شيطانية)، ومن بعده الفتوى التي أصدرتها المحكمة الشرعية الجعفرية برئاسة القاضي الشيخ عبدالله نعمة ضد المفكر اللبناني مصطفى جحا والتي إعتبرته فيها كافراً ومرتداً، بسبب كتابه “محنة العقل في الإسلام” والذي انتقد فيه بطريقة فلسفية بعض الممارسات الخاطئة في تطبيق الشريعة.
إن شريحة كبيرة من العلمانيين في المجتمع العربي ليست محررة تماماً من التصرّفات الدينية، والثيولوجيات والميثولوجيات. إنها غارقة حتى النخاع بركام من السحر الديني ولكن الهابط إلى درجة الكاريكاتور. فالضجة الأخيرة التي أثيرت حول صورة “جهاد النكاح” التي نشرها المخرج اللبناني شربل خليل، والتي حرّكت دار الفتوى والنيابة العامة والصحافة والمجتمع المدني في لبنان، خير دليل على أن المقدّس في ثقافتنا العربية ما زال مرهوناً في فرج المرأة بكل أشكاله وحالاته. فهو وحده القادر أن يحرّك حواس أولياء الدين الغيارى على الرايات المقدّسة مهما سُفكت عليها دماء الأبرياء.
فعلاً، عالمنا العربي يعيش محنة عقل وإفلاس حقيقي في الدين!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى