ثلاث شركات طيران خليجية تسيطر على الأجواء العالمية

كانت شركة طيران الشرق الأوسط –الخطوط الجوية اللبنانية في ستينات وأوائل سبعينات القرن الفائت أهم شركة طيران عربية من حيث نوعية الطائرات وحسن الخدمات والأمان، إلى أن إشتعلت الحرب في بلد الأرز، الأمر الذي أدّى إلى تراجع عز الشركة وهيمنتها الشرق أوسطية. اليوم يبدو أن شركات الخليج الجوية حلّت مكانها وتجاوزتها وخلقت مكانة دولية لم تعرفها أي شركة طيران عربية من قبل، حيث فتح ذلك أعين منافساتها في الغرب.

الخطوط الجوية القطرية: فصلت درجة رجال الأعمال عن الدرجة الإقتصادية
الخطوط الجوية القطرية: فصلت درجة رجال الأعمال عن الدرجة الإقتصادية

دبي – عمّار الحلّاق

أي نبيذ تريد؟ “شيراز أم شاردونيه؟”، سألتني مضيفة الطائرة، ملوِّحةً بزجاجة لكلّ منهما. كانت طائرتنا التابعة لطيران “الإمارات” غادرت لتوّها مطار دبي متجهة إلى لندن. نَظرتُ من النافذة ولاحظتُ في الأسفل مدينةً مترامية الأطراف وسط مشهد خشن. وأفادتني خريطة التلفزيون أمامي بأننا كنا نحلّق فوق مدينة “شيراز” في إيران.
“شيراز، من فضلك”، أجبت المضيفة السائلة، تعاطفاً مع أولئك الناس الذين يقطنون تلك المدينة، والذين لم يُعرض على كثيرين منهم خياراً مماثلاً.
الواقع أن الخليج العربي، المحافظ إجتماعياً، ليس منطقة معروفة عموماً بتدفق النبيذ بحرية، أو على الأقل حتى وقت قريب، بالجانب الأنيق والممتاز للسفر الجوي. وبالتالي يأتي الصعود المتواصل لشركات الطيران المملوكة للدولة بمثابة مفاجأة، وخصوصاً إذا أخذنا في الإعتبار ميل منطقة الشرق الأوسط إلى الإضطرابات السياسية حالياً. الواقع أن المديرين التنفيذيين في شركات “الإرث” في العالم المتقدّم – الخطوط الجوية البريطانية، و”لوفتهانزا”، و”إير فرانس”، و”كانتاس”، وأميركان إيرلاينز” و”يونايتد-ديلتا إيرلاينز” – يعتقدون بإن منافسة شركات الطيران التي تنطلق من الخليج العربي تسبب لهم فعلياً قدراً كبيراً من “عسر الهضم”، وربما “القرحة”. لقد زادت شركات الطيران الخليجية بشكل مطرد نقاط توجهها، وجذبت الركاب، وأغرت طواقم كبيرة من الطيارين والمضيفين والمضيفات، في حين إستفادت من قوتها الشرائية للمطالبة بنجاح بتخفيض أسعار شراء طائراتها وفرض تصاميم خاصة مفضَّلة لديها على أحدث طائرات “بوينغ” و”إيرباص”.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، تحشد شركتان مملوكتان للدولة أسطولين ضخمين من أحدث الطائرات التي تزيّنها بالخط العربي؛ وفي قطر تحشد شركة طيران مملوكة للدولة بدورها أيضاً أسطولاً ضخماً آخر من الطائرات الحديثة. خلال هذا الشهر، سوف تنقل هذه الناقلات عشرات الآلاف من الحجاج إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج في مكة. كما أنها ستسيّر أيضاً مئات الرحلات الجوية إلى خارج المنطقة في المواعيد المحدّدة كالمعتاد. إن شركات الطيران هذه، أو ما يسمى الثلاث الكبرى – “طيران الإتحاد” في أبوظبي، و”طيران الإمارات” في دبي، والخطوط الجوية القطرية المجاورة – قد أصبحت بالفعل العلامات التجارية العالمية الكبرى المرتبطة بالضيافة والراحة والسلامة. وكان وصولها بالنسبة إلى صناعة الطيران كما كان وصول البارجة المدرَعة البحرية بالنسبة إلى السيادة البحرية: تغيير اللعبة.

الإنطلاقة

تُدين شركات الطيران الخليجية بنجاحها الأخير إلى مجموعة من العوامل، بما في ذلك الجغرافيا، وتدخّل الدولة، وتكنولوجيا الطائرات الجديدة، والقوى الإقتصادية التي تحوّل رياح السوق بإتجاهها.
بدأت القصة قبل نحو عقدين من الزمن، في العام 1985، مع شعور ولي عهد دبي آنذاك، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بالإحباط جرّاء عدم قدرته على جذب ما يكفي من الحركة الدولية إلى مطار دبي المتواضع، لذا قرّر إطلاق شركة طيران خاصة به. الشيخ محمد، الآن حاكم دبي ونائب رئيس دولة الإمارات، إستأجر يومها طائرة من الخطوط الجوية الباكستانية الدولية، وتبرّع بطائرة بوينغ 727 من أسطول أسرته الخاص؛ وكلّف عمه، الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم، تشغيل العمليات، ووظّف موريس فلاناغان، وهو مدير تنفيذي بريطاني متقاعد من شركة الطيران البريطانية، كمستشار له. ثم أعطى الرجلان 10 ملايين دولار كرأسمال أساسي، ونجحا أكثر مما توقّع أو يحلم أي شخص.
ربطت أول رحلات “طيران الإمارات” مدينة دبي بكراتشي. وبحلول العام 1990، كانت الشركة تطير إلى 21 مدينة، بما في ذلك فرانكفورت ولندن وسنغافورة. وبعد سنة، أعلن الشيخ أحمد عن إقتراح مثير، شراء سبع طائرات “بوينغ 777s” بقيمة 64.5 مليون دولار. وفي العام 2001، مستفيداً من الذعر عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، إستطاع تأمين خصومات (حسومات) كبيرة على 58 طائرة، بما في ذلك “إيرباص A380” ذات الطابقين وهي أكبر طائرة ركاب في العالم.
حالياً تُعتبر “الإمارات” رابع أكبر شركة طيران دولية في العالم. لديها 227 طائرة تطير إلى 143 مدينة، معظم خطوطها مربح ومتنوع لمسافات طويلة. من حيث عدد المسافرين جواً تحتل مرتبة أعلى من الخطوط الجوية البريطانية، ولكنها وراء “لوفتهانزا” وناقلات الموازنة “ريان إير” و”إيزي جيت”. وفي العام الفائت، كانت “الإمارات” الأعلى مرتبة بين الشركات الجوية في العالم من حيث طيران الركاب بالكيلومترات جواً.

كيف يمكن لشركة جديدة منخفضة الهامش أن تكبر بهذه السرعة وتتخذ مثل هذا الموقف القائد؟

الواقع أنه لا يمكن إنكار الميزة الجغرافية للمنطقة التي سمحت جيولوجيتها “المحظوظة” لمنطقة راكدة متخلّفة في خمسينات القرن الفائت لكي تصبح بسرعة بوتقة الطاقة العالمية. تتواجد شركات الخليج الثلاث الكبرى في بقعة جيّدة مناسبة للحركة الجوية، وقريبة ومنفرجة على المسار المباشر الذي يربط المراكز السكانية الكبرى في أوروبا وآسيا. إن ثلثي سكان العالم يعيشون في رحلة تستغرق ثماني ساعات، ويقيم ما يقرب من 90 في المئة من الإنسانية داخل نطاق طائرات “إيرباص A380” أو “بوينغ 777” المغادرة من الخليج. من هذا المنطلق، تقف ناطحات السحاب في الدوحة ودبي وأبو ظبي في مركز (وسط) العالم.
وتُظهر الدراسات أن الرحلات الجوية التي تستغرق نحو سبع ساعات هي الأكثر ربحية للشركات الكبيرة. أما بالنسبة إلى المسافات القصيرة فإن سوق الخدمات تفضّل شركات طيران الموازنة. إن الفترة الأطول ووزن الوقود الإضافي يؤثران في الكفاءة. وبالمصادفة، تقع كل أوروبا وجزء كبير من آسيا ضمن هذا النطاق المثالي: خمس إلى تسع ساعات من الخليج.
وتُبرز مقارنة خريطة الطرق ميزة تنافسية لمنطقة الخليج. تقع فرانكفورت ولندن إلى الشمال، في نهاية بعيدة من تدفق حركة المرور السائد في الجنوب الشرقي والشمال الغربي. وتجلس هونغ كونغ وسنغافورة بعيداً في النهاية الجنوبية الشرقية من هذا التدفق. كما أن محاور الولايات المتحدة هي ببساطة في الموقع الخطأ من العالم.
بالنسبة إلى الأميركيين المتجّهين الى آسيا، فإنه من المنطقي أن يتوقفوا في أبو ظبي، أو الدوحة، أو دبي بدلاً من الإلتفاف شمالاً إلى أوروبا. ونظراً إلى الأعداد المتزايدة من المدن الأميركية التي تخدمها شركات الطيران الخليجية، فإن محلّلين مثل كريس تاري، ومقره لندن، يتوقع بأن تتحول خطوط سير أميركا -آسيا الشمالية من التوقف في مطارات أوروبا إلى التوقف في تلك المطارات الموجودة في الخليج. لأسباب مماثلة، فإن شركات الطيران الخليجية تجتذب الركاب الأوروبيين القاصدين أوستراليا وجنوب شرق آسيا. وهي تستعد أيضاً لملء الفراغ في حركة المرور على طرق “السلع” من شمال شرق آسيا إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية. إن محاور شركات الطيران حاملات “الإرث” هي ببساطة موجودة في البقع الخاطئة. “من الصعب سحب خطوط سير الآخرين وركابهم عندما تكون بعيداً في نهاية خريطة خطوط سير الجميع”، يقول ريتشارد أبولافيا، محلّل صناعة الطيران مع مجموعة “تيل” في واشنطن.
ما هو أكثر من ذلك، أن مناطق في العالم التي تخدمها شركات الطيران الخليجية بطريقة أفضل، مثل دول أفريقيا وشمال شرق آسيا، والهند، تشهد أيضاً أسرع نمو إقتصادي في العالم. إن الأمر ليس مجرد خط طيران وعدد ركاب فحسب، ولكن هناك تجارة وإستثمار وإهتمام سياسي كلها تتحول وتتجه نحو الأسواق الناشئة. وعلى سبيل المقارنة، إن شركات الطيران في البلدان المتقدمة تبدو راكدة، مع بنية تحتية مصابة بالشيخوخة بُنيت لعصر سابق، وتكاليف عالية موروثة بشكل فوائد صحية ومعاشات تقاعدية.

في هذه الصناعة لفترة طويلة

الواقع أن الجغرافيا والديموغرافيا لا ترويان القصة بأكملها. بلدان أخرى مع الميزة الموقعية عينها، مثل إيران واليمن، لا تتنافس من أجل الحصول على حركة النقل الجوي في العالم الغني. وبعض شركات الطيران الخليجية، مثل تلك الموجودة في البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية، وربما سلطنة عُمان، من غير المرجّح أن يتبع النهج عينه. ونظراً إلى إنتشار شركات الطيران المتنافسة، فإن بعضها قد لا يستطيع حتى البقاء على قيد الحياة. فشركة “طيران الخليج” الخاسرة، التي كانت مملوكة من مجموعة من الحكومات الإقليمية، عانت ضائقة مالية في البحرين وأغلقت أبوابها.
وما يميِّز الشركات الثلاث الكبرى هي إستثماراتها في البنية التحتية في توقيت جيّد. قبل بضعة عقود، كان مطار دبي مهبطاً واحداً ملوّثاً تفوح منه الروائح، ويحوم حوله الذباب، إلى جانب كوخ مفتوح تفوح منه رائحة عرق مسؤولي ختم جوازات السفر باليد. المطار الآن يستقبل 66 مليون مسافر سنوياً، ويتنافس مع مطار هيثرو في لندن باعتباره المطار الأكثر إزدحاماً في العالم. لقد راهنت دبي بشكل كبير على طائرة “إيرباص A380” ذات الطابقين، حيث صممت محطة بأكملها لهذه الطائرة المتثاقلة التي تسبب في عرقلة حركة المرور في المطارات القديمة. وتنطلق من دبي ما يقرب من 300 رحلة “إيرباص A380” أسبوعياً، أكثر بكثير من أي مكان آخر.
الدوحة، في الوقت عينه، حاولت جذب المسافرين النخبة من خلال بناء بنية تحتية منفصلة لركاب درجة رجال الأعمال والدرجة الإقتصادية- بما في ذلك محطات ومحلات تجارية منفصلة – بحيث أن المجموعتين ليس من الضروري أن تختلطان على الإطلاق. من جهتها توجهت أبوظبي إلى الركاب المتجّهين الى الولايات المتحدة بتقديم خدمة الحصول على الفيزا الأميركية وتسهيل سفرهم، في حين أن “طيران الإتحاد” تدرّب 500 من موظفيها بأن يكونوا “مربين ومربيات على الطائرة” للترفيه عن الأطفال.
يزعم مدراء شركات الطيران المنافسة بأن ميزة شركات الطيران الخليجية بُنيت على الدعم غير العادل للوقود أو مزايا أخرى. في حالة “طيران الإمارات”، من الأرجح القول أن شركة الطيران لا تحصل على أي دعم من الدولة غير النقد، والطائرات، والمرافق التي منحها لها الشيخ محمد في أيامها الأولى. في الواقع، في كثير من الأحيان يتدفق المال في الإتجاه الآخر: تدفع “الإمارات” إشتراكات دورية لموازنة الحكومة. مع ذلك، فقد إعتمدت شركات الطيران الخليجية الأخرى بعض الأحيان على دعم مالي من الدولة لتغطية الخسائر. في شهر أيار (مايو) الفائت، أفادت تقارير متطابقة بأن “الإتحاد” تلقت قرضاً ب3 مليارات دولار من دون فوائد من الأسرة الحاكمة في أبوظبي.
وتقدم الدولة دعماً أكثر أهمية في نواح أخرى، مع ذلك. تستفيد شركات الطيران الخليجية من سياسات هجرة عمالة مؤاتية، التي تخفّض التكاليف بطرق غير متوفرة لمنافساتها. ولما لا يوجد حد أدنى للأجور في الخليج، فإن الشركات الجوية توظّف طواقم المقصورة وطواقم الأرض من بلدان مثل إثيوبيا والهند، وتدفع رواتب هؤلاء الموظفين على أساس أسعار الصرف السائدة في بلدانهم الأصلية. وتستفيد شركات الطيران الخليجية أيضاً من عدم وجود ضرائب في بلدانها.
من جهة أخرى، تساعد أسعار النفط المرتفعة شركات الطيران الخليجية بطريقتين: فهي تزيد من تدفق السيولة في المنطقة والتي بدورها تسمح للدولة بالإستثمار في البنية التحتية للمطارات؛ وتترجم إلى إرتفاع تكاليف الوقود عالمياً، الأمر الذي يضيف مزايا كفاءة شركات الطيران الخليجية ويضعها في وضع جيد وأفضل بالنسبة إلى منافساتها.
وثمة عامل آخر يقود إلى ما بين 15 و20 في المئة من النمو السنوي لشركات الطيران الخليجية الثلاث ويتمثّل في القدرة على إكتساب حقوق الهبوط المرغوبة في بعض من أكثر المطارات إزدحاماً في العالم، والتي يعزوها المحلل “أبولافيا” إلى مشترياتها الضخمة من طائرات “بوينغ” و”إيرباص”. وقد إستفادت شركات الطيران الخليجية بشكل كامل من التمويل المؤاتي من بنك التصدير والإستيراد الأميركي، الذي وفّر لها 8.3 مليارات دولار ضمانات قروض في العام الفائت التي تستخدمها “بوينغ” لتسهيل مبيعاتها إلى العملاء في الخارج. وإذا نجح الجمهوريون في الكونغرس في جهودهم لمنع إعادة التفويض الممنوح إلى البنك، فإن شركات الطيران الخليجية، وعملاء “بوينغ” الآخرين من الشركات الدولية، سوف تضطر إلى التحوّل إلى أماكن أخرى للحصول على التمويل. وفي أوروبا، إشترت “طيران الإمارات” طائرات من طراز “إيرباص A380″ على وجه الخصوص ليتم الحفاظ على إنتاج تلك الطائرة الخاسرة واقفاً على قدميه، لذا كافأت السلطات هناك شركات الطيران الخليجية ب”فسحات” جديدة للهبوط في مطاراتها. يقول المحلل “أبولافيا” أن هذه الفوائد مكّنت ا”لإمارات” من جذب وسحب كثير من الركاب من شركات أوروبية أمثال الخطوط الجوية الفرنسية / “كي أل أم”، ولوفتهانزا، والخطوط الجوية البريطانية. إن “أوروبا تدعم حبل الطيران الذي تستخدمه “الإمارات” لشنق شركات الطيران الأوروبية”، كما يكتب.
في الوقت عينه، إن دول الخليج، وخصوصا دبي – الإمارة الوحيدة التي تعيش مرحلة ما بعد النفط في الشرق الاوسط – لديها على المحك والتحديات أكثر من نظرائها في أماكن أخرى. إن قطاع الطيران يشكّل قطعة رئيسية في إستراتيجياتها الإقتصادية. فالسياحة في دبي –والإستثمار الذي يحرّكها— سوف ينهاران من دون مركزها الجوي المحوري. وهذا هو السبب في تعيين الشيخ أحمد، العضو في العائلة الحاكمة، لإدارة “الإمارات” مباشرة إضافة إلى إدارته سلطة الطيران المدني في دبي، حيث يعمل بجهد وتأكيد للحصول على ما يحتاجان إليه.
هل يمكن لشركات الطيران الثلاث مواكبة الوتيرة؟ هناك عاملان يمكن أن يحدّان من هذا الاتجاه. إنخفاض في أسعار النفط العالمية يمكن أن يقوّض ميزة تكلفتها. وهذا العامل يتفاقم مع وصول طائرات بعيدة المدى مثل “بوينغ 787” التي تصل إلى الأسواق النائية – مثل لندن وسيدني – من دون توقف. ومع ذلك، فإن معظم الدلائل تشير إلى إحتمال إستمرار الوتيرة عينها بالنسبة إلى شركات الطيران الخليجية ولو على المدى القصير.

إربطوا أحزمة الأمان

هناك، بالطبع، قضايا أوسع نطاقاً وراء ما يشبه الإطلاق المتزامن للمنافسة التجارية العربية مع الغرب. وبصرف النظر عن المكاسب القليلة من الهيبة والنفوذ، فإن الوصلات الجوية القوية الى العالم ضرورية لإستراتيجيات التنمية في دول الخليج. كما برهنت دبي ما بعد النفط، إن شركات الطيران هي من العناصر الأساسية لأكبر الخطط في دول مجلس التعاون لتنويع إقتصاداتها والتقليل من إعتمادها على عائدات الوقود الأحفوري.
من دون أساطيلها الجديدة البرّاقة، ستكون دولة الإمارات العربية المتحدة غير قادرة على إستضافة المؤتمرات الإقتصادية والسياحية والدورات الرياضية، وملء المنتجعات الشاطئية فيها، أو جذب لاعبين ومستثمرين لتنمية قطاع الخدمات المالية. وسوف تناضل أبوظبي لإستضافة سباقات “الفورمولا 1” أو في جلب الزوار لمتنزه عالم “فيراري”. ومن جهتها ستواجه قطر صعوبة في إستضافة القمم الديبلوماسية والمؤتمرات الثقافية والأممية.
علاوة على ذلك، إن السفر جواً هو ضرورة في الخليج أكبر من أي مكان آخر. الجغرافيا عينها التي توفّر ميزة للرحلات الطويلة هي معادية للسفر براً. إن دول الخليج تتمدّد على شبه جزيرة طويلة، يطوقها البحر والرمال. ويبدو السفر أكثر صعوبة عبر حدود نزقة، وحروب أهلية، وعدم وجود شبكات سكك حديدية وخيارات برية أخرى.
يجلب المسافرون معهم محافظ نقودهم، ودبي على وجه الخصوص ميّزت قطاع طيرانها بخلق شركات مربحة جانبية. فإنها تشتغل في تجارة الماس. وتعمل في سياحة البحر والرمال، الأمر الذي يفرض إستضافة الأوروبيين الذين يحبون شرب الخمر والرقص. وتقيم علاقات تجارية ودية ومربحة للغاية مع إيران، على الرغم من جذبها إستياء من الجيران والحلفاء. وقد تم تسجيل ما يقرب من 10،000 شركة إيرانية في دبي، وأكثر من 300 رحلة تقوم أسبوعياً بين دبي وإيران، وكثير منها تقوم بها “الإمارات”. خارج طهران، يمكن القول أن دبي أهم مدينة بالنسبة إلى الجمهورية الاسلامية. وإفتتحت وزارة الخارجية الأميركية ما يسمى “مكتب الوجود الإقليمي لإيران” –مهمته تتركز حصراً على الجمهورية الإسلامية– في دبي للاستفادة من دورها كمركز إقليمي.
تخيَّل، للحظة، أن شركات الطيران المملوكة للدولة في الخليج سمحت للمستثمرين الأجانب بشراء أسهم فيها. أحد أول الأسئلة الذي قد يسأله مستثمر محتمل سيكون متصلاً بآثار الإضطرابات الإقليمية في الأعمال. هل أن الحرب الأهلية في العراق وسوريا والثورة في اليمن وليبيا، أو اضطرابات “الربيع العربي” في البحرين تؤثّر في الأعمال؟ من خارج المنطقة، تبدو مثل هذه الأحداث بالتأكيد تهديداً. ولكن من داخل المنطقة، فهي تأخذ منحى مختلفاً. كانت الاضطرابات القريبة لفترة طويلة نعمة للإقتصادات الأكثر إستقراراً في الخليج. عندما كانت السياحة في مصر تعاني وتعرف جفافاً في عدد الزوار الأجانب، كانت الفنادق في دولة الإمارات وسلطنة عُمان مكتظة بالنزلاء. عندما تقع إيران فريسة لثورة أو فرض عقوبات، فإن رجال أعمالها يحوّلون عملياتهم إلى منطقة الخليج. إن حروب صدام حسين مع إيران والكويت صنعت “مليونيرات” في دبي، نافيةً اللاجئين المتعلمين وأعمالهم. وعندما أرسل “البنتاغون” حاملتي طائرات إلى الخليج، فإن البحرية الاميركية أخذت تموينها من ميناء جبل علي في دبي. وبعبارة أخرى، لقد خلق الإستقرار السياسي في دول الخليج الملاذات الآمنة للإستثمار الأجنبي.
وقبل بضع سنوات، سألت عيسى كاظم، رئيس بورصة دبي، كيف يمكن أن يتأثر مناخ الأعمال في البلاد جرّاء هجوم إرهابي؟ لم يكن ذلك أحد أعلى مخاوفه. “لم نعرف فترات مستدامة من السلام والهدوء في المنطقة. لكن دبي لا تزال هنا ونحن ننمو. ما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث؟”، قال.
ينظر ساكن دبي إلى الإضطرابات الإقليمية بالطريقة عينها التي ينظر فيها ساكن فلوريدا إلى تمساح في فناء منزله. ما يمكن أن يُنذر بالخطر في سياق واحد هو جزء من المشهد في بلد آخر. لكن هذه الأمور يمكن أن تصبح أكثر تعقيداً فيما المسافرون ينمون ويصبحون أكثر إعتماداً على ناقلات الخليج ومطاراته. الصراعات التي تؤثر في أدائها أو جدواها يمكن تؤدي إلى هزّ الإقتصاد العالمي.
الآن، تساهم شركات الطيران الخليجية في تعزيز كفاءة السفر الدولي، وبالتالي توفير زيادة في الإنتاجية العالمية. وفي الوقت عينه، فإن الاقتصاد العالمي ينمو ليصبح أكثر عرضة للشرق الأوسط، معتمداً ليس فقط على سلع الطاقة، ولكن أيضاً على السفر والخدمات اللوجستية. في المدى الطويل، ربما هو شيء جيد للجميع إذا أصبح الشرق الأوسط أكثر تكاملاً مع الإقتصاد العالمي. في المدى القصير، مع ذلك، يمكن أن تكون هناك سقطات. بعد كل شيء، لم يكن زعماء الخليج دائماً الحكام المسؤولين عن أزمات النفط. ولكن إذا كان لا مفر من حدوث هدوء في بقع الإضطراب في نهاية المطاف، فهناك سبب إضافي للأمل بحصول هذه المنطقة على ترقية مجانية ومستقبل واعد أكثر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى