“الدولة الإسلامية” يستعير صفحات من كتاب ماوتسي تونغ

لندن – محمد سليم

حاول الإسلاميون في العالم العربي دائماً، بوعي أو بغير وعي، تكرار النماذج اليسارية من الثورة والتمرد، ولكن من دون إستيراد المحتوى الإيديولوجي. مع صعود تنظيم “داعش”، يستمر هذا النمط بطرق مدهشة ومثيرة للقلق.
كانت جماعة “الإخوان المسلمين” منذ فترة طويلة تذكّر بشكل لافت بالحركات اللينينية. فهي نظّمت هيكلها بشكل خلايا، وأنشأت أحزاباً شقيقة في الخارج، وكانت حذرة بشأن العنف، وشدّدت على خدمات الجمهور، وركّزت نفسها في الطبقات الوسطى الحضرية. عندما كان اليسار العربي قوياً، إعتبر “الإخوان” رجعيين ومتخلّفين. ولكن فيما كان اليسار ينحسر، فقد إفتتن بشكل غريب بأحزاب “الإخوان”. لقد إنجذب بعض اليساريين العرب بالضبط إلى هذه الخصائص الهيكلية – على الرغم من أن المحتوى والقيم الإيديولوجية تتعارضان بصورة متناقضة – التي تعكس المثالية اللينينية.
غالبية الجماعات السلفية الجهادية، على النقيض، قد تصرفت عادة بطريقة تذكّرنا بمجموعات اليسار المتشددة البارزة في ستينات وسبعينات القرن الفائت، مثل فصيل الجيش الأحمر. كلاهما ركّز على الإرهاب والهجمات التي تستهدف أهدافاً رمزية عالية في المناطق الحضرية. إلا أنهما يشتركان بإرتباط عميق بالفوضى السياسية الممسرحة والمنظّمة بعناية مذهلة، حيث يشكّل العنف تقريباً هدفاً في حد ذاته.
ولكن الآن، مع صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” أو “داعش”، فإن جيلاً جديداً من الإسلاميين الراديكاليين يستحضر نظيراً تاريخياً مختلفاً تماماً. في بعض الطرق الحاسمة تبدو طريقة عمل إستراتيجيته مشابهة إلى حد بعيد لتلك التي للحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ التي كانت سائدة في أواخر ثلاثينات حتى أواخر أربعينات القرن الفائت.
وعلى النقيض من جماعات سلفية جهادية أكثر نموذجية مثل تنظيم “القاعدة”، فإن “داعش” يركّز على إستخدام كل الأساليب العسكرية وحرب العصابات التقليدية للإستيلاء والسيطرة على الأراضي والأصول من أجل إنشاء مناطق آمنة للحكم.
هناك الكثير من العوامل المشتركة بين إستراتيجيات “ماو” الثورية ومفهوم أبو بكر ناجي ل”إدارة التوحّش”، التي تسعى الجماعات الجهادية من خلالها إلى إحباط وإستنفاد خصومها. الفكرة الرئيسية الملهمة ل”داعش” هي أولاً خلق و”إدارة” الفوضى، ومن ثم تقديم شكل من أشكال النظام، وبالتالي فرض سيطرته في منطقة معينة.
بعدما تم طرده من المراكز الحضرية في الصين، أنشأ الحزب الشيوعى الصيني أول معقل له “سوفيات” في المناطق الريفية في جيانغشي في أوائل ثلاثينات القرن الفائت. كانت التجربة فاشلة، ولكن التأسيس اللاحق، مباشرة تحت سلطة ماو، لقاعدة ريفية ثانية ومقرها في مدينة نائية في يانان، أثبتت أنها مفتاح النصر في نهاية المطاف.
في يانان، أمّن ماو معقلاً حيث يمكن لقواته الإنطلاق منه بإستمرار لتوسيع المناطق الواقعة تحت سيطرته. إن “داعش” يستخدم أساساً النموذج عينه في مدينة الرقة، العاصمة الفعلية ل”الخلافة”، لنشر مزيد من مخالبه في سوريا والعراق.
بدأ “داعش” أيضاً تشر نموذج إدارته. على سبيل المثال، إن “مناهجه الدراسية” وُضعت أولاً في الرقة، ويجري الآن إدخالها إلى المدارس في الأراضي المكتسبة حديثاً مثل الموصل.
في كلتا الحالتين، إستند السعي إلى سلطة الدولة على هذه المعاقل النائية. كان حكم الحزب الشيوعى الصينى فى يانان قاسياً، ومتزمتاً، لا هوادة فيه، ولكنه كان أيضاً مثالياً ومنضبطاً للغاية.
بالنسبة إلى البعض، يحمل ذلك نداء رومانسياً معيَّناً، كما تفعل “خلافة” “داعش” الجديدة. الدعوة هي في الأساس واحدة: تعالوا وإنضموا إلينا، هاجروا وكونوا جزءاً من “السوفيات”، أو “الدولة” الجديدة. ولكن في كلتا الحالتين هناك أيضاً قلق واضح حول القادمين الجدد، وهذا يعني أن الإنتماءات الطويلة الأمد هي بإستغراب لها الأولوية.
وثمة صدى غريب يتمثل بالقدرة على السيطرة على تصورات نضال التحرر الشعبي من دون أن يكون في الواقع جزءاً كبيراً منه. على الرغم من الدعاية المكثفة العكسية، فإن كلاً من الحزب الشيوعى الصيني وخصومه القوميين فضّلا محاربة بعضهما البعض بدلاً من محاربة الغزاة اليابانيين. وبالمثل، فإن “داعش” – الذي شكل بعبثية بطل التمرد السوري – ونظام الأسد تجنبا المواجهة المباشرة كلما أمكن ذلك.
لقد تلاعب كلٌّ من ماو و”داعش” بمهارة بسحر الروايات المؤطرة في فضاء أسطوري وزمني. كلاهما يدّعي أنه يعمل في خدمة سلطة جميع القوى التي تحدّد النتائج: التاريخ والله على التوالي. كلٌّ منهما يؤطر المجتمع في ثنائية صارخة، والوعظ والتوجيه بالضرورة المطلقة لإستخدام العنف الذي لا يرحم جنباً إلى جنب مع الصبر الذي لا نهاية له.
هناك خلافات بلا حدود بين ماو و”داعش” أكثر من أوجه التشابه، وليست هناك مساواة أخلاقية أو تقارب إيديولوجي على الإطلاق بينهما. “داعش” مهووس بالتوحيد (وحدانية الله) وهو ما يشير إلى الوحدة الأساسية لجميع الخلق تحت السيادة الإلهية. إن المبادئ المركزية لمنطق ماو تسي تونغ تصر أن كل شيء يمكنه، ويجب دائماً، أن يكون مقسّماً إلى ما لا نهاية. كان ماو يحتقر التقاليد. و”داعش” يعظّم الماضي بشكل رومانسي. ماو زرع صورة إجتماعية. “داعش” يصور واحدة مرعبة محسوبة. في معظم السجلات، ليس لدى الطرفين أي شيء مشترك على الإطلاق.
مع ذلك إن الطرق المعروفة التي يستعيرها “داعش”، ويكررها في الواقع من العناصر الرئيسية لمنهجية ثورية ماو، هي واضحة بدقة، لكن أي مقارنة من هذا القبيل غير مناسبة أبداً. إن النظير في البداية يبدو بعيد المنال، ولكن يثبت في الواقع بأنه مقنع ومثير للقلق.
الجيل الحالي من الجهاديين ليس فقط أنه أكثر تطرفاً من أي وقت مضى، فهو إما أنه يقرأ، أو يستعير، قواعد اللعبة الأكثر فعالية التي مورست للتمرد في المجتمعات النامية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى