لماذا سيعود العسكر إلى دهاليز السلطة في بلاد أتاتورك

على الرغم من الضغوطات والمظاهرات الكردية التي تطالب الحكومة التركية بإنقاذ مدينة عين عرب أو “كوباني” بالكردية، فإن الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داود أوغلو لم يقدما على أي خطوة بعد، الأمر الذي طرح علامات إستفهام كثيرة حول دور أنقرة في ما يجري في الأراضي الكردية في سوريا.

الزعيم الكردى عبد الله أوجلان
الزعيم الكردى عبد الله أوجلان

أنقرة – عمر الطبّاع

توقّعت تركيا سقوط الرئيس السوري بشار الأسد منذ إندلاع الإحتجاجات في سوريا للمرة الأولى في العام 2011. رغم ذلك، فقد شعرت بخيبة أمل عند كل منعطف، والآن ليس الأسد وحده الذي هو في ورطة ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان أيضاً. الطريقة التي إستجابت بها أنقرة للعنف عبر حدودها قد قلبت التوازن السياسي الخاص بها وأعادت تمكين جيشها. وقد أدى ذلك أيضاً إلى إيصال عملية السلام التي بدأتها تركيا مع الحركة الكردية إلى حافة الإنهيار.
في 2 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، صوّت البرلمان التركي على السماح لحكومة البلاد بإرسال قوات عبر حدودها الجنوبية الى سوريا للتعامل مع “المخاطر والتهديدات التي يتعرّض لها أمننا القومي على طول الحدود البرية في جنوب تركيا”. وقد فُسِّر هذا القرار على نطاق واسع كإشارة إلى أن تركيا سوف تذهب إلى الحرب مع تنظيم “الدولة الإسلامية” أو كما هو معروف “داعش”. مع ذلك أهملت ديباجة القرار الإشارة إلى إسم “الدولة الإسلامية” أو “داعش”، وبدلاً من ذلك، أشار بعض المعلقين إلى أن القرار يعني أيضاً حزب العمال الكردستاني، الجماعة المتشددة التي خاضت صراعاً ضد الدولة التركية منذ العام 1984. وفي 4 تشرين الأول (أكتوبر) دافع الرئيس أردوغان عن القرار بالقول “إن “داعش” وحزب العمال الكردستاني هما الشيء عينه”. وسأل لماذا لم يعد العالم غاضباً حول أنشطة حزب العمال الكردستاني كما هو بالنسبة إلى “داعش”. في واحدة من سقطاته، أثار الرئيس التركي شكوكاً خطيرة حول نوايا حكومته لإتخاذ الخطوات اللازمة لإستيعاب الأكراد وحزب العمال الكردستاني في إطار المفاوضات الجارية.
يعتقد الأكراد في تركيا وسوريا أن أنقرة لا تزال تقدّم مساعدات سرية إلى “داعش” في جهودها لتطهير المناطق المتاخمة للحدود التركية من السكان الأكراد في سوريا. وقد نشأت هذه الاتهامات أولاً في العام 2012، عندما أعلنت “كردستان السورية” الحكم الذاتي. ورداً على ذلك، أعلنت الحكومة التركية “أننا لن نسمح بأي أمر واقع في سوريا”، ثم أرسلت دعماً إلى “جبهة النصرة”، التابعة لتنظيم “القاعدة” التي قامت بمهاجمة الأكراد. والآن، فيما فرض تنظيم “الدولة الإسلامية” حصاراً على البلدة الكردية عين عرب المعروفة كردياً ب”كوباني”، التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، ودخل بعض أحيائها، بدأت تركيا تواجه إتهامات جديدة بالتواطؤ لعدم التدخل. في أوائل الشهر الجاري، حذّر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، من أن سقوط “كوباني” سينهي عملية السلام في تركيا. وقال جميل بايك، الزعيم المشارك المدني لحزب العمال الكردستاني، أنه إذا كانت أنقرة تنظر إلى جهة أخرى فيما كوباني تسقط، فإن الحرب سوف تشتعل في تركيا. ولاحظ أن “منطقة عازلة (والتي تعتزم تركيا إنشاءها) سوف تستهدفنا. لا يمكننا متابعة [السلام] مع قوة تسحق ما تم إنجازه في كردستان سوريا”.
حتى الآن، على الأقل، لا يزال أردوغان والحركة الكردية متحالفين ضمنياً. وكان الدعم الكردي غير المباشر، في نواح كثيرة، حاسماً بالنسبة إليه. والسلام النسبي الذي حلّ في تركيا منذ وافق حزب العمال الكردستاني على وقف إطلاق النار من جانب واحد في العام الفائت أفاد نظامه. وقد كان مهماً جداً بقاء الحركة الكردية محايدة، مع ميل موال للحكومة، خلال إحتجاجات “جيزي” في 2013. ولو إنضم الأكراد أيضاً إلى تلك التظاهرات لكان أردوغان واجه تحدياً أكثر صعوبة بكثير.
ويأمل أوجلان بأن إستيعاب أردوغان والتوافق معه سيؤتي ثماره – وهو أن الأكراد سوف يحصلون على ما يطمحون إليه: شكل من أشكال الحكم الذاتي للمناطق التي يسيطر عليها الأكراد في تركيا بالإضافة إلى الافراج عنه من السجن. مع ذلك كان هذا المنطق معيباً ومتصدعاً دائماً. بعد كل شيء، فإن العديد من المقربين من الرئيس التركي يعتقد بأن أردوغان لن يكون مستعداً (أو يمكن أن يتسبب بطريقة أو بأخرى) لنقل السلطة الى الاكراد بينما هو يركّز على خلاف ذلك بحصر السلطة بين يديه. يجب على القادة الأكراد أن يعرفوا أن “ديار بكر”، العاصمة غير الرسمية التركية للأكراد، لن تحصل على المزيد من الديموقراطية في حين أن أنقرة تحصل على أقل؛ ومع ذلك، لم يكن لديهم أي خيار سوى أن يضعوا ثقتهم في أردوغان.
الرئيس التركي، من جانبه، لديه مصلحة في إستمرار توتير الأكراد. لكن الإضطرابات في سوريا تقيّد أيدي الطرفين. كان على الأكراد التعامل مع تزايد الغضب بين جيلهم الأصغر سناً، الذين أبدوا سخطاً على ما يرونه تواطؤاً تركياً في الهجوم على الأكراد السوريين. وهذا ما يدفع القيادة الكردية إلى إتخاذ موقف أكثر راديكالية. وفي الوقت عينه، إن تزايد إنعدام الأمن على الحدود الجنوبية لتركيا يدفع أردوغان إلى أن يكون أكثر إنتباهاً لآراء وتوصيات الجيش.
في 30 آب (أغسطس) من هذا العام، أعلنت القيادة العسكرية العليا التركية علناً عن عدم إرتياحها لعملية السلام. الجنرال نجدت أوزيل، رئيس هيئة الأركان العامة، عبّر عن عدم رضاه لأنه لم يُستشَر من قبل الحكومة. وذكّر البلد بأن خطوط الجيش الحمر – وحدة وسلامة أراضي البلاد – لا تزال من دون تغيير. وتعهّد بأن القوات المسلحة سوف “تتصرف وفقاً لذلك” إذا تم تجاوز تلك الخطوط الحمراء. كانت رسالة أوزيل مبطّنة للحكومة مفادها بأن الحكم الذاتي الكردي لن يكون مقبولاً.
قبل تصويت البرلمان التركي للسماح للقوات العسكرية بالتدخل في سوريا والعراق، قدم أوزيل وقادة الجيش والقوات الجوية بياناً موجزاً- وهو الأول من نوعه منذ سنوات – إلى الحكومة. طلب الجنرالات أن تتحرك الحكومة بسرعة لإنشاء مناطق عازلة في أربع نقاط في سوريا – واحدة منها في مدينة كوباني الكردية – من أجل الحفاظ على المصالح الأمنية لتركيا. وقالوا أن هذا ينبغي القيام به حتى لو لم توافق الولايات المتحدة. وتم نشر تفاصيل البيان في الصحيفة الرئيسية الموالية للحكومة “يني شفق”، والتي لاحظت بأن “الرئاسة والجيش والحكومة في الوقت الحاضر يتحدثون بصوت واحد”.
آخر مرة وجد الجيش التركي نفسه في موقف مماثل لصياغة سياسات حكومة مدنية كان خلال تسعينات القرن الفائت، عندما تصاعدت حدة الحرب بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. ومن المقرر الآن أن يمارس السلطة مرة أخرى مع تزايد التهديدات الأمنية. وكان من المفترض أن يكون حزب العدالة والتنمية الحاكم دجّن الجيش من طريق سجن المئات من الضباط وبتأكيده سلطة الحكومة المنتخبة في مجلس الأمن القومي، الذي كان يهيمن عليه جنرالات الجيش. وكان الضباط المسجونون أطلق سراحهم في وقت سابق من هذا العام بعدما قضت المحكمة الدستورية في البلاد أن حقوقهم قد إنتهكت. ربما في محاولة لصنع عصير الليمون من الليمون مع نمو قوة الجيش، فقد وصل أردوغان إلى قناعة بأنه يحتاج إلى دعم عسكري حاسم لمساعدته على إجتثاث أنصار حليفه سابقاً الذي تحول عدواً، رجل الدين ومقره الولايات المتحدة فتح الله غولين، من داخل بيروقراطية الدولة.
وعلى أية حال، إن أردوغان يميني، لذا ليست خطوة كبيرة أو رهيبة بالنسبة إليه لتبني وجهات نظر الجنرالات في القضية الكردية. تاريخياً، كانت الحكومات اليمينية المنتخبة ديموقراطياً ميالة مثل الجيش للحد من الحريات. في ضوء ذلك، فإن التحالف المناهض للاكراد المؤلف من أردوغان والجنرالات هو أحدث تأكيد على الهوية القومية المحافظة في صميم الجمهورية التركية؛ حكومات يمينية مدنية وعسكرية على حد سواء قد ساهمت فيها.
لكن آثار الإضطراب السوري يمكن أيضاً أن يكون حافزاً لإعادة الإصطفاف السياسي الذي من شأنه أن يضع تركيا على مسار مختلف وأكثر ديموقراطية. بالنسبة إلى الأكراد، إن إستئناف الأعمال العدائية هو طريق مسدود: إنهم ببساطة لا يمكنهم هزيمة تركيا. البديل للحركة الكردية هو بالتالي إستكشاف إمكانية التحالف مع حزب الشعب الجمهوري. وقد برز تحالف الأمر الواقع فعلياً خلال التصويت على السماح للتوغل العسكري في سوريا والعراق. ضد المعسكر المؤيد للحرب – الذي شمل حزب العدالة والتنمية وحزب العمل القومي المعادي للأكراد – وقف إئتلاف مناهض للحرب يتألف من حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الديموقراطي الموالي للأكراد.
يتشارك حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الديموقراطي إيديولوجية ديموقراطية إجتماعية مشتركة، ولكنهما ينقسمان أيضاً بالنسبة إلى القومية. أصبح حزب الشعب الجمهوري أكثر إتساقاً إجتماعياً ديموقراطياً تحت قيادة كمال كيليكداروغلو، ولكن لا يزال لدى هذا الحزب، الجناح الوطني التركي الصاخب الذي لن يكون مرتاحاً مع إئتلاف ديموقراطي إجتماعي تركي كردي واسع. ومع ذلك، فإن النتائج القوية التي حققها مرشح حزب الشعب الديموقراطي صلاح الدين دميرتاز خلال الإنتخابات الرئاسية الأخيرة قد تغير بعض العقول. على الرغم من أن الحزب المؤيّد للاكراد لا يجذب عادة أكثر من ستة في المئة من الأصوات على الصعيد الوطني، تلقّى دميرتاز ما يقرب من عشرة في المئة. وقد فعل ذلك من خلال تسليط الضوء على المواضيع الليبرالية واليسارية التي لقيت صدى لدى الليبراليين في المناطق الحضرية والدوائر الديموقراطية الإجتماعية التركية والكردية.
إن حزب الشعب الديموقراطي وحزب الشعب الجمهوري يجريان عملية إستكشاف إمكانية إيجاد شكل من أشكال التعاون في الإنتخابات البرلمانية المقبلة المقرر إجراؤها في 2015. ولكي يحدث ذلك، على كل واحد من الطرفين أن يخضع إلى تغييرات كبيرة والنأي بنفسه عن قيود القومية. هذه هي، في جميع الإحتمالات، ضربة طويلة، وخصوصاً في حالة حزب الشعب الجمهوري. ولكن إذا إستطاع الديموقراطيون الإجتماعيون الأتراك والأكراد تقديم جبهة موحّدة، فإن تركيا ستحصل على ما إفتقرت إليه منذ سبعينات القرن الفائت، بديل ديموقراطي إجتماعي قوي من اليمين المهيمن الإستبدادي السلطوي.
للأسف، نظراً إلى تاريخ تركيا، فمن المرجح أن يؤدي تزايد إنعدام الأمن وتصاعد الصراع إلى ترسيخ الإستبداد أكثر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى