كيف تُنقذ الدولة اللبنانية نفسها من الإنهيار المالي؟

بقلم غسان حاصباني*

في وقت يزداد العجز المالي والسياسي للدولة اللبنانية، بدأت الأصوات المطالبة بالإصلاحات المالية تخفت ربما بسبب التعب واليأس من المحاولات المتكررة الفاشلة. كما أصبحت زيادة الدين ونية الحكومة المعلنة بترشيد الإنفاق حدثاً روتينياً يطل علينا كلّما إقتربت نسبة الإنفاق من نسبة العائدات. ويبدو أن الجميع إستسلم لهذا الواقع المرير وكأن الإصلاح المالي أصبح مهمة مستحيلة في ظل الوضعين الأمني والسياسي الراهنين.
الدين ما زال يتراكم ليفوق 63 مليار دولار (الدين وكلفة خدمته)، أي ما يزيد بنسبة 20 مليار دولار عن الدخل القومي. أما نسبة الدين الصافي من دون إحتساب الفائدة فهي 54 مليار دولار أي 122% من الدخل القومي، ما يضع لبنان في المرتبة التاسعة عالميًا. وخلال السنوات الثلاث المقبلة، ستفوق كلفة الدين التراكمية وحدها 9 مليارات دولار. وما يزيد الحال سوءاً هو أن الدولة لا تبدو قادرة على إجراء الإصلاحات لأنه من المستحيل القيام بخطوات إصلاحية في ظل الوضع الراهن.
لكن الإصلاح المالي ليس بالخيار الأبيض أو الأسود. فهناك حلول إستراتيجية تتطلب تخطيطاً طويل الأمد وحلولاً قصيرة المدى تأتي بنتائج سريعة قد تخفف من حدة الأزمة.
ومن الحلول المستعجلة القصيرة المدى هي قيام الدولة بتحسين جباية ضرائبها ورسومها الجمركية من جهة، وتخفيض العجز الناتج من الهدر في قطاعات عدة مثل قطاع الكهرباء الذي يكلّف الدولة نحو 2.5 ملياري دولار سنوياً من دون نتائج ملموسة.
أما الحلول الطويلة الأمد فهي التي تخفّض تكاليف الدولة المباشرة من خلال خصخصة القطاعات الإقتصادية الكبرى مثل الكهرباء والإتصالات والإستشفاء وحتى التعليم، وفتح قطاع الطاقة. وتلك الإصلاحات تتطلب أقل من سنتين للتطبيق إذا وجدت النية السياسية، ويمكن لها أن تطلق دورة نمو جديدة للإقتصاد مما ينعكس إيجابياً على الوضع المالي العام.
كل هذه العوامل كفيلة بتحسين الأداء المالي للدولة، لكن الوضع الحالي يشلّ قدرة الدولة على التشريع أو القيام بأي أعمال تنفيذية تذكر.
وعدم إكتراث أو إدراك الطبقة السياسية بشكل عام لخطورة الوضع المالي، هو جزء من مسببات الشلل، أما الجزء الآخر فهو حماية بعض المصالح التي لها أربابها. فالطروحات التي قد ترضي السياسيين قد لا ترضي الطبقة الرأسمالية والعكس صحيح، وفي أحيان كثيرة لا تكون هناك تفرقة بين الطبقتين. أما الجزء الأكبر من المشكلة فيكمن بالديموقراطية التوافقية التي تقلّص قدرة السلطتين التنفيذية والتشريعية، على إتخاذ قرارات كبرى وجذرية في ما يتعلق بالأمور الإقتصادية والمالية الإستراتيجية مما يجعل الإصلاح المالي مهمة تعجيزية. والإنقسامات السياسية العمودية تحول دون حصول توافق على القضايا الكبرى، كما أن الأحوال الأمنية والحرب على الإرهاب تدفع بالشؤون الاصلاحية الى أسفل سلم الأولويات.
فالمواقف السياسية اليوم تحتجز البلد رهينة، ولم يعد هناك من قدرة لإجراء الإصلاحات المالية والادارية والإقتصادية المطلوبة قبل إجراء الإنتخابات والإستحقاقات الدستورية كلها، وإحترام المهل المحددة لها. فالمواقف السياسية بمجملها ترتكز على الأمور المتعلقة بالسلطة، وقلّما تأخذ بالإعتبار الحسابات المالية والإقتصادية وإحتمال إنهيار الإقتصاد والمجتمع.
وما يخفف من وطأة الوضع المالي السيّىء للدولة تجاه الرأي العام هو أن أداء القطاع المصرفي اللبناني جيد من ناحية الودائع والسيولة والإحتياطات بالعملات الأجنبية مما يمنع سعر الليرة من الإنهيار. وبما أن القطاع المصرفي هو الدائن الأكبر للدولة اللبنانية، فهو ينعم بعائدات تراكمية تقدر بعشرة مليارات دولار بحلول العام 2018، إضافة الى ودائع تقدر بثمانية مليارات دولار سنوياً تأتي من المغتربين اللبنانيين. لكن الضغط يزداد على هذا القطاع كلّما إرتفع إحتمال عدم قدرة الدولة على تسديد ديونها خلال السنوات المقبلة.
لكن المواطن العادي لا يشعر بهذا الضغط على القطاع مثلما يشعر بتقلص النمو الاقتصادي الذي لا يتعدى الواحد في المئة. فتقلص النمو الإقتصادي يؤثر مباشرة في حركة العمل والوظائف. ولهذا السبب، تعلو صرخات المواطنين إحتجاجًا على الوضع الإقتصادي، ويطالب الموظفون في القطاع العام بزيادة أجورهم أو تثبيتهم إذا كانوا مياومين أو متعاقدين، من دون التنبه لمخاطر الوضع المالي للدولة الذي لا يسمح لها بزيادة تكاليفها بسبب الإنفاق على عدد أكبر من الموظفين ودفع أجور أعلى لهم. ومن دون نمو إقتصادي، تتقلص عائدات الدولة وقدرتها على الإنفاق.
ثلاثية الإقتصاد والقطاع المصرفي ومالية الدولة تشكل حلقة مقفلة تدور في دوامة حيث تتقلّص قدرتها على التماسك مع كل دورة الى أن تصل الى حدّ الإنهيار. ويبقى الأمل الوحيد هو في إتمام الإستحقاقات الدستورية وتشكيل حكومة من الأخصائيين حتى ولو لمرة واحدة إستثنائية، تُكلَّف بوضع خطة إقتصادية متكاملة، وتحظى بدعم سياسي جامع، ويترك التمثيل السياسي للمجلس النيابي.
• خبير إقتصادي وإستراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى