كيف تعيد أميركا توازنها في المشرق العربي وأوكرانيا؟

من المعروف أن الولايات المتحدة تعمل داخلياً وخارجياً وفق إستراتيجيات معينة ومحددة، وقد فوجىء العالم عندما أعلن أخيراً الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن ليست هناك بعد إستراتيجية محددة لأحداث سوريا وما يجري في أوكرانيا على رغم مرور فترة طويلة على الأحداث في تلك البقاع. الخبير الإستراتيجي ل”أسواق العرب” يحاول إلقاء الضوء على ماهية أفضل إستراتيجية لأميركا في سوريا والعراق وأوكرانيا.

معارك أوكرانيا: أوصلت أميركا إلى حدود روسيا
معارك أوكرانيا: أوصلت أميركا إلى حدود روسيا

واشنطن – مايكل معلوف*

تبدو الولايات المتحدة حالياً وكأنها فقدت توازنها. فهي تواجه تحدّيات في المسرح السوري -العراقي فضلاً عن أوكرانيا. ولا يبدو أنها تملك رداً واضحاً على هذين التحديين. إنها لا تعرف كيف سيبدو النجاح في أي مسرح، وما هي الموارد التي هي على إستعداد لتكريسها لأيّ منهما، ولا ما إذا كانت ستستطيع السيطرة على عواقب الهزيمة.
إن معضلة من هذا النوع ليست غير عادية أو غريبة بالنسبة إلى قوة عظمى عالمية. إن المصالح الواسعة النطاق جداً وحجم القوة يولّدان فرصاً لأحداث غير متوقعة؛ وهذه الأحداث، خصوصاً التحديات التي تقع في وقت واحد في مناطق مختلفة، تخلق عدم اليقين والإرتباك. إن جغرافيِّة الولايات المتحدة وقوّتها تسمحان لها بدرجة من عدم اليقين من دون أن يؤدي ذلك إلى كارثة، ولكن توليد إستراتيجية متماسكة ومتكاملة هو أمرٌ ضروري، حتى لو كانت تلك الإستراتيجية هي بالإبتعاد بكل بساطة عن الأحداث وتركها تأخذ مجراها. أنا لا أقترح هنا هذه الإستراتيجية الأخيرة ولكني أقصد أنه عند نقطة معينة، يجب على الإرتباك أن يتنتهي ويأخذ مجراه وينبغي أن تظهر النوايا الواضحة. عندما تفعل واشنطن ذلك، ستكون النتيجة ولادة تماسك خريطة جديدة إستراتيجية التي تشمل كلا الصراعين.
القضية الأكثر أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة هي خلق خطة واحدة متكاملة تأخذ بعين الإعتبار التحديات الأكثر إلحاحاً. يجب أن تبدأ هذه الخطة من طريق تحديد مسرح للعمليات مترابط جغرافيا بما فيه الكفاية الأمر الذي يسمح بتكامل المناورات السياسية والتخطيط العسكري. لقد إنتقلت العقيدة العسكرية الأميركية صراحة بعيداً من إستراتيجية حربين. من الناحية العملية، فإنه قد لا يكون ممكناً مواجهة جميع الخصوم في وقت واحد، ولكن من الناحية النظرية، لا بد من التفكير في حيثية مركز ثقل متماسك للعمليات. بالنسبة إلي، من الواضح بشكل متزايد أن هذا المركز هو البحر الأسود.

أوكرانيا وسوريا-العراق

هناك حالياً مسرحان نشيطان عسكرياً مع إحتمال توسع معاركهما بشكل خطير. أحدهما في أوكرانيا، حيث أطلق الروس هجوماً مضاداً نحو شبه جزيرة القرم. والآخر في منطقة سوريا-العراق، حيث شنت قوات “الدولة الإسلامية” (داعش) هجوماً مصممةً على الأقل السيطرة على مناطق في كلا البلدين – وعلى الأكثر السيطرة على المنطقة الواقعة بين بلاد الشام وإيران.
في معظم المعاني، لا يوجد إتصال بين هذين المسرحين. نعم، لدى الروس مشكلة مستمرة في أعالي القوقاز وهناك تقارير بأن مستشارين ومقاتلين من الشيشان يعملون مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. في هذا المعنى، فإن الروس بعيدون من أن يكونوا مرتاحين مع ما يحدث في سوريا والعراق. في الوقت عينه، أي شيء يحوّل إنتباه الولايات المتحدة من أوكرانيا هو مفيد للروس. من جانبه، ينبغي على تنظيم “الدولة الإسلامية” معارضة روسيا على المدى البعيد. إن مشكلته المباشرة، مع ذلك، هي قوة الولايات المتحدة، لذلك أي شيء يصرف إنتباه أميركا هو مفيد ل”الدولة الإسلامية”.
لكن الأزمة الأوكرانية لديها ديناميكية سياسية مختلفة تماماً عن الأزمة العراقية -السورية. ليس هناك أي تنسيق بأي شكل من الأشكال بين القوات العسكرية الروسية وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وفي النهاية، إن فوز أيّ منهما سوف يتحدّى مصالح الآخر. ولكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يجب أن تخصّص وتركّز إهتمامها والإرادة السياسية والقوة العسكرية بعناية بحيث تشمل الأزمتين معاً. إن الروس و”الدولة الإسلامية” يملكان الترف لأن كلاً منهما يركّز على أزمة واحدة. ينبغي على أميركا أن تشغل نفسها مع كلٍّ من الأزمتين والتوفيق بينهما.
لقد كانت الولايات المتحدة تعمل على الحد من تدخلها في الشرق الأوسط في أثناء محاولة التعامل مع الأزمة الأوكرانية. إن إدارة باراك أوباما تريد خلق عراق متكامل خال من الجهاديين وأن تقبل روسيا بأوكرانيا الموالية للغرب. كما أنها لا تريد أن تكرّس قوات عسكرية كبيرة لأي مسرح من الأزمتين. إن المعضلة هنا تكمن في كيفية تحقيق هذه الأهداف من دون مخاطر. إذا لم تتمكن من القيام بذلك، ما هو الخطر الذي يجب أن تقبله أو ترفضه؟
إن الإستراتيجيات التي تقلّل المخاطر وتخلق أقصى تأثير هي عقلانية وينبغي أن تكون مبدأ مؤسّساً في أي بلد. وبهذا المنطق، يجب أن يكون هدف الإستراتيجية الأميركية الحفاظ على توازن القوى في المنطقة بإستخدام وكلاء وتوفير الدعم المادي لهم، مع تجنب التورّط العسكري المباشر وجعله آخر الخيارات. إن أهم شيء هو توفير الدعم الذي يُغني عن الحاجة إلى التدخل.
في المسرح السوري، إنتقلت الولايات المتحدة من إستراتيجية تسعى إلى دولة موحّدة تحت قوات علمانية موالية للغرب إلى واحدة تسعى إلى إقامة توازن السلطة بين العلويين والجهاديين. في العراق، ركّزت الولايات المتحدة على تأليف حكومة موحّدة في بغداد وهي تحاول الآن إحتواء “الدولة الإسلامية” بإستخدام الحد الأدنى من القوات الأميركية بالإضافة إلى قوات كردية وشيعية وبعض وكلاء من السنة. إذا فشل ذلك، فإن استراتيجية واشنطن في العراق ستتحول الى إستراتيجية مشابهة لتلك في سوريا، وبالتحديد السعي إلى الحصول على توازن القوى بين الفصائل. ليس من الواضح إذا كانت هناك أي إستراتيجية أخرى موجودة. إن الإحتلال الأميركي للعراق الذي بدأ في العام 2003 لم يسفر عن حلّ عسكري، وأنه ليس من الواضح إذا كان تكرار التدخل كالعام 2003 سوف ينجح أيضاً. ينبغي عند إتخاذ أي عمل عسكري أن تُدرس النتائج عقلياً بوضوح، وأن تكون التوقعات معقولة ومنطقية بأن تخصيص قوات سيحقق تلك النتائج؛ لا يجوز هنا التمني وهو غير مسموح في هذه الحالة. واقعياً، من غير المرجح أن تستطيع الغارات الجوية والقوات الخاصة على الأرض وحدهما إجبار “الدولة الإسلامية” على الإستسلام أو أن تؤدّيا إلى إنحلاله.
أوكرانيا، بالطبع، لديها ديناميكية مختلفة. كانت الأحداث في تلك البلاد بالنسبة إلى الولايات المتحدة إما فرصة لمواقف أخلاقية أو بمثابة ضربة إستراتيجية للأمن القومي الروسي. وفي كلتا الحالتين، كانت النتيجة عينها: فقد خلقت تحدياً للمصالح الروسية الأساسية ووضعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقف خطير. لقد فشلت أجهزة مخابراته تماماً في التنبؤ أو إدارة الأحداث في كييف، أو توليد إنتفاضة على نطاق واسع في شرق أوكرانيا. وعلاوة على ذلك، كان الأوكرانيون يهزمون مؤيديهم (مع التمييز بين المؤيدين والقوات الروسية أصبحت بلا معنى على نحو متزايد مع مرور كل يوم). لكن كان من الواضح أن الروس لن يسمحوا ببساطة للوضع الأوكراني أن يصبح أمراً واقعاً. لذا قاموا بهجوم مضاد. ولكن حتى مع ذلك، فإنهم إنتقلوا من قدرتهم على صياغة السياسة الأوكرانية إلى فقدان كل أوكرانيا ما عدا جزء صغير منها. لذا فإنهم حافظوا على الموقف العدواني بشكل دائم في محاولة لتعويض ما خسروه.
إن إستراتيجية الولايات المتحدة في أوكرانيا تتبع مسارات إستراتيجيتها في سوريا -العراق. أولاً، تستخدم واشنطن وكلاءها. ثانياً، توفّر لهم الدعم المادي. وثالثاً، تتجنب التورّط العسكري المباشر. تفترض الإستراتيجيتان بأن الخصم الرئيسي – “الدولة الإسلامية” في العراق –سوريا، وروسيا في أوكرانيا – غير قادر على شن هجوم حاسم، أو أن أي هجوم يشنه يمكن إضعافه بالقوة الجوية. ولكن لكي تكون ناجحة، تفترض الإستراتيجية الأميركية بأنه سوف تكون هناك مقاومة متماسكة أوكرانية ضد روسيا وعراقية ضد “الدولة الإسلامية”. إذا لم يتحقق ذلك أو يتلاشى، تلقى الإستراتيجية المصير عينه.
تراهن الولايات المتحدة على حلفاء محفوفين بالمخاطر. والنتائج تعني الكثير على المدى الطويل. كانت إستراتيجية أميركا قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية قائمة على الحد من التورّط حتى يمكن التعامل مع الحالة فقط بإنتشار أميركي ضخم. خلال الحرب الباردة، غيّرت واشنطن إستراتيجيتها بالإلتزام ببعض القوات على الأقل. كانت لهذه نتائج أفضل. إن الولايات المتحدة ليست دولة غير معرَّضة للخطر من تهديدات خارجية، على الرغم من أن تلك التهديدات الخارجية يجب أن تتطور بشكل كبير. كان التدخل المبكر أقل تكلفة من التدخل في اللحظة الأخيرة الممكنة. لا “الدولة الإسلامية” ولا روسيا يشكل مثل هذا التهديد للولايات المتحدة، وأنه من المرجح جداً أن توازن القوى الإقليمي الخاص يمكن أن يحتويهما. ولكن إذا لم تستطع فعل ذلك، يمكن للأزمات أن تتطور أكثر إلى تهديد مباشر لأميركا. علماً أن تشكيل توازن القوى في المنطقة يتطلب مجهوداً وأخذ بعض المخاطر على الأقل.

توازنات القوى الإقليمية والبحر الأسود

الخطوة المنطقية لدول مثل رومانيا والمجر وبولندا تكمن في إستيعاب روسيا إلّا إذا كانت لديها ضمانات كبيرة من الخارج. سواء كانت عادلة أم لا، فإن الولايات المتحدة وحدها هي القادرة على تقديم مثل تلك الضمانات. والشيء عينه يمكن أن يقال عن الشيعة والأكراد، وكلاهما قد تخلت عنه أميركا في السنوات الأخيرة، على إفتراض أن يتمكنا من إدارة الوضع بسواعد أبنائهما.
إن القضية التي تواجه الولايات المتحدة تكمن في كيفية تنظيم هذا الدعم مادياً ونظرياً. هناك مسرحان متميِّزان وغير مترابطين، والقوة الأميركية محدودة. وقد يبدو الوضع حائلاً ومانعاُ لضمانات مقنعة. ولكن تصور الولايات المتحدة الإستراتيجي يجب أن يتطور بعيداً من رؤية الأمر كمسرحين متميّزين وإعتبارهما جانبين مختلفين للمسرح عينه: البحر الأسود.
عندما ننظر إلى الخريطة، نلاحظ أن البحر الأسود هو قاعدة التنظيم الجغرافي لهذه المناطق. وهو يشكّل الحدود الجنوبية لأوكرانيا وروسيا الأوروبية والقوقاز، حيث الروس والجهاديون والإيرانيون يتلاقون. كما أن شمال سوريا والعراق يبعدان أقل من 650 كيلومتراً عن البحر الأسود.
كانت للولايات المتحدة إستراتيجية شمال الأطلسي. كانت لها إستراتيجية البحر الكاريبي، وإستراتيجية غرب المحيط الهادئ وهلمّ جراً. هذا لا يعني ببساطة إستراتيجية بحرية. بدلاً من ذلك، كان من المفهوم أن نظام نشر القوى مجتمعة يعتمد على القوة البحرية لتوفير الإمدادات الإستراتيجية ونقل قوات الجيش والقوة الجوية. كما أنه تم وضع القوات في مثل هذا التكوين لأن قوة واحدة، أو على الأقل هيكل قيادة، يمكن أن توفر الدعم في إتجاهات عدة.
لدى الولايات المتحدة مشكلة إستراتيجية التي يمكن معالجتها بطريقتين أو أكثر لا علاقة لها بالمشاكل التي تتطلب موارد زائدة عن الحاجة أو حلاً واحداً متكاملاً. صحيح أن الروس و”الدولة الإسلامية” لا يعتبران أنفسهما جزءاً من مسرح واحد. لكن الخصم لا يحدّد مسارح العمليات بالنسبة إلى الولايات المتحدة. الخطوة الأولى في صياغة إستراتيجية تكمن في تحديد خريطة بطريقة تسمح للإستراتيجي بأن يفكّر من حيث وحدة القوات بدلاً من الإنفصال، ووحدة الدعم بدلاً من الإنقسام. كما تسمح للإستراتيجي التفكير في العلاقات الإقليمية بصفتها جزءاً من إستراتيجية متكاملة.
لنفترض حالياً أن الروس إختاروا التدخل في القوقاز مرة أخرى، وأن الجهاديين إنتقلوا من الشيشان وداغستان إلى جورجيا وأذربيجان، أو أن إيران قررت التحرك شمالاً. فإن نتيجة الأحداث في القوقاز تهمّ كثيراً الولايات المتحدة. في إطار الهيكل الإستراتيجي الحالي، حيث يبدو أن صناع القرار في الولايات المتحدة غير قادرين على تصور حلّ لمشكلتين إستراتيجيتين حاليتين، فإن مثل هذه الأزمة الثالثة ستطغى عليهم. ولكن التفكير من حيث تأمين ما يسمى حوض البحر الأسود الكبير يوفّر إطاراً لمعالجة ممارسة التفكير الحالي. ومن شأن إستراتيجية البحر الأسود تحديد أهمية جورجيا، والساحل الشرقي للبحر الأسود. الأهم من ذلك، فإنها ترفع أذربيجان إلى مستوى الأهمية التي ينبغي أن تكون في إستراتيجية الولايات المتحدة. من دون أذربيجان، فإن جورجيا وزنها قليل وخفيف. مع أذربيجان، هناك مكافحة للجهاديين في مرتفعات القوقاز، أو على الأقل عازل، إذ أن أذربيجان منطقياً هي المرساة الشرقية لإستراتيجية البحر الأسود الكبرى.
ومن شأن إستراتيجية البحر الأسود أيضاً أن تجبر على تعريف وتوضيح إثنتين من العلاقات الرئيسية للولايات المتحدة. الأولى هي تركيا. إذا وضعنا روسيا جانباً، فإن تركيا هي القوة الأم العظمى للبحر الأسود. لديها مصالح في جميع أنحاء حوض البحر الأسود الكبرى، بالتحديد في سوريا والعراق والقوقاز وروسيا وأوكرانيا. التفكير من حيث إستراتيجية البحر الأسود، تصبح تركيا إحدى الدول الحليفة التي لا غنى عنها إذ أن مصالحها تمسّ المصالح الأميركية. إن توافق الإستراتيجيتين الأميركية والتركية يجب أن يكون شرطاً مسبقاً لمثل هذه الإستراتيجية، وهذا يعني أن كلا البلدين عليهما أن يغيّرا جدياً بعضاً من سياساتهما. فإن وجود إستراتيجية محورية واضحة للبحر الأسود ستضع العلاقات الأميركية – التركية في الصدارة، والفشل في في التوافق يعني أن البلدين يحتاجان إلى إعادة النظر في العلاقة الإستراتيجية بينهما. عند هذه النقطة، يبدو أن العلاقات الأميركية – التركية تستند إلى منهجية تجنب مواجهة الحقائق. مع البحر الأسود باعتباره محور مراوغة، والذي نادراً ما يفيد في خلق إستراتيجيات واقعية، سيكون الأمر صعباً.

مركزية رومانيا

البلد الآخر الضروري هو رومانيا. تحظّر معاهدة “مونترو” العبور غير المحدود للقوى البحرية الدولية إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور الذي تسيطر عليه تركيا. رومانيا، مع ذلك، هي دولة على البحر الأسود، ولا تطبّق عليها أي قيود بالنسبة إلى ذلك، على الرغم من أن قوتها القتالية البحرية تتضمن بضع فرقاطات قديمة مدعومة بنصف دزينة من الطرادات. فضلاً عن كونها قاعدة محتملة لحاملات الطائرات للعمليات في المنطقة، وخصوصاً في أوكرانيا، فإن دعم رومانيا في بناء قوة بحرية كبيرة في البحر الأسود – يحتمل أن تكون سفناً برمائية – من شأنه أن يوفر قوة ردع ضد الروس وأيضاً تشكيل الشؤون في البحر الأسود الذي قد يؤدي إلى تحفيز تركيا للتعاون مع رومانيا، وبالتالي العمل مع الولايات المتحدة. الهيكل التقليدي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) يمكنه أن ينتعش في هذا التطور، على الرغم من أن معظم دول “الناتو” غير ذي صلة بالمشاكل التي تواجه حوض البحر الأسود. بغض النظر عن كيف تنتهي الدراما السورية – العراقية، فهي ثانوية بالنسبة إلى مستقبل العلاقة بين روسيا وأوكرانيا وشبه الجزيرة الأوروبية. ترتكز بولندا على سهل الشمال الأوروبي، ولكن العمل الآن هو في البحر الأسود، والذي يجعل رومانيا شريكاً حاسماً في شبه الجزيرة الأوروبية. وسوف تشعر بالضغط الأول في حالة إستعادت روسيا مكانتها في أوكرانيا.
لقد كتبت كثيراً على ظهور – وحتمية ظهور – تحالف يقوم على فكرة الأراضي الواقعة بين البحار. فإنه يمتد بين بحر البلطيق والبحر الأسود وسيكون تحالفاً مصمماً لإحتواء روسيا الحازمة حديثاً. وقد تخيلت هذا التحالف يمتد شرقاً إلى بحر قزوين، مع إنضمام تركيا وجورجيا وأذربيجان. خط بولندا إلى رومانيا بدأ فعلياً في الظهور. يبدو هذا واضحاً بالنظر إلى أن أحداثاً معينة تحدث على جانبي البحر الأسود، وأن الباقي من هذا الخط سوف يظهر.
على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسة الحرب الباردة، التي تتألف من أربعة أجزاء. أولاً، كان من المتوقع من الحلفاء توفير الأساس الجغرافي لقوات دفاع كبيرة للرد على التهديدات. ثانياً، كانت الولايات المتحدة تقوم بتقديم المساعدات العسكرية والإقتصادية اللازمة لدعم هذا الهيكل. ثالثاً، كانت أميركا ترسل بعض القوات ضامنة لإلتزامها والدعم الفوري. ورابعاً، كان على واشنطن ضمان الإلتزام الكامل لجميع قوات الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها، على الرغم من أن الحاجة إلى الوفاء بهذا الضمان الأخير لم تحدث.
لدى أميركا بنية تحالف غير مؤكّد في حوض البحر الأسود الكبير الذي لا يتمتع بدعم متبادل ولا يسمح للولايات المتحدة بأن تكون لها قوة متماسكة في المنطقة نظراً إلى التقسيم النظري لهذه المنطقة إلى مسارح متميزة. إن أميركا تقدم مساعدات، ولكن مرة أخرى على أساس غير متناسق. قوات أميركية متورطة، ولكن مهمتها غير واضحة، ومن غير الواضح أنها في الأماكن الصحيحة، وليس من الواضح ما هي السياسة الإقليمية.
وبالتالي، إن سياسة الولايات المتحدة في الوقت الحالي هي غير متماسكة. إن إستراتيجية البحر الأسود هي مجرد إسم، ولكن أحياناً يكون الإسم كافياً لتركيز التفكير الإستراتيجي. طالما تعتقد بلاد العم سام بالنسبة إلى أوكرانيا وسوريا والعراق كما لو كانت على كواكب مختلفة، فإن إقتصاد القوى الذي تتطلبه إستراتيجية متماسكة سوف لن يتحقق. التفكير من حيث البحر الأسود باعتباره محور لمنطقة واحدة متنوعة ومنتشرة يمكن أن يترسّخ في التفكير الأميركي. مجرد ترسيخ المفاهيم الاستراتيجية لا يقود إلى الإنتصار في الحروب، ولا يمنعها. ولكن أي شيء يوفر التماسك للإستراتيجية الأميركية له قيمة.
حوض البحر الأسود الكببر، كما تم تعريفه على نطاق واسع، هو بالفعل موضوع تورط عسكري وسياسي. لكن لا يُنظر إليه على هذا النحو في الحسابات العسكرية والسياسية أو حتى في وسائل الإعلام الخاصة والعامة في أميركا. ينبغي أن يٌعتبر ويكون. لذلك سوف يجلب تصوراً ويمهّد له تمشياً مع الواقع الناشئ بسرعة.
• خبير إستراتيجي وجيوسياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى