النفط الرخيص يضيِّق الخناق على منتجيه ويعزّز إنفاق المستهلكين

النفط الخام الرخيص يلعب على أعصاب روسيا وفنزويلا وإيران في الوقت الذي ينعش إقتصادات آسيا المتعطّشة للمواد الهيدروكربونية وخصوصاً الصين واليابان، لكن تأثيره في الولايات المتحدة لن يكون تماماً أسود أو أبيض، بل ستكون له تداعيات.

الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو: يبحث عن تخفيض الإنتاج من دون طائل
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو: يبحث عن تخفيض الإنتاج من دون طائل

واشنطن – محمد زين الدين

إنخفضت أسعار النفط الخام إلى أدنى مستوياتها في الأسبوع الثاني من كانون الثاني (يناير) الفائت في تهديد مؤلم محتمل للدول المصدّرة للنفط التي تعتمد على الذهب الأسود لتعزيز إقتصاداتها. الواقع أن هذا الإنخفاض يجلب بعض الإرتياح المُرحًّب به في البلدان التي تكافح ضد رياح معاكسة إقتصادية، ولكنه في الوقت عينه يحمل حقيبة مختلطة لدول أخرى، مثل الولايات المتحدة، التي هي على حدٍّ سواء دول منتجة ومستهلكة كبيرة للنفط.
إن أسعار النفط لا تزال تبحث عن أرضية، وذلك جزئياً بسبب عدم التوافق العالمي على العرض والطلب الذي يستمر فيما كبار منتجي النفط داخل منظمة “أوبك” يُخيفون السوق من خلال رفضهم إجراء أي خفض طوعي للإنتاج. لقد رفض وزير الطاقة الإماراتي سهيل محمد المزروعي في 13 كانون الثاني (يناير) الفائت، فكرة تخفيض “أوبك” لإنتاجها من أجل زيادة الأسعار، وقال أن الأمر متروك للبلدان الأخرى المورِّدة للنفط، مثل الولايات المتحدة، أن تخطو الخطوة الأولى.
“يفيد الأساس المنطقي وقواعد السوق بأنه ينبغي على أولئك الذين ينتجون النفط الأغلى أن يكونوا أول من ينسحب أو يخفّض إنتاجه”، قال الوزير المزروعي. وقد إنخفضت أسعار البرنت الخام في لندن 4 في المئة عندما كان المسؤول الإماراتي يتحدث وحام حول 46،50 دولاراً للبرميل في منتصف يوم 13 كانون الثاني (يناير) الفائت في حين تدنّت أسعار الخام الوسيط لغرب تكساس في نيويورك قليلاً الى ما دون 46 دولاراً للبرميل.
كان نطاق وسرعة الإنخفاض في أسعار النفط مُذهلين. لم يكن مرّ على العام الجديد أسبوعين عندما إنخفضت أسعار النفط بشكل قياسي، أكثر من 15 في المئة. كما أن النظر أبعد إلى الوراء يبدو هذا الإنخفاض أكبر: لقد تدنّت الأسعار أكثر من 60 في المئة منذ الصيف الفائت. وقال الأمير الوليد بن طلال في أوائل الشهر المنصرم أن أيام أسعار النفط المقدّرة ب100 دولار للبرميل قد ولّت إلى الأبد. ويعتقد العديد من المحللين أن أسعار النفط ما بين 30 دولاراً و 40 دولاراً للبرميل هي إحتمال حقيقي. وقد شوهد هذا المستوى الأخير خلال أحلك أيام الأزمة المالية العالمية في 2008؛ الآن يراهن تجار النفط على غرق الأسعار الى 20 دولاراً للبرميل.
صار غرق أسعار النفط خطراً أقل منه واقع مؤلم للبلدان التي تعيش وتموت من طريق بيع الذهب الأسود. من جهتها خفّضت وكالة “موديز” الديون الفنزويلية إلى ثاني أدنى تصنيف. وتفيد “موديز” بأن هناك القليل الذي يمكن للحكومة الفنزويلية القيام به لوقف التعفّن الاقتصادي، ما لم يحدث إنتعاش في أسعار النفط. وقد جال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في العالم، وقبعته في متناول يديه، يطلب من زملائه في دول النفط خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط، ولكنه لم ينجح في مهمته حتى الآن. النقطة المضيئة الوحيدة: رفعت توقعات “موديز” فنزويلا من سلبي إلى مستقر، ولكن فقط لأن البلاد قد وصلت بالفعل الى الحضيض.
من ناحية أخرى، تزداد مشاكل روسيا الإقتصادية سوءاً، مع هبوط الروبل إلى أدنى مستوياته في شهر واحد في 13 كانون الثاني (يناير). وأصبحت عوائد السندات الروسية بمستويات السندات الفنزويلية، حيث خفّضت وكالات التصنيف أيضاً الديون الروسية. وتبدو مخاطر التخلّف عن السداد في إرتفاع، مما يجعل الديون الروسية إحدى أخطر الديون في العالم. كل ذلك سوف يُترجم إلى إنكماش إقتصادي هذا العام، مما يولّد خطراً حقيقياً جداً من أن يُقدِم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرة أخرى على مغامرات أجنبية للإلهاء.
لا يضرّ سقوط أسعار النفط فقط الدول المختلّة إقتصادياً. إنه يعصف أيضاً بقطاع النفط في بحر الشمال في بريطانيا، حيث أن شركات الطاقة الكبرى هناك تكبح جماح الإنفاق وتقلّص الوظائف. كما أن عاصفة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، التي أثبتت مرونة مع إنزلاق الأسعار في أواخر العام الماضي، بدأت تُظهِر علامات ضغط وضيق، مع سحب منتجي النفط لحفاراتهم من الحقول في ولايتي تكساس وداكوتا الشمالية.
على الرغم من ذلك، فإن الطاقة الأرخص تولّد بعض الفائزين. إن الإقتصادات الآسيوية، على وجه الخصوص، من المتوقع أن تستفيد. إيان بريمر، رئيس إستشارات المخاطر في “مجموعة أوراسيا” (Eurasia Group)، يقول بأن النفط الرخيص يفيد الصين أكثر من أي بلد، من خلال إعطاء الرئيس شي جين بينغ المجال لإعادة إنعاش ثاني أكبر إقتصاد في العالم بعيداً من الشركات غير الفعّالة المملوكة للدولة والتوجّه أكثر إلى الإنفاق الإستهلاكي .
مثل الصين، تستفيد دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية في أكثر من مجال جرّاء هبوط أسعار النفط: إن إنخفاض الأسعار أيضاً تجعل الغاز الطبيعي المستورَد أرخص، لأن غالبية عقود الغاز الطبيعي لا تزال مرتبطة بسعر النفط. لقد دفعت البلدان الآسيوية نحو 20 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية للغاز الطبيعي المسال المستورد في آذار (مارس) 2014. وبحلول كانون الأول (ديسمبر) الفائت، كانت أسعار الغاز الطبيعي المسال إنخفضت إلى حوالي 12 دولاراً. إنه حافز كبير وغير متوقَّع لأكبر مستوردي الغاز الطبيعي المسال في العالم. وهي أخبار جيدة خصوصاً بالنسبة إلى اليابان، التي قادتها شهيتها للطاقة بعد إغلاق معامل الطاقة النووية في أعقاب حادثة فوكوشيما في 2011 إلى عجز تجاري للمرة الأولى منذ عقود.
ومع ذلك، لا يبدو على الصعيد العالمي أن تراجع أسعار النفط سيترجم إلى نمو أقوى كما كان الأمر في الماضي. لقد قلّص البنك الدولي، في أحدث بياناته، معدل توقعاته بالنسبة إلى النمو العالمي من 3.4 في المئة إلى 3٪، على الرغم من أنه قد توقّع مزيداً من الإنخفاضات في أسعار النفط الخام. وهذا يعود في جزء منه إلى أنَّ كثيرين من المستهلكين في جميع أنحاء العالم لا يزالون حذرين ويُعيدون تدوير النقود الإضافية إلى وفورات بدلاً من إستهلاكها، في حين أن الإقتصادات المنتجة الكبيرة للنفط تترنّح.
ولكن السؤال الكبير يبقى: هل النفط الرخيص نعمة أم لعنة بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي تمتعت بطفرة إنتاج غير متوقَّعة من النفط والغاز في السنوات القليلة الماضية لتصبح واحدة من أكبر المنتجين في العالم؟
تاريخياً، بالنسبة إلى أكبر مستهلك للنفط في العالم، إن الخام الرخيص هو من الأخبار الجيدة: المستهلكون الذين ينفقون مالاً أقل في محطات البنزين سيكون لديهم المزيد من الدراهم لشراء أشياء أخرى. لقد تراجعت أسعار البنزين الآن على مدى أكثر 125 يوماً متتالياً في الولايات المتحدة وإنخفض سعر الغالون الواحد من 3،31 دولارات قبل عام إلى متوسط 2،12 دولار اليوم.
“وول مارت”، أكبر شركة تجزئة في العالم، نشرت أخيراً أول زيادة في مبيعاتها الفصلية منذ العام 2012 ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى البنزين الرخيص، الذي يحرّر المزيد من المال لأفقر عملاء الشركة. وقدّر خبراء إقتصاديون في أواخر العام الفائت بأن أسعار النفط الرخيص وصلت إلى درجة تحفيز نقدي تساوي حوالي 1،800 دولار لكل أسرة في الولايات المتحدة؛ بهذا المعنى فهو على الأرجح أكبر الآن لأن أسعار النفط قد إنخفضت أكثر من ذلك حالياً. وتُظهر أرقام الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث المنقّحة إنتعاشاً صحياً في الإنفاق الإستهلاكي الأميركي الذي عزّز أقوى نمو في العقد الماضي.
ولكن في هذه الأيام، صارت الولايات المتحدة عملاقاً في مجال النفط والغاز. إن ولايات مثل داكوتا الشمالية، وألاسكا، وأوكلاهوما، وحتى ولاية تكساس تعتمد بشكل كبير على النفط لإنعاش النمو الإقتصادي وخلق فرص العمل. إن الإعتماد المُكتشَف حديثاً يخلق ضعفاً طريّاً يمكن أن يُلغي الكثير من الفوائد الأوسع للطاقة الرخيصة، على الأقل في أجزاء معيّنة من البلاد. إنه ليس تأثيراً مباشراً في شركات الطاقة فقط، والتي تشكّل جزءاً صغيراً من الإقتصاد حتى في ولايات مثل تكساس، بدلاً من ذلك، سيكون بالنسبة إلى إنسياب وظائف وإستثمار الطاقة إلى بقية قطاعات الإقتصاد الذي يعطي دفعة معيَّنة وإنعاشاً للخدمات، من الفنادق والمطاعم إلى الرعاية الصحية.
طالما بقيت أسعار النفط الخام مرتفعة نسبياً، كما كانت خلال معظم العام الفائت، يمكن أن يتجاوز منتجو النفط في الولايات المتحدة الأزمة. لكن أسعار النفط في نطاق ال40 دولاراً للبرميل الواحد بدأت تختبر بشكل جدي إقتصادات العديد من العمليات والمشاريع. ذلك لأنه على عكس مصادر أخرى جديدة من إنتاج النفط – مثل رمال القطران في كندا – يعتمد إنتاج الولايات المتحدة من النفط الضيّق على حفر آبار مستمر للحفاظ على مستويات الإنتاج.
وقد ذكرت شركة خدمات حقول النفط “بيكر هيوز” في أوائل كانون الثاني (يماير) الفائت ان عدد الرافعات – رصيدها من آبار النفط والغاز – تراجع في أواخر العام الفائت إلى أدنى مستوى منذ العام 2009. وقد تدنّى عدد الرافعات على مدى خمسة أسابيع متتالية، وهو مؤشر إلى أن منتجي النفط الذين يعيشون على الحافة يتحوّطون لرهاناتهم. وفي تشكيل “باكن” الضخم في ولاية داكوتا الشمالية، تلعب أسعار النفط الرخيصة دوراً مؤثراً إقتصادياً الآن.
إذا بقيت أسعار النفط منخفضة، يقول بنك الإستثمار “غولدمان ساكس”، فإن إنتاج الولايات المتحدة سوف يتراجع في النصف الثاني من العام. وفي 13 كانون الثاني (يناير) الفائت، توقعت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن إنخفاض الأسعار قد يشكل بالفعل ضغطاً على إنتاج النفط في أميركا هذا العام، ولكن بشكل قليل فقط.
في نهاية المطاف، إن الخطر الكبير بالنسبة إلى الإقتصاد الأميركي يكمن في مدى اللعبة التي يلعبها العرض والطلب. إذا ساعد النفط الأرخص المستهلكين أكثر من تضرّر المنتجين للطاقة، فإن الإنخفاض سيمدِّد سياسة مجلس الإحتياطي الفيديرالي (البنك المركزي) المتوقفة الآن عن ضخ االمال السهل في الإقتصاد. وبينما يمكن لذلك أن يمدّد النمو الإقتصادي لأرباع سنوية أخرى، فإنه في الوقت عينه يمهّد الطريق لهبوط ورسو أصعب في وقت ما من العام المقبل – وذلك في الوقت المناسب لإنتخابات الرئاسة الأميركية في العام 2016.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى