السينما المغربية في مأزق !

على الرغم من أن السينما المغربية بدأت منذ أمد طويل، فإنها لم تعرف النجاح التي طمحت إليه، الأمر الذي أدّى إلى تراجع الإستثمار فيها وإقفال بعض دور العرض السينمائية وشركات التوزيع. ولكن هل هناك أمل في إعادتها إلى الحياة؟

ليلى الحديوي:  نجمة فيلم "سارة"
ليلى الحديوي:
نجمة فيلم “سارة”

بيروت – جوزف قرداحي

لا تختلف نشأة السينما المغربية وبداياتها عن نشأة وبدايات السينما المصرية إلا من حيث الشكل، طالما أن العرّاب واحد والمؤسس واحد ويحمل توقيعاً واحداً هو إسم شركة “الأخوان لوميير للإنتاج السينمائي”، التي أوفدت إلى المملكة المغربية في العام 1896مجموعة من الفنيين والتقنيين من أجل تصوير عدد من الأفلام السياحية القصيرة، بطلب شخصي من سلطان المغرب مولاي عبد العزيز بن الحسن الذي تولى السلطة في العام 1894 وتخلّى عنها تحت ضغوط الإحتلال الفرنسي في العام 1908. وقد عُرف عن مولاي عبد العزيز الذي تولى السلطة خلفاً لوالده مولاي الحسن الأول قبل أن يبلغ الرابعة عشرة من العمر، حبه وشغفه بالفنون، ولا سيما إنبهاره بالإبتكار الجديد في عالم السينما للأخوة لوميير الذي أحدث ثورة صناعية سرعان ما تناقلها الناس وأصبحت حديث المجتمعات المخملية في ذلك الوقت. وعلى الرغم من حداثة سنه، فقد أراد السلطان مولاي عبد العزيز أن يجعل من فاس أول عاصمة عربية تحتفل بافتتاح أول صالة للسينما في قصره الملكي، الذي شهد عرض باكورة أفلام الإخوة لوميير عن المغرب في العام 1897.
هذا الإنجاز الفني العظيم الذي حققه السلطان اليافع، وعلى الرغم من أهميته، إلا أنه إنعكس سلباً على أدائه في إدارة شؤون المملكة، وشغلته حياة الرفاهية عن مهامه الأساسية، فغرق في المجون وإنفاق المبالغ الطائلة على الفنانات المستقدمات من الغرب، الأمر الذي أثار غضب الشعب، فقامت المظاهرات ضده بتحريض من الإستعمار الفرنسي الذي بدأ يُحكم سيطرته على المملكة، ولا سيما بعدما أغرقها السلطان اليافع بالديون نتيجة إفتقاره إلى الخبرة والحنكة، حيث يصفه صديقه المصور الفرنسي غابرييل فير في كتابه “في صحبة السلطان” الصادر بالفرنسية في العام 1905 بأنه: “كان مجرد مراهق كبير بدنياً، طويل القامة له ملامح شخص قوي من دون أن يتمتع بالعضلات الضرورية لرجل مكتمل الذكورة”.
يكشف المصوّر الفرنسي فير في كتابه حقائق كثيرة عن السلطان المغربي مولاي عبد العزيز بن الحسن وعن المغرب قبيل فترة الإستعمار الفرنسي. فملازمته المتواصلة للسلطان أتاحت له فرصة التعرف على كل أسرار المملكة وخفاياها، وبحكم عمله في البلاط المغربي كمصوّر خاص لمولاي عبد العزيز فقد حظي بصداقة متينة مع السلطان، لا سيما أن المصور الفرنسي الذي جاء من مدينة ليون الفرنسية، كان قد درس الصيدلة، قبل إنتقاله إلى التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، في وقت كان التصوير إختراعاً جديداً، حيث إنضم إلى إستوديو الأخوين لوميير، الذي اوفده إلى المملكة المغربية ضمن رحلة حول العالم للتعريف بالفن السينمائي الذي بهر السلطان المراهق وأسره، فاستبقى المصوّر الفرنسي إلى جانبه طوال فترة حكمه، حيث تلقى على يديه تقنيات التصوير الفوتوغرافي. وهذا الأمر شجع السلطان المأخوذ بهذا الفن على تكليف السينمائي الفرنسي مهمة إنشاء مختبر تقني لتحميض وتظهير الأفلام داخل البلاط السلطاني، وبدأ مولاي عبد العزيز يبرع في التقاط الصور والتفنن بها، حيث بات فن التصوير الشغل الشاغل للبلاط بأكمله، وأكثر الهوايات إمتاعاً بالنسبة إلى السلطان الشاب، ولكن في المقابل بدأ عرش السلطنة يهتز تحت قدميه، وبدأت المؤامرات الخفيّة تُحاك ضده وهو آخر من يعلم. ويكشف غابرييل فير في كتابه: “أنّ السلطان مولاي عبد العزيز بن الحسن كان لا يعلم إلا الشيء القليل عما يجري في البلاد. والدليل على ذلك جهله بثورة الروكي بوحمارة، الذي أربك الخزانة. وعندما كان السلطان يسأل عن حقيقة ما يقوم به الروكي، كانت الإجابة أنّ كلّ ما في الأمر تمرّد محدود سيُقضى عليه بسرعة. لكن الأيام كشفت لمولاي عبد العزيز أنّ “الروكي” ثائر خطير وقوي، بعدما أحرز هذا الأخير النصر تلو الآخر، ولم تعد الخزانة تجد المال لتمويل الجيوش وشراء الذخيرة”. ويضيف المصور الفرنسي: “تلك الأحداث، وهي كثيرة في مغرب ذلك الوقت، حوّلت الصبي الخالي البال، إلى سلطان يواجه الأمور الصعبة، وعلى رأسها الاضطرابات التي عصفت بمعظم المدن والقرى المغربيّة، وحالت دون وصول البعثة العسكرية الفرنسية إلى السلطان. تلك البعثة، ومثيلاتها، كلّفت الحاكم مبالغ طائلة، دفعها طمعاً بإعادة النظام ونشر الهدوء. في النهاية، نقمَ عبد العزيز على فرنسا، لأنّه كشف نواياها الحقيقية من وجودها العسكري في المغرب. فقرر أن يواجهها مبدياً إستعداده للحرب، ولكنني نصحته بالعودة عن تلك الفكرة، وخصوصاً أنّه يفتقر إلى البنادق والمدافع والبارود والكرات المدفعية، والسفن الحربية والفرقاطات الفرنسية”.
ويكشف المصور الفرنسي في كتابه “في صحبة السلطان” أن مهامه في البلاط الملكي لم تقتصر على التصوير وتعليم صديقه السلطان تقنياته وفنونه فحسب، بل تعدّتها إلى تولّيه مهمّات إضافيّة، مثل توصيل خطوط الكهرباء إلى القصر، والإهتمام بمتابعة كل ما يتحقق من إختراعات حديثة في العالم لإستيرادها، مثل الهاتف والدراجات والسيارات، الأمر الذي منحه لقب “مهندس السلطان” مكافأة له. فأصبح السينمائي الفرنسي وفي مدة قصيرة، من أقرب أصدقاء السلطان، الذي كان يشاركه مباهجه اليومية، إلى جانب مشاغله وهمومه في الحكم.
تلك الحقبة من عمر المملكة المغربية وعلى الرغم من هشاشتها وإهتزازاتها نتيجة عوامل سياسية كثيرة، غير أنها أسست لسينما مغربية تحمل هوية حفّزت لصناعة مستقبلية، فتطوّر الإنتاج السينمائي خلال فترة العشرينات المنصرمة، وخصوصاً عقب النجاح التجاري لفيلم “أطلنتيد” الذي تم إنتاجه في العام 1921، باعتباره منعطفاً في تاريخ السينما الغرائبية . ثم أتت مرحلة الثلاثينات التي شكّلت ذروة تطور هذه الصناعة من حيث الكمية، فتم تصوير أكثر من 35 فيلماً روائياً طويلاً أعطت منحى جديداً في تطور الانتاج السينمائي الذي طغت عليه فترة الإستعمار الفرنسي، بأبعاده النضالية، الأمر الذي شجّع على تأسيس أول معمل لتحميض الأفلام “سينيفان” (Cinephane) في الدار البيضاء العام 1939.
وأقبلت فترة الاربعينات حيث شهدت قفزة نوعية في تعدد المواضيع المتأثرة بالتحوّلات الإقتصادية والسياسية معاً، فضلاً عن تعدد جنسيات الأفلام المنتجة في تلك الحقبة، فتراوحت ما بين الفرنسية والاسبانية والانغلوساكسونية. وهي الفترة التي شهدت بالتالي إفتتاح إستوديو ومعمل “سويسي” في الرباط في العام 1944 وأيضاً تأسيس مبنى إداري للخدمات السينمائية في وزارة الإعلام. كما تم تأُسيس المركز السينمائي المغربي لإنتاج الأفلام التسجيلية، ليولد أول شريط سينمائي ناطق باللغة العربية في العام 1946 من رحم تلك الشركة تحت عنوان “الباب السابع” الذي لعب الأدوار الرئيسية فيه ممثلون مغاربة، وقد لقي “الباب السابع” إقبالاً جماهيريا كبيراً في المغرب وخارجها ولا سيما في الصالات الفرنسية المخصصة للمشاهدين العرب.
وعلى الرغم من كل مقومات النجاح التي تمتعت بها السينما المغربية، غير أنها واجهت مشكلة اللهجة التي لم تستطع ان تتخطى حدود المملكة وفي أفضل الأحوال حدود المغرب العربي (تونس، الجزائر، ليبيا، والمملكة المغربية) وبعض الضواحي الفرنسية التي تعيش فيها الجاليات المغربية. وقد حاول عدد من المخرجين المغاربة منافسة السينما المصرية، عبر مصرنة اللهجة المغربية، فخرجت تلك الأفلام هجينة لا تنتمي إلى بيئتها، ومنهم من أنتج افلاماً مغربية بنسختين، واحدة بالفرنسية وتتوجه للجمهور الفرنسي، او للجمهور العربي الفرنكوفوني، وأخرى بالعربية، غير كل تلك المحاولات واجهت فشلاً ذريعاً، والسبب لا يعود إلى اللهجة بقدر ما يعود إلى المضمون البعيد كل البعد من بيئة الشارع المغربي الشعبي.
واجه المخرجون المغاربة في بدايات تأسيسهم الفيلم المغربي، عملاقاً مخيفاً إسمه السينما المصرية التي إستطاعت وبفترة قياسية قصيرة أن تجتاح العالم العربي بأسره، على الرغم من ولادتها من الرحم نفسه الذي ولدت منه السينما المغربية، الأمر الذي ولّد عقدة لدى السينمائيين المغاربة الذين ينطلقون مع السينما المصرية من تاريخ مشترك واحد. وقد حاول بعضهم تقليد الميلودراما المصرية، من خلال تصوير الأفلام في الأحياء الشعبية، والإستعانة بالممثلين المصريين، ولكن النزعة الإستعمارية طغت على سياق تلك الأفلام، الأمر الذي أفقدها إنتماءها الثقافي، لتحصد الفشل الذريع، ذلك أن القيمين على السينما المغربية لم يدركوا ربما، أو بالأحرى تجاهلوا أن تعلق المغاربة بالأفلام المصرية، وعلى الرغم من مطباتها التجارية، هو في الصميم دليل قاطع على أن الجمهور المغربي يبحث عن إنتمائه القومي وهويته الثقافية، وبالتالي تعبير عن رغبته القصوى في التحرر والانعتاق من رواسب الإستعمار وما خلفه من رفض شعبي واسع. وهو الأمر الذي تسبب بالخسائر المادية الفادحة لإستديوهات السويسي، ما انعكس سلباً على إنتاجها الذي أخذ بالتراجع إبتداء من الخمسينات إلى أن توقفت كلياً عن العمل وعُرضت تجهيزاتها للبيع بعد إعلان إفلاس أصحاب الشركة، فضلاً عن إفلاس العديد من شركات الإنتاج الأخرى التي كانت مهيأة في حال نجاحها وإستثمارها إستثماراً جيداً، أن تكون مهداً حقيقياً للسينما المغربية مستقبلاً.
الفشل الكبير الذي عانته صناعة السينما المغربية في تلك المرحلة من زمن الإستعمار الفرنسي، حفّز بعض شركات الإنتاج الفرنسية التي ساهمت إلى حد كبير بوضع المداميك الأساسية للفيلم المغربي، إلى إتباع خطط بديلة تعتمد على “الإنتاج المشترك” مع مصر سعياً إلى إستغلال إمكانيات السينما المصرية الراسخة في الوجدان المغربي آنذاك بعد فشل محاولة تقليدها أو السير في خطاها. وتنفيذاً لهذه الخطة تم إنجاز أول وآخر فيلم مغربي مشترك في العام 1955 تحت عنوان “طبيب بالعافية” المستوحى من مسرحية موليير “Le Medecin malgre lui”. وقد أُسندت مهمة إخراج الفيلم إلى الفرنسي هنري جاك بمساعدة كل من المخرج اللبناني يوسف معلوف، والمغربي العربي بناني.
لكن وعلى الرغم من كل الإمكانيات التقنية والفنية والبشرية التي حُشدت لهذا الفيلم الذي شاركت فيه نخبة من نجوم السينما مثل: أميرة أمير وكمال الشناوي ومحمد التابعي من مصر، ومن الجزائر لطيفة وليلى الجزائرية، وأيضاً من تونس محمد الجاموسي.، إلا أنه كان عبارة عن “إسكيتش” هزلي ممجوج، محشوّ بالمواقف والأحداث الفارغة من أي مضمون المعتمدة على المطاردات الغبية. فضلاً عن إتخامه بهذا الكم من الأغاني والرقص الشرقي التي حُشرت في الفيلم حشراً، بهدف المبالغة في الملابس الإستعراضية والديكورات الغريبة عن سياق الأحداث، الأمر الذي واجهه مغاربة سينما الخمسينات بالرفض والإستهجان وعدم الإعتراف به كفيلم مغربي ينتمي إلى تراثهم. فلم تتكرر تلك التجربة حتى موعد استقلال المغرب السياسي في العام 1956.
تعيش السينما المغربية حالياً أزمة وجود وصراع على صعيدي الإنتشار والترويج، في ظل إستمرار مسلسل إقفال صالات العرض السينمائية في مختلف أنحاء المملكة، إلى حد أن عدد الصالات إنخفض من حوالي ثلاثمئة صالة كانت مزدهرة في الثمانينات، إلى حوالي ثلاثين صالة عرض في وقتنا الحالي. ويتذرع أصحاب الصالات بأن سبب الأزمة يعود إلى قراصنة الأفلام الذين يستولون على أحدث الأفلام العالمية والعربية، ويطرحونها في المكتبات الشعبية ومع الباعة المتجوّلين بأسعار زهيدة، ما ينعكس سلباً على إقبال الجمهور على الصالات التي تعرض الأفلام بأسعار مرتفعة قياساً إلى الأسعار المقرصنة.
وفي المقابل، يؤكد المركز السينمائي المغربي على أن من أهم أسباب عدم إقبال الجمهور على صالات السينما يعود إلى تقاعس أصحاب الصالات عن صيانة صالاتهم وتحديثها بالتقنيات الجديدة وتكييفها والحفاظ على نظافتها. أما عامل القرصنة فلا يشكّل سوى نسبة ضئيلة من أزمة الإقبال على الصالات، وخير دليل على ذلك أن عدداً من الأفلام إستطاع تحقيق أرقام قياسية، نافست بعض شبابيك التذاكر في الصالات الاميركية. ويشير المدير العام للمركز السينمائي في هذا السياق، إلى أن تشجيع الحكومة على إنشاء مجمعات سينمائية حديثة متعددة الشاشات، ضمن المراكز التجارية الكبرى، من شأنه أن يكون الحل الأمثل لمشكلة عزوف المشاهد المغربي عن إرتياد الصالات السينمائية.
وإستناداً إلى دراسة قام بها المركز السينمائي المغربي، فإن المغرب كان في مطلع ثمانينات القرن الفائت يضم نحو أربعين شركة توزيع، في وقت كانت صالات العرض تجتذب نحو أربعين مليون مشاهد سنوياً. ليتراجع عدد شركات توزيع الأفلام في العام 2011 إلى أربع شركات، ولينحسر عدد المشاهدين إلى أقل من مئة ألف متفرج سنوياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى