كلينت إيستوود يروي قصة حرب العراق من منظار بندقية

فيلم كلينت إيستوود الجديد عن القناص المشهور في “القوات الخاصة” أو “قوات النخبة” التابعة للبحرية الأميركية المعروفة ب”نايفي سيل” (Navy SEAL)، كريس كايل لا يُظهر سوى جزء بسيط مما يعنيه قتل أحد في المعركة.

4-	غلاف كتاب كريس كايل "قناص أميركي"
4- غلاف كتاب كريس كايل “قناص أميركي”

هوليوود – سمير صفير

في “قنّاص أميركي”، فيلم كلينت إيستوود الجديد حول القنّاص كريس كايل الذي خدم في “القوات الخاصة” في البحرية الأميركية، نرى بندقية كايل قبل أن نرى الرجل (كما لعبه برادلي كوبر). وهذا يبدو مناسباً، نظراً إلى أن البندقية، وما فعله كايل بواسطتها خلال أربع جولات له في العراق – مسجّلاً قتل 160 شخصاً، أكثر من أي قناص أميركي في التاريخ – هي التي جعلته مشهوراً في الأوساط العسكرية وخارجها. ثم تتجه الكاميرا إلى كايل نفسه وهو يحدّق من خلال منظاره إلى الشوارع أدناه، مما يعني أننا سوف نتعرّف قريباً على القنّاص وراء سلاحه.
نتعرف عليه بشكل دقيق – عن إصرار والده أن الشر موجود وأن “الكلب الراعي” في العالم يجب أن يحمي الخراف من الذئاب؛ حول دخوله إلى الجيش، فترته في العراق ومنافسه المفترض، قناص العدو الذي يُطلق عليه إسم مصطفى؛ حول تأثير الخدمة في جولات متكرّرة عليه وعلى أسرته، وخصوصاً زوجته تايا؛ وحول العمل الذي قام به لمساعدة زملائه من قدامى المحاربين، والذي وضعه على إتصال مع جندي سابق مضطرب الذي قام فجأة بقتله، تماماً فيما بدت أن حياة القناص السابق بدأت تعود إلى طبيعتها. مع أن ساعتين ليست كافية لتغطية كل شيء، ولكن، للأسف، فقد غيّر أو ترك أيضاً قدراً كبيراً من الأحداث.
على الرغم من أن ستيفن سبيلبرغ كان من المفترض أن يشرف على إخراج الفيلم قبل بداية المشروع في الصيف الماضي (بضعة أشهر فقط بعد مقتل كريس كايل في ولاية تكساس في سن 38)، فقد تبيّن للمشرفين على “قناص أميركي” أن كلينت إيستوود سيكون الأفضل في هذا النوع من الأفلام، بعدما أثبت، إذا جاز التعبير، أنه أقوى مخرج بجهد متواصل في السنوات الثماني منذ فيلميه عن الحرب العالمية الثانية “أعلام آباؤنا” و”رسائل من إيو جيما”. وكما كان واضحاً في هذين الفيلمين، وفي هذا الفيلم، هناك قلّة من المخرجين لديه الثقة التي يتمتع بها إيستوود مع فيلم قتالي على نطاق واسع، ناهيك عن عدم ميله للتحقيق بوحشية ما يعرضه لنا.
وكما أسلفنا، نلتقي أولاً كايل (كوبر) فيما هو ينحني على سطح أحد المنازل المطلة على أبنية مدمّرة في مدينة الفلوجة العراقية، مستهدفاً قتل إمرأة محلية وإبنها الصغير الذي كان يمشي على مسافة بعيدة نوعاً ما منها؛ فقط منظاره المعقّد الأبعاد يسمح لكايل أن يرى بأنهما يستعدان لإلقاء قنبلة يدوية على أفراد قريبين من مشاة البحرية الأميركية. الوضع المشحون والخطر المترتّب عن أخذ قراره بلحظات بالضغط على الزناد يقدمان فرصة للفيلم ليومض فجأة إلى الوراء إلى 30 عاماً وبالتحديد إلى طفولة ونشأة كايل في تكساس، التي حضّرته لكي يكون هدّافاً وقناصاً ماهراً في سن مبكرة (يضطلع بهذا الدور كول كونيس)، وكذلك حامياً شجاعاً لشقيقه الأصغر، جيف (لوك سانشاين). وبعد مزاولة مهنة ال”روديو” لفترة وجيزة، ينضم كايل كوبر إلى صفوف النخبة (سيل) في قوات البحرية الأميركية، التي صوًر الفيلم تدريبها الوحشي -بما في ذلك تحمل الإختبارات الموحلة على شاطئ البحر في “أسبوع الجحيم” اللعين– على نطاق واسع هنا أكثر مما كان عليه الأمر في فيلم مذكرات العام الماضي “ناجي وحيد” (Lone Survivor).
كما كتبها جايسون هول، فإن هذه الذكريات من الماضي تشكل أهم مجال أو تمدد تقليدي في الفيلم، بما في ذلك مشهد مضحك في حانة حيث إستطاع كايل بسحر طريقته عبور الدفاعات للجميلة تايا (سينا ميلر)، على الرغم من إدعائها المبكر بأنها لا تريد أبداً الخروج مع واحد من أولئك “المتغطرسين والأنانيين المتشاوفين” الذين يسمّون أنفسهم “سيل” (نخبة البحرية الأميركية). مع ذلك، فإن كايل ناقض هذا الوصف، وكشف عن نفسه بأنه يخاف الله، لكنه يقاتل ككل الأميركيين الذين صدمتهم أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 وهو مصمم على الثأر لبلاده. والواقع أنه لم يكد يجف الحبر على وثيقة الزواج حتى شُحِن “كايل” إلى محيط “الفلوجة”، حيث إستطاع خدمة رفاقه بقدراته الإستثنائية كقناص.
إن القصة هنا تعود لتضعنا مع ذلك الوضع المتوتر مع الأم وإبنها، وهذه المرة لا يدّخر علينا الفيلم بالنهاية الشنيعة التي لا مفرّ منها. واصفاً تصرفاته إلى زميله الجندي، كايل يتنفس، ثم يقول: “هذا شرّ كما لم يسبق لي أن رأيته أبداً من قبل” – بيان يخيّم مجدياً فيما نشاهده يجهد لقنص واحد بعد آخر، وقتل المتمردين العراقيين الجواسيس الذين كانوا يتسلّحون خلسة في الزقاق الخلفية، أو يقودون سيارة مفخخة في إتجاه الجنود الأميركيين. في كل من سيناريوهات الحياة أو الموت هذه، كان يجب على كايل إستخدام ما لديه من الوقت القليل للتقييم بسرعة ما إذا كانت الأهداف في الواقع تشكل تهديداً للتنفيذ فوراً، لئلا يواجه إتهامات من المحامين والليبراليين وغيرهم من أعضاء “حشد لوم أميركا اأولاً” (نقطة أثارها الكتاب في الولايات المتحدة بشدة أكثر بكثير من الفيلم).
ليس من المستغرب أن إيستوود تجنب الخوض في الظلمة الإيديولوجية للوضع وركّز بإحكام على مهمة كايل، مما أسفر عن وجهة نظر تجريبية محضة للصراع حيث أن أياً من الجنود الآخرين يصبح أكثر من رسم ثنائي الأبعاد، والتواريخ والأماكن نادراً ما تم تحديدها، وألغى أي سياق جيوسياسي أكبر عمداً. (بعض التفاصيل تغير؛ يقول كايل انه كان في الثلاثين عندما تجند، لكنه في الواقع كان في منتصف العشرينات). ومع ذلك فإن تحقيق “قناص أميركي” هو الطريقة التي تقوّض بمهارة السلبية في العالم تجاه بطل الرواية، فيما إيستوود يثير بشكل حاذق عدداً من المضاعفات اللوجستية والأخلاقية: إحباط كايل الناتج من مشاركته دائماً من مسافة بدلاً من على الأرض مع رفاقه؛ التعاون الصعب في بعض الأحيان بين النخبة البحرية (سيل) ومشاة البحرية الأقل تدريباً، وبخاصة عندما يبدأون المهمة الخطرة لتطهير البيوت العراقية في المدينة؛ وفوق كل شيء، شبه إستحالة معرفة الجهة التي يجب الوثوق بها في بيئة حيث يفترض أن الجميع فيها معاد.
هذا يصبح حاسماً وخصوصاً عندما يتلقى كايل وفصيلته أوامر بقتل الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي زعيم “القاعدة في العراق” ونائبه الجزار (ميدو حمادة). مطاردة الجزّار – وقناص سوري المولد يدعى مصطفى (سامي الشيخ)، الذي تنافس دقته القاتلة دقة كايل – تقود القوات إلى سلسلة من المناوشات، من هجوم مروع لتنظيم القاعدة على أسرة شيخ عراقي (نافيد نيغاهبان) إلى كمين ليلي يتطور نتيجة لفطنة كايل غير العادية إلى حالة حميدة على ما يبدو. عاملاً كالمعتاد مع نائب المنتج توم ستيرن والمحررين جويل كوكس وغاري روتش، عالج إيستوود هذه الوضعية الطموحة مع إحتراف جدير بموضوعه، حيث حافظت الكاميرا على شعور رملي على مستوى الأرض، في حين تحوّلت بشكل حاذق بين مجموعة المشاهد التي على الرغم من ذلك حافظت على إستمرارية قوية للأعمال القتالية.
المعالجة الأقل براعة في الفيلم كانت في التطرق العادي لتايا وطفليهما في ولاية تكساس، موفرة تذكيراً ضرورياً ولكن مفرطاً كثيراً بأن أحباء كايل يدفعون ثمناً باهظاً لخدمته العسكرية. يبدو أن لدى تايا عادة سيئة في الإتصال بزوجها على الهاتف في تلك اللحظات المؤسفة عندما تكون شظايا الهاون تنفجر حوله (وهو أمر مفهوم في كثير من الأحيان). وعندما يكون كايل في المنزل في إجازة، يبدو ساهياً بعيد المنال بشكل مؤلم، ويحجم عن الحديث عن تجاربه وبالكاد يكون قادراً على العمل،الأمر الذي يدفع تايا إلى بعض الحوار الواضح المتنوع حول “حتى عندما تكون هنا، فأنت لست هنا”. إن ما يؤثر في هذه المشاهد، مع ذلك، هو الشعور المقلق أن حياة كايل العادية قد تحولت إلى منطقة الحرب، وإن وقته مع عائلته يمر عليه سريعاً كوقت ضائع. نرى أطفاله على فترات وجيزة فقط هنا، ويجب أن يكون المعدّل الذي يكبرون فيه مذهلاً بالنسبة إليه كما هو الحال بالنسبة إلينا.
في كشفه عن شخصية من خلال العمل، وإهتمامه بالأسلوب بدلاً من السياسة، وتركيزه على جندي أميركي موهوب بشكل إستثنائي يكافح من أجل إيجاد معنى له في مكان صغير لكنه أساسي في حرب لا يفهمها إلا جزئياً، فإن فيلم إيستوود لا يساعد ولكنه يستدعي فيلم “ذا هارت لوكر” (The Hurt Locker)؛ وإذا كان في نهاية المطاف قضية أكثر جدية وعادية، وأقل جرأة رسمياً من فيلم كاثرين بيغلو، فإنه مع ذلك يظهر بإعتباره واحداً من عدد قليل من المعالجات المثيرة للنزاع بين الولايات المتحدة والعراق التي يمكن أن تسجل لصالحه. وتماماً كما وجد “ذا هارت لوكر” أعماق الوحي في جيريمي رينر، لذلك يتوقف “قناص أميركي” على ضبط نفس كوبر والأداء العميق المعبّر له، مما يتيح للعديد من الآثار غير المعلنة للدراما بأن تُقرأ بوضوح متزايد على وجه الممثل الذي مزقته الحرب.
كوبر، الذي زاد وزنه 40 باونداً للدور، يبدو رائعاً هنا؛ مليئاَ بالروح وذات سحر خاص في وقت مبكر في المنزل، يبدو بعد ذلك أنه إنزلق إلى نوع من العذاب الخاص الذي فقط أولئك الذين خدموا بلادهم حقاً يستطيعون معرفته. ولعل اللمسة الأكثر أنسنة للفيلم هو إستعداده لإظهار كايل ليس مجرد رد فعل ولكنه يفكر، في محاولة لفهم الأفكار التي حتى الآن إستعصت عليه، سواء كان من قضاء الوقت مع قدامى المحاربين الذين فقدوا أطرافهم وأسوأ في ساحة المعركة؛ إستيعاب الفرق بينه وبين شقيقه المتردد في البحرية (كير أودونيل)؛ أو إلتفاتته المؤلمة عندما يدعوه أحدهم “بطلاً”، كما لو كانت الكلمة سترة سيئة لا تناسبه.
في حين أن ظروف وفاة كايل تضيف مذكرة عاجلة مأسوية لواقع الفيلم، فإن اللحظة نفسها تركت خارج الشاشة، وهو قرار يتفق مع ضبط النفس الدقيق الذي يميز الإنتاج ككل. الإختيارات البصرية والتحريرية تعزز بتكتم الصدام بين جحيم الحروب الحديثة والعذاب في حياة الطبقة الوسطى الأميركية، بارزة مزيج الصوت الذي يسمح لنا تسجيل صدى كل طلقة نارية. في حين أن الموسيقى التي إعتمدها إيستوود في بعض الأحيان قد علت أو غابت، فهو لم يعتمد أي موسيقى بدرجة دهاء كما هنا، موفراً مرافقة باهتة غير محسوسة تقريباً؛ في فيلم يشجعنا على التفكير وكذلك على الشعور بأنه خيار يتحدث مجلدات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى