ثورة مالية تشتعل بهدوء في أوروبا

أفاد البنك المركزي الاوروبي في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت بأن البنوك في أوروبا تفتقر إلى 25 مليار يورو، أو 31.7 مليار دولار، من المال الذي سوف تحتاجه للصمود إذا واجهتها أزمة مالية أو إقتصادية. كان هذا الإستنتاج نتيجة لمراجعة محاسبية دامت عاماً كاملاً للمقرضين في منطقة اليورو التي من المحتمل أن تكون نقطة تحوّل للإقتصاد المتداعي في المنطقة. وقال البنك المركزي الأوروبي أن 25 مصرفاً في منطقة اليورو أظهرت نقصاً في أموالها الخاصة، أو رأس المال، بعد مراجعة هدفت إلى الكشف عن المشاكل الخفية وإختبار قدرة المصارف على الصمود أمام الركود الحاد أو أزمة أخرى. وأضاف: أنه من بين ال25 إستطاع 12 بنكاً جمع رأس المال الكافي لتعويض النقص.
وكان التقييم العالي المتوقع للبنوك الأوروبية يهدف إلى إزالة سحابة من عدم الثقة التي أعاقت الإقراض في دول مثل إيطاليا واليونان، وتركت منطقة اليورو بأسرها تكافح من أجل تجنب الوقوع مرة أخرى في الركود. من خلال التشهير بعدد صغير نسبياً من البنوك المريضة – من ال 130 بنكاً قيد التقييم- هدف البنك المركزي إلى جعل الأمر أسهل بالنسبة إلى البنوك الجيدة منها لجمع المال الذي يمكّنها من إقراض العملاء.

بروكسل – ليلى الحلو

جان كلود يونكر: هل يدخل التاريخ من خلال إتحاد أسواق رأس المال؟
جان كلود يونكر: هل يدخل التاريخ من خلال إتحاد أسواق رأس المال؟

على الرغم من أن الهدف المعلن لإختبارات الإجهاد الأخيرة التي أجراها البنك المركزي الأوروبي على المصارف في منطقة اليورو كان لإعادة الثقة إلى القطاع المصرفي في منطقته، فإن نتائج هذه الإختبارات في الواقع، كما أفادت مصادر في بروكسل، كانت تهدف إلى تنظيف البنوك في المنطقة إستعداداً إلى إطلاق إتحاد مصرفي أوروبي. لكن جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية الجديد، وضع أولوية مالية مختلفة لولايته الأولى التي تدوم خمس سنوات، واحدة لم تلقَ إهتماماً كبيراً بالتأكيد: إنشاء إتحاد أسواق رأس المال الأوروبية.
ليس من الواضح حتى الآن ما يعنيه هذا المشروع أو كيف يمكن ان يعود بالنفع على الإتحاد الأوروبي. إلى حد كبير، إن إتحاد أسواق رأس المال الذي يقترحه يونكر لا يزال شعاراً يبحث عن برنامج وسياسة. ولكن من السهل تصوّر مجموعة من المبادرات المصمَّمة لمساعدة أوروبا على تطوير مصادر غير مصرفية سليمة للتمويل والسماح بحرية تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية في القارة. إذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك يمكن أن يكون مفيداً بشكل كبير لأوروبا.

كسر إحتكار البنوك

تحتاج أوروبا إلى التمويل غير المصرفي لأن بنوكها — التي كانت تقليدياً المصدر الرئيسي للتمويل للأعمال التجارية– أصبحت أضعف بكثير منذ بداية أزمة اليورو. فقد أرهقتها نسبة القروض المتعثرة، وفي بعض الحالات، تكبدت خسائر في السندات التي كانت تصدرها حكومات ضعيفة. في السنوات المقبلة، ستضطر البنوك الأوروبية إلى التقلّص فيما تُخضِعها المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي إلى تنظيم وإشراف أكثر صرامة. على هذا النحو، فإنها لن تكون قادرة على تمويل التعافي الأوروبي. إن الوضع سيىء وحاد بشكل خاص في دول منطقة اليورو الطرفية مثل إيطاليا.
بالطبع، هناك مجموعة واسعة من البدائل الممكنة لمحتاجي التمويل: الأسهم العامة؛ الأسهم الخاصة؛ رأس المال الإستثماري؛ القروض التي تقدّمها الكيانات غير المصرفية التي غالباً ما تُسمّى “بنوك الظل”. القروض التي تبدأ في الموازنات العمومية للبنوك ولكن بعد ذلك يتم تعبئتها وتحويلها إلى أوراق مالية وتبادلها في الأسواق المالية — بما يسمى “التوريق”؛ إصدارات سندات الشركات؛ إستثمار السندات الخاصة؛ صناديق التحوّط. وهلمَّ جرّاً.
على الرغم من أن كل هذه البدائل موجودة بالفعل في الإتحاد الأوروبي، فإن الأسواق بالنسبة إليها هي عادة ما تكون أصغر بكثير من الأنشطة المماثلة في الولايات المتحدة. في الواقع، وفقاً لتحليل أجراه مركز أبحاث “نيو فايننشال” فإن حجم أسواق رأس المال في أوروبا يعادل تقريباً نصف نسبة الناتج المحلي الإجمالي التي تمثله تلك في بلاد العم سام. هذا هو الوجه الآخر لحقيقة أن الإتحاد الأوروبي يتمحور مصرفياً أكثر بكثير من نظيرته. الموازنات العمومية للمقرضين تصل إلى أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، فيما تبلغ في أميركا 80 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
إن مصطلح “إتحاد أسواق رأس المال” تم إختياره بوعي لترديد صدى الإتحاد المصرفي الجديد للإتحاد الأوروبي. ولكن هناك إختلافات مهمة بين الإثنين. على وجه الخصوص، كان من المتصور أن الإتحاد المصرفي في المقام الأول هو مشروع منطقة اليورو، على الرغم من أن الدول غير المنتسبة إلى المنطقة يمكنها أيضاً الإنضمام إليه. كانت الفكرة للمساعدة في دعم العملة الموحّدة من خلال إلغاء ربط البنوك مع حكومات البلدان التي تعمل فيها.
أما إتحاد أسواق رأس المال فهو على النقيض من ذلك، لقد تمّ تصميمه لتطوير السوق الأوروبية الموحّدة، وليس لرأب الصدع في العملة الموحدّة. وهذا يعني أنه سيكون مشروعاً على مستوى الإتحاد الأوروبي بدلاً من مشروع في منطقة اليورو. في الواقع، يجب أن يُنظر إليه على أنه إستكمال للهدف الرئيسي لمعاهدة روما لعام 1957: حرية الحركة لرؤوس الأموال في جميع أنحاء المنطقة. وهذا يفيد أنه خلافاً للإتحاد المصرفي، سوف يشمل إتحاد أسواق رأس المال المملكة المتحدة، موطن مدينة لندن، التي هي حتى الآن أكبر سوق لرأس المال في أوروبا.
الواقع أن حملة لإستكمال إتحاد أسواق رأس المال الأوروبية يمكن أن تكون فرصة الأجيال لمدينة لندن على غرار ما يُسمى ثورة اليورو- دولار في أواخر خمسينات القرن الفائت ومن بعدها، عندما أغرقت كميات هائلة من الدولارات الوافدة من الخارج أسواقاً مالية جديدة تركزت في المملكة المتحدة ومن ثم إنفجار عنان النشاط المالي بحلول العام 1986 عندما أعلنت رئيسة الحكومة آنذاك مارغريت ثاتشر حملة تحرير الأسواق. وهذا سيكون جيداً بالنسبة إلى توفير الوظائف البريطانية، وخلق الثروة، وتحصيل الضرائب. وبهذا المعنى، إن إتحاد أسواق رأس المال الذي يدعو إليه يونكر يعطي البريطانيين سبباً قوياً للبقاء في الإتحاد الأوروبي إذا تم طرح السؤال عليهم في الإستفتاء، الذي وعد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إجراءه بحلول نهاية العام 2017، (على إفتراض أنه تمّ إنتخابه رئيساً للحكومة في الإنتخابات العامة في العام المقبل).
من جهة أخرى، إن التركيز الحالي للإتحاد الأوروبي على المصارف لا يهدّد فقط تقويض الإنتعاش الإقتصادي الهشّ في القارة، بل إنه يخدم أيضاً تضخيم الأزمة الأصلية. بعض الحكومات الذي أنقذ بنوكه، لا سيما إيرلندا، عرف إنخفاضاً وإنكماشاً لأن تكلفة خطة الإنقاذ طغت على ماليته العامة. ولكن ليس معنى ذلك أن إنقاذ البنوك لم يكن خياراً جيداً أيضاً، كما إكتشفت قبرص: لقد أدت إنهيارات البنوك في الجزيرة إلى إلحاق خسائر فادحة بالمودعين، الأمر الذي نتج منه ضبط رأس المال بصرامة، وقاد في نهاية المطاف إقتصاد البلاد إلى ركود عميق.
إذا طوّرت أوروبا أسواق رأس المال لديها بطريقة أكثر عمقاً، فإنها لن تكون معرّضة في المرة المقبلة إذا عانت من صدمة إقتصادية. على الرغم من أن البنوك ربما لا تزال معرّضة لأزمة، فإنها ستكون أصغر حجماً وبالتالي أسهل على الحكومات والبنوك المركزية والمشرفين عليها إدارتها.
ميزة أخرى لإتحاد أسواق رأس المال هي أنه قد يؤدي إلى سياسة نقدية أكثر فعالية. بعد إفلاس “ليمان براذرز” في العام 2008، شرع مجلس الإحتياطي الفيديرالي الأميركي بالعمل على برنامج طموح من التسهيل الكمي الذي يرجع إليه الفضل جزئياً إلى إعادة الإنتعاش السريع إلى الإقتصاد الأميركي بعد ركود عميق. على النقيض من ذلك، إنتظر البنك المركزي الأوروبي حتى أيلول (سبتمبر) 2014 قبل الشروع في إطلاق برنامج، متواضع إلى حد ما، من التيسير الكمي. إن أحد أسباب هذا التناقض هو أن بنك الإحتياطي الفيديرالي لديه مجموعة غنية من أدوات سوق رأس المال التي يمكن أن يشتريها. ولما كانت أسواق رأس المال في أوروبا ما زالت متخلفة، فإن البنك المركزي الأوروبي ليس لديه الخيارات عينها. هذا لا يعني أن إتحاد أسواق رأس المال سوف يفعل الكثير لمساعدة منطقة اليورو على التعافي من أزمتها الحالية: الأسواق النامية تأخذ وقتاً، والأمر قد يستغرق عشر سنين على الأقل قبل أن تستطيع أوروبا إغلاق الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة.

تحرير رأس المال

حتى لو كانت هناك فوائد واضحة من وجود إتحاد أسواق رأس المال، فإن إنشاءه سيكون تحدّياً. لا توجد سياسة واحدة يمكنها أن تحقق هذا الاتحاد وتجعله حيِّز التنفيذ. بدلاً من ذلك، سوف يحتاج يونكر إلى دفع وتقديم عشرات المبادرات المفصّلة للتعامل مع مجموعة كاملة من أسواق رأس المال، من الأسهم إلى السندات ورأس المال الإستثماري، إلى الظل المصرفي، والتوريق، وهكذا … إن خطة العمل ستكون مماثلة، في هذا المعنى، للخطوات العديدة التي كانت ضرورية ولازمة لإنشاء السوق الموحّدة للإتحاد الأوروبي في العام 1992. وعلى الرغم من أن هناك إتفاقاً واسعاً بين حكومات الإتحاد الأوروبي على الرغبة في مثل هذه الخطة، فإن الشيطان سيكون في التفاصيل. وهذا قد يجلب معارضة ضدها سواء من أصحاب المصالح الخاصة، الذين سيدّعون بأنهم سيتضررون من أسواق أكثر إنفتاحاً، أو من السياسيين الذين يعتقدون أن أسواق رأس المال تشجّع الجشع وهي مصدر عدم الإستقرار المالي.
على الرغم من هذا التعقيد، فمن الممكن تحديد إثنين من المبادئ الرفيعة المستوى اللذين ينبغي أن يوجّهان هذه السياسة. أولاً، يجب أن يكون التركيز على رفع الحواجز القائمة التي تمنع نمو أسواق رأس المال في الدول الأعضاء وتطوير أسواق أوروبية متكاملة. على سبيل المثال، ينبغي أن تُعطى بنوك الظل “جواز سفر” الذي من شأنه أن يسمح لها العمل في 28 دولة في الإتحاد الأوروبي، شريطة أن يتم تنظيمها بشكل مناسب في وطنها. وبالمثل، ينبغي على البلدان الموافقة على التخلص من أي أحكام في نظمها الضريبية التي تشجع الشركات على تمويل نفسها من طريق الديون بدلاً من الأسهم. (في الوقت الحاضر، تميل الدول الأوروبية إلى الدين المميَّز، لأن مدفوعات الفائدة تُعتبر معفاة من الضرائب في حين أن الأرباح ليست كذلك عادة).
إن الأسواق، بالطبع، تحتاج إلى التنظيم. ولكن التوجه الرئيسي لإتحاد أسواق رأس المال ينبغي أن يكون حول تحرير الأسواق، وليس السيطرة عليها. في الواقع، بعض الأنظمة الذي وُضع في أعقاب الأزمة المالية سوف يحتاج إلى مراجعة لأنه يحول دون التنمية الصحية للتمويل غير المصرفي. في وقت سابق من الشهر الفائت، أعلنت المفوضية الأوروبية على سبيل المثال خططاً لتحرير ما يسمى “التوريق” ذات الجودة العالية. هذه السوق هي ميتة تقريباً في أوروبا، على الرغم من كون عمليات التخلّف في هذه العمليات أقل من عشرة في المئة من تلك الموجودة في الولايات المتحدة.
ثانياً، مبدأ التبعية — الذي بموجبه يفترض أن يتخذ الإتحاد الأوروبي إجراء فقط إذا كان يمكنه القيام بذلك بشكل أكثر فعالية من دولة عضو — يجب أن يُحترَم بدقة. على سبيل المثال، لا حاجة لكي يكون هناك مشرف واحد على أسواق رأس المال في الإتحاد الأوروبي. في الوقت الحاضر، تضع هيئة الأوراق والأسواق الأوروبية كتاب القواعد والنظم للسوق الموحدة وتسعى إلى ضمان إشراف متناسق عبر الدول ال28. لكن المشرفين الوطنيين يضبطون وينفذون تلك القواعد والنظم. لذا ينبغي مواصلة هذه السياسة. إن أي محاولة لتركيز السلطة في أيدي هيئة مشرفة واحدة، بصرف النظر عن أي شيء آخر، ستثير ضجة في المملكة المتحدة، والتي قد تكون على خلاف ذلك من المؤيدين المتحمسين لإتحاد أسواق رأس المال.
إن إتحاداً فعّالاً لأسواق رأس المال في الإتحاد الأوروبي سيكون خطوة متقدمة ومهمة. فإنه من جهة سيعطي الإتحاد المزيد من الوسائل للتوظيف والتمويل والنمو، ووسيساعده على مواجهة الصدمات الإقتصادية الكلية، وتمكينه من متابعة سياسة نقدية أكثر فعالية. على سبيل المكافأة، فإنه أيضاً سيخفّض من مخاطر إنسحاب المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي.
يبقى أن جميع الفوائد لن تتدفق فوراً. ولكن على مدى العقود المقبلة، يمكن لإتحاد أسواق رأس المال أن يُسهم إسهاماً كبيراً في التوقعات الإقتصادية للإتحاد الأوروبي. إن اللجان الأوروبية الأكثر فعالية عموماً تُذكر من خلال مبادراتها الرئيسية، سواء السوق الموحّدة، والإتحاد النقدي، أو توسيع الإتحاد الأوروبي ليشمل دول حلف وارسو السابق. سوف تكون لجنة يونكر سعيدة وفخورة إذا إستطاعت أن تسجّل في التاريخ أنها كانت “والد” إتحاد أسواق رأس المال في الإتحاد الأوروبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى