لماذا لن تتغير خريطة الشرق الأوسط؟

بقلم غسّان حاصباني*

يتحدّث كثيرون عن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعد إنتهاء فعالية إتفاقية “سايكس بيكو”. لكن التوجهات تدل على أن شيئاً آخر يحدث على المستوى العالمي يتجسّد بعوامل متعدِّدة قد توحي للمراقب أن حركات إنفصالية تنمو لتتحوَّل لاحقاً الى تقسيم المنطقة بينما ما يحدث هو إعادة توزيع موازين القوى وتوحيد مكوّنات الدول تحت أنظمة تختلف عن سابقاتها وتلتزم الديموقراطية بعيداً من التوتاليتارية أو الديكتاتورية. فما نظن أنه تقسيم للمنطقة إنما هو نشوء للفيديرالية الديموقراطية لأسباب قد تصبح أكثر وضوحاً مع مرور الوقت.
فاذا نظرنا لما يحدث من تطور في المجتمعات حول العالم، نلاحظ أن فجوة الدخل بين الغني والفقير ما زالت تتسع واضعةً الأنظمة الرأسمالية تحت ضغط كبير لتطوير نفسها وإعطاء حرية أكبر لشرائح أوسع من المجتمع قبل أن ينتهي بها الأمر إلى الفشل مثل الأنظمة الإشتراكية التي لم تنجح لا التوتاليتارية ولا الديموقراطية بإطالة عمرها نظراً إلى فشلها بتأمين الحد الأدنى من الإنتاجية الإقتصادية ومستوى العيش الذي يرتقي الى تطلعات الشعوب. والتطور الثاني هو في مجال تكنولوجيا المعلومات والإتصالات، والذي يعطي أهمية أكبر للأفراد والمجموعات الصغيرة في شبكة إقتصادية تتسع فيها اللامركزية الى حدود لم يسبق لها مثيل. أما التطور الثالث فهي حركة التمدّن والتحضّر أو النزوح نحو المدن، حيث يتوقع أن يعيش أكثر من سبعين في المئة من سكان الأرض ضمن مدن كبيرة بحلول منتصف القرن، مما يساهم في بروز المدن والمقاطعات كمجموعات إقتصادية أكثر تنافسية من البلدان التي تحتضنها. ومع إكتساب هذه الأهمية، لا يعود بإمكان مدينة أو مجموعة واحدة إحتكار القرار، فتزدهر اللامركزية. لكن في المقابل، يعي المجتمع أهمية التعاون والتضافر بين هذه المجموعات لما لها من تأثير في الأمن والإستقرار والعلاقات الدولية والتعاون التجاري، فينشأ نتيجة لذلك نظام فيديرالي يعطي المقاطعات ومدنها الرئيسية حرية أكبر على المستوى الإقتصادي والحكم الذاتي ويحفظ الأمن والمالية العامة والسياسة الخارجية تحت رعاية الحكم المشترك. ومن خلال هذا النموذج، يمكن تقليص فجوة الدخل بتفعيل الإقتصاد الحر وتعزيز الإنتاجية والإستفادة من القدرة التنافسية للمجموعات الصغيرة والأفراد بدلاً من طمرها تحت طبقات من البيروقراطية الرسمية.
ولا يجب أن ننظر إلى الأحداث الراهنة في منطقة الشرق الأوسط عبر نافذة زمنية ضيِّقة. فلو حلَّلنا الوضع في إسكتلندا منذ خمسة أشهر لأعتقدنا أنها ستنفصل عن المملكة المتحدة نظراً إلى قوة التيار الإنفصالي فيها. لكن بتوسيع النطاق الزمني للتحليل نجد أن الإنفصال لم يكن منطقياً منذ بداية المسيرة التي أخذت منحى مختلفاً في أيامها الأخيرة جرّاء ما يترتب على الدولة التي تنال إستقلالها من مسؤوليات. فعلى الدولة المنفصلة أن تؤمّن الإعتراف الدولي وتحقيق الأمن الداخلي وأمن الحدود والقوة العسكرية الدفاعية وتفتح السفارات وتبني العلاقات الديبلوماسية، إضافة الى تأمين نمو إقتصادها والحصول على عضوية المنظمات والمجموعات الدولية وتحديث أنظمتها الضريبية وغيرها من مكوِّنات السيادة. فاذا كان هذا الأمر صعباً على منطقة صغيرة مثل إسكتلندا، لديها برلمانها وحكمها شبه الذاتي، فماذا عن محافظات ومقاطعات في بلدان الشرق الأوسط؟
فالذي يحدث اليوم لا يمكن أن يُنتِج وحدة تحت حكم فئة على أخرى، كما أن الإنفصال سيكون عملية معقّدة، إضافة الى أن تبعية الفئات طائفية وليست جغرافية. كما أن التاريخ علّمنا أن الوحدة لا تتحقق من خلال أنظمة توتاليتارية تعتمد الإشتراكية نموذجاً إقتصادياً لها ولا أنظمة ديكتاتورية تحوّل الرأسمالية الى إحتكارات إقطاعية تحت غطاء الأسواق الحرة.
وفي الدول التعدّدية، ومع التحوّلات العالمية التي ذكرت أعلاه، تتحقق الوحدة، أو الفيديرالية، بوجود هامش كبير من المرونة في إدارة الشؤون المحلية والمحافظة على نمط العيش والإنتماء الى مجموعة ثقافية وإجتماعية وإقتصادية محلية مع الإبقاء على الإنتماء الوطني على مستوى الدولة الموحّدة الفيديرالية التي تصون أمن وحقوق جميع أبنائها. فالفيديرالية ليست تقسيم الدول كما يتنبأ البعض لمنطقة الشرق الأوسط بل هي تكريس الإنتماء الوطني على المستوى المحلي مع تعزيز المسؤولية والشفافية والفعالية. والإمارات العربية المتحدة خير مثال على هذا النموذج رغم ان نظام الحكم ليس ديموقراطياً.
ويبدو أننا وقعنا في إلتباس تاريخي ووضعنا أنفسنا أمام خيارات ثنائية: فمن ناحية الأنظمة علينا أن نختار بين التطرف أو الديكتاتورية، ومن ناحية الإنتماء فالخيار إما طائفي وعرقي وإما وطني على حساب التعددية. وبتنا نتجاهل الخيارات الأخرى المبنية على الإعتدال والعدالة والإنفتاح والإقتصاد الحر. وإذا إستشرفنا مستقبل المنطقة في العقدين المقبلين، فلا بدّ أن نرى نموذجا يُنتِج إستقلالية محلية أكبر للمناطق داخل الحدود الجغرافية الحالية، تتماشى مع إنتماء الشعوب العرقية أو الدينية أو الثقافية دون التخلي عن إنتماءاتها الوطنية الشاملة.
فالعراق على سبيل المثال، دولة دستورها فيديرالي يسمح بالمحافظات أن تتحد لتصبح أقاليم كما تكوَن إقليم كردستان، وما نراه يحصل اليوم قد يكون مخاضاً عسيراً لولادة أقاليم أخرى في المستقبل تقبل بالتعددية وتحافظ على السيادة العراقية في وقت واحد. وبذلك تكون النتيجة مشابهة لما حصل في إسكتلندا مع فارق شاسع في الممارسة والوسيلة. ففي المقاطعة السلتية، إستخدم الإستفتاء الديموقراطي المسالم وتحققت الفيديرالية ضمن المملكة المتحدة بدل الإنقسام، في فترة زمنية وجيزة. أما في العراق، فالتحوّل أطول ومبني على سفك الدماء وجعل التطرف والتطرف المضاد وسيلة أساسية لتحقيق الهدف بعد سنوات طويلة من عدم الإستقرار.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن ثمة مخططاً كبيراً ينفَّذ اليوم من قبل الدول الكبرى، بل إنه تحوّل طبيعي من ضمن التحوّلات التي يشهدها العالم، وخصوصاً الدول ذات التعددية العرقية أو الدينية أو الثقافية. أما التطرف والنفط وتدخل القوى الأجنبية، فهي وسائل إستُخدِمت، رغم أنه لا مبرر إنساني لها، في مراحل عدة من التاريخ لإعادة التوازنات بشكل جذري، سرعان ما إنكفأت عندما بدأت معالم التغيير تظهر جليّاً.

• خبير إقتصادي وإستراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى