ليبيا على شفا الهاوية

كلٌ يغني على ليلاه في الجماهيرية السابقة ويعمل على هواه. فبينما المعارك تدور على أشدها في طرابلس وبنغازي وحول مطار طرابلس الدولي بين ميليشيات مسلحة بجميع أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، عقد المجلس النيابي الجديد إجتماعاً وأعلن عن موافقته على إجراء إنتخابات مباشرة لاختيار الرئيس المقبل للبلاد كأن ليبيا تعيش بألف خير وبسلام. في حين أن رئيس الوزراء عبد الله الثني أفاد بأن حكومته ستلغي كل الميليشيات وتحاكم قادتها الذين إرتكبوا جرائم ضد الإنسانية. ولكن أين هو الواقع؟

طرابلس الغرب: المعارك وصلت إليها
طرابلس الغرب: المعارك وصلت إليها

طرابلس الغرب – خالد الديب

طرابلس تحترق. إثنتان من أكبر الميليشيات في غرب ليبيا – واحدة ذات ميول إسلامية من مدينة مصراتة الساحلية وأخرى معادية للإسلاميين من بلدة الزنتان في الغرب – تتواجهان لأول مرة منذ تعاونهما لإسقاط معمر القذافي قبل ثلاث سنوات. الجيش الليبي لا وجود له … إختفى، بينما رئيس الوزراء في البلاد، عبد الله الثني، لم يفعل أكثر من رفع أمره إلى الأمم المتحدة، لعلها ترسل قوات حفظ السلام. إنتقاماً، منعه المقاتلون الإسلاميون من ترك طرابلس لبعض الوقت.
ما بدأ قبل شهر تقريباً كإشتباكات بين كتائب محلية مارقة من أجل السيطرة على مطار طرابلس الدولي تحوّل بسرعة إلى معركة شاملة من أجل السيطرة على العاصمة بأكملها. منذ ذلك الحين، إمتد العنف إلى الخارج، الأمر الذي مهّد الطريق لحدوث مواجهة في البلاد بين المناهضين للإسلاميين والكتل الإسلامية السلفية. وتعاني بنغازي الآن أسوأ أنواع العنف؛ الجهاديون هناك يدعون المقاتلين المخضرمين من سوريا للعودة في حين أن قائد القوات شبه العسكرية المناهضة للاسلاميين خليفة حفتر حشد مختلف الحلفاء لمواجهتهم. وفي الوقت عينه، وراء أبواب مغلقة، بدأ مسؤولون غربيون التفكير في تدخل عسكري محدود.
قبل شهرين، كانت الأمور تبدو جيدة. في حزيران (يونيو)، إنتخبت البلاد غالبية مناهضة للإسلاميين في مجلس النواب الجديد – هيئة تشريعية بدت من المرجح أنها ستتجنب سياسة حافة الهاوية المختلة التي تميزت بها سابقتها، المؤتمر الوطني العام. في شرق ليبيا، كان الإئتلاف المناهض للإسلاميين الذي يقوده حفتر بدأ في تحقيق مكاسب كبيرة. كما أن إنتاج النفط كان يستعد للزيادة، حيث أن ما يسمى الحركة الإتحادية – التي كانت تحاصر موانئ النفط الرئيسية وتطالب بالحكم الذاتي الإقليمي في الجزء الشرقي من البلاد – سلمت السيطرة على محطات النفط الرئيسية من دون إطلاق رصاصة واحدة. كل هذه التطورات كانت ترجّح ميزان القوى لصالح الحكومة المركزية وبعيداً من الإسلاميين. لكن، مما لا يثير الدهشة، فقد إختار أهالي مصراتة والميليشيات الإسلامية أن يلعبا دور المفسدين.
كان هدفهما الرئيسي مطار طرابلس الدولي، الذي تسيطر عليه كتائب الزنتان منذ سقوط القذافي في العام 2011، وقد تحوّل إلى مركز لشبكة تهريب مربحة خاصة. على الرغم من أن تجار تهريب النفط المدعوم والمخدرات غير المشروعة يهرّبون من طريق البر، كانوا ينقلون السلع الأكثر ربحاً – الذهب والعملة الصعبة، والموالون السابقون للقذافي – بواسطة الجو.
«الجميع يعرف أن كل الحدود الرئيسية في الغرب تسيطر عليها ميليشيات الزنتان – التهريب لا يجري في الخفاء، إذ أن الزنتانيين يسيطرون أيضاً على جميع الوزارات المعنية»، على حدّ ما أسرّه لي مهرب ثري الذي يعمل من الحدود الجنوبية لليبيا. من جهتهم شعر أهل مصراتة بالتعب والإنزعاج والغيرة من هذا الوضع. فهم أكثر عدداً من الزنتانيين، وسعوا طويلاً لإنتزاع سيطرة المجموعة الأخيرة على السوق السوداء. وبعدما فشل حلفاؤهم الإسلاميون في الإنتخابات البرلمانية، طالب أهل مصراتة من كتائب الزنتان التنازل عن المطار. في المقابل، عرضوا الإعتراف بنتائج الانتخابات.
في 12 تموز (يوليو)، إتفقت المجموعتان على تسليم المطار سلمياً إلى هيئة محايدة. لكن في صباح اليوم التالي، إنتهك صلاح الدين بادي، زعيم ميليشيا مصراتة وعضو مجلس النواب، الإتفاق، ساعياً لإستعادة السيطرة على مطار طرابلس بالقوة. ووفقاً لمحمد الجارح، زميل في مركز رفيق الحريري، إن «بادي كان يأمل في الإستفادة من الفراغ في القيادة السياسية المحلية في مصراتة لتأسيس نفسه على انه زعيم فصيل مسلح». ومن المرجح أنه كان يأمل أيضاً بإثراء نفسه. وعلى الرغم من أنه فشل عسكرياً، فقد تمكّن من زج أكبر ميليشيات مصراتة، «قوة درع ليبيا المركزي» و»غرفة عمليات ثوار ليبيا»، في المستنقع. وحتى الآن، إستطاعت ميليشيا الزنتان الأفضل تنظيماً الحفاظ على مواقعها. أهل مصراتة، مع ذلك، بدأوا إعادة تجميع قواتهم ومهاجمة المطار ومدينة طرابلس.
الجزء الأكبر من القتال ظل محصوراً في المطار والطرق الرئيسية. إذا إستطاع أهل مصراتة الفوز بهذه الأصول، سيكونوا قادرين على السيطرة على طرابلس. وتضييق الخناق على الزنتانيين على ما يسمى طريق المطار حالياً الذي يسمح لألويتهم بالسفر من قواعدها الجبلية إلى وسط مدينة طرابلس من دون الحاجة إلى المرور عبر نقاط تفتيش أهل مصراتة. إن فقدان السيطرة على هذا الطريق سيحرم الزنتانيين الوصول غير المقيّد إلى وسط طرابلس، وبجبرهم على التراجع إلى معاقلهم في الجبال البعيدة. عندها يمكن لقوات مصراتة والاسلاميين أن تهيمن على طرابلس وتسيطر على الوزارات الحكومية الحاسمة التي هي تحت سيطرة كتائب الزنتان حالياً. إن حكومة الثني من الأرجح أن تنهار أو تطلب اللجوء في شرق ليبيا في هذه الحالة.
مع ذلك يبدو أن هذه النتيجة لا تزال بعيدة المنال، إذ لا يبدو أن أياً من الجانبين قوي بما فيه الكفاية ليسجل نصراً حاسماً. وكلما إستمرت الحرب، فإن الأضرار الجانبية ستكون أكبر. لقد خسر مطار طرابلس بالفعل مليارات الدولارات من الدمار والطائرات الرابضة فيه ولن يستطيع العمل في المستقبل المنظور. وهذا يناسب أهل مصراتة بشكل جيد، إذ أن ألوية حليفة إسلامية تحاصر مطارين آخرين يشتغلان في غرب ليبيا – مصراتة الدولي ومعيتيقة الذي كان قاعدة جوية أميركية سابقاً.
ما قد يبدو أنه صراع إيديولوجي في الواقع هو إلى حد كبير منافسة إقتصادية بين إثنتين من الشبكات الإجرامية المتنافسة. الآثار السياسية هي من المنتجات. وفقاً لحسن (لم يعطِ باقي الهوية)، وهو بيروقراطي مقيم في طرابلس تحدثت إليه أخيراً، «إن وجود الزنتانيين وأهل مصراتة على حد سواء غير شرعي في المدينة. الناس تريد فقط الإستمتاع برمضان مع أسرهم (إلتقيته في ذلك الشهر). هذا الصراع الحالي هو حول الثروة والسلطة – لا شيء أكثر من ذلك. ليست له خلفية إيديولوجية حقيقية، والذين ينتمون إلى أحد الجانبين هم الذين سوف يستفيدون مالياً من نجاح واحدة من المجموعتين».
في ليبيا، كما هو الحال في أجزاء أخرى عديدة من العالم، الثروة النفطية تحرّك الصراع. ومع الكثير من المال الذي يدور في الأرجاء، ليس هناك أخيار وأشرار – ليس هناك سياسيون فاسدين وآخرون نظيفين. المجموعات المناهضة للإسلاميين هي تماماً متورطة في الإتجار غير المشروع، مثل الجماعات الإسلامية. وميليشيات الزنتان قصفت العديد من الأحياء المدنية مثل أهل مصراتة.
ونتيجة لهذا الواقع المعقّد، فإنه سيكون من الصعب أن يحدث تدخلاً أجنبياً من أي نوع لتجنب الظهور بترجيح كتلة واحدة مما يساعدها على الإنتصار على الأخرى. ولكن بالنظر إلى أن ليبيا تواجه إحتمال إنهيار كامل للدولة وحرب ميليشيات واسعة النطاق – وأنه على عكس العام 2011، معظم الليبيين لا يدعم بشكل كامل معسكراً واحداً – فإن القوى الأجنبية يجب أن تتحمل الآلام لتقديم أنفسها كوسيطة محايدة.
مبعوث المملكة المتحدة الخاص الى ليبيا، جوناثان باول، وهو مساعد سابق لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، يجب أن يعمل مع الأمم المتحدة على إتخاذ زمام المبادرة في تنسيق الإستجابة الدولية. على الرغم من أن العديد من اللاعبين الرئيسيين قد عيّن مبعوثين، فإن لندن هي وحدها الوسيطة المهنية ومع الدعم السياسي اللازم تستطيع تسهيل صفقة كبرى بين الفصائل المتنافسة في البلاد. لا تزال ليبيا قضية عليا في السياسة الخارجية لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وسياسة المملكة المتحدة العلنية التي تدعو إلى الحوار مع الفيديراليين والإسلاميين والفصائل المناهضة للإسلاميين يعطيها المصداقية المطلوبة للعمل كوسيط محايد.
الولايات المتحدة، على النقيض من ذلك كانت قريبة جداً من الحركة المناهضة للإسلاميين وتعوقها المخاوف السياسية الداخلية المحلية، لا سيما التداعيات السياسية من الهجوم الإرهابي في العام 2012 عل البعثة الديبلوماسية الاميركية في بنغازي. في الشهر الفائت أخلت واشنطن موظفي سفارتها في طرابلس بطريقة مشينة على غرار سايغون، وهو ما شكل إنتصاراً لا لبس فيه للجهاديين في ليبيا. أما بريطانيا فكانت أكثر حزماً إذ سحبت الموظفين غير الاساسيين فقط، وعلى الرغم من الهجوم على قافلة الانسحاب، ظلت ملتزمة بوجودها على الأرض. وبالتالي أصبحت لندن عيون وآذان واشنطن في ليبيا. لذا يجب على الولايات المتحدة دعم جهود الوساطة البريطانية إلى أقصى درجة.
لدى كل من أميركا وبريطانيا أدوار حاسمة للعب في وضع حد للعنف. في المدى القريب، ينبغي أن توحدا نفوذهما الديبلوماسي لتركيز الإهتمام الدولي على إنقاذ البلاد من خلال العمل معاً على الدعوة إلى عقد قمة دولية تضم كل قادة الميليشيات الرئيسية والفصائل السياسية في ليبيا. لقد فشلت المحاولات الليبية المحلية في صنع السلام، سواء من خلال شيوخ القبائل أو المجالس المحلية، لسد الفجوات بين الخصوم. إن جهود وساطة دولية منسقة – مماثلة لعملية السلام في ايرلندا الشمالية خلال تسعينات القرن الفائت – تمثل أفضل أمل لليبيا. مثل هذا التفاوض قد يستدعي قوات حفظ السلام للامم المتحدة لفرض وقف إطلاق النار بين الزنتانيين وأهل مصراتة والإسلاميين. ولكن لكي تنجح أي صفقة كبرى، فإنه يجب معالجة مسيِّري جوهر الصراع داخل ليبيا، بدلاً من مجرد فرض نظام سياسي جديد من الخارج.
لا يوجد فصيل واحد يمكن أن يحقق النصر في ليبيا. الدعم بصورة عمياء للجانب المناهض للإسلاميين وفقدان الإتصال مع التطورات على الأرض سيكون خطأ فادحاً – وهذا أمر جعلته الأحداث الأخيرة في مصر والعراق واضحاً جداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى