أنقرة تعيد ضبط ساعتها في سوريا على توقيت واشنطن

أنقرة – حسين كمال

نزف الحدود أعادها إلى الحظيرة

مع تطور الأحداث في سوريا والعراق، يرى المسؤولون في أنقرة أن الرياح السياسية في المنطقة تسير بما لا تشتهي سفنهم، لذا بدأوا يراجعون وينقحون سياستهم السورية لإعادة السخونة إلى علاقتهم الباردة مع أميركا، خصوصاً مع توسع نفوذ الدولة الإسلامية للعراق وبلاد الشامفي بلاد الرافدين.

 

منذ ظهورها في سوريا في كانون الثاني(يناير) 2012، إعتمدت “جبهة النصرة”، الذراع السورية لتنظيم “القاعدة”، على الحدود السورية مع جنوب تركيا لجلب المقاتلين الأجانب الى معركة الإطاحة بالرئيس بشار الاسد. وهكذا أصبحت بلاد أتاتورك القناة الرئيسية لتدفق الأفراد، والأسلحة، والمساعدة اللوجستية للمتمردين. الآن، وبعد سنوات من القتال، تسعى حكومة أنقرة إلى وضع حد لكل ذلك، لا سيما بعد نجاح تنظيم “الدولة الإسلامية”، “داعش” سابقاً، في توسيع إنتشاره في سوريا والعراق. في 3 حزيران (يونيو)، صنّفت أنقرة “جبهة النصرة” بإعتبارها منظمة إرهابية، وأعلنت بأنها جمّدت جميع أصول هذه المجموعة. وعلى الرغم من أنه لا يزال من غير الواضح بالضبط ما هي تلك الأصول، فإن الذي لا يرقى اليه الشك هو أن هذه الخطوة تمثّل نقطة تحوّل في سياسة تركيا تجاه سوريا – إن لم يكن تجاه الصراع نفسه.

منذ أن تحوّلت الإحتجاجات ضد الأسد لأول مرة إلى حرب أهلية، دعم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحكومته معظم الجماعات التي تقاتل لإسقاط نظام البعث في دمشق -من المعارضة المعتدلة إلى الفصائل المتطرفة مثل “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش)، التي تنتشر الآن في العراق. وكان أردوغان واحداً من أشد المعارضين المتحمّسين ضد الأسد منذ بدء القتال – حتى على حساب إستعداء القوى الغربية التي تؤيد على نحو متزايد حلاً من طريق التفاوض.

من خلال السماح لبلاده كي تصبح طريق المتمردين من جميع المشارب للعبور الى سوريا، فشل أردوغان في التمييز بين القوى المعتدلة والجهاديين. كان هذا هو السعر الذي كانت تركيا على إستعداد لدفعه كي تتجنب الهجمات الإرهابية على أراضيها من قبل أي مجموعة تُستبعد، كما يقول ديدم أكيال كولنزوورث (Didem Akyel Collinsworth)، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية. وهذا الخوف كان يقف عائقاً أمام تركيا لإضافة “جبهة النصرة” إلى القائمة السوداء حتى الآن وتصنيفها كمجموعة إرهابية. ولكن كان عليها العضّ على جراحها وإتخاذ موقف ما لأنه أصبح من الواضح أن التطرف في سوريا سوف يستمر ويزدهر، وأن أنقرة يجب أن تكون مستعدة لمواجهة العواقب، بما في ذلك تجاوز العنف عبر حدودها. “قد نرى في الواقع بعض ردات الفعل العنيفة من هذا التصنيف”، قال كولنزوورث.

وكانت مجموعات ذات صلة بتنظيم “القاعدة”، قامت بهجمات إرهابية عدة في تركيا في الماضي، وهذا التهديد الأن قد تكثف فيما تحقق “داعش” مكاسب أرضية في سوريا والعراق. إن سياسة الحكومة التركية في سوريا، مع التهديدات الأمنية التي طرحتها والعبء الاجتماعي والمالي الذي يولده اللاجئون السوريون، لم تكن تحظَى بالفعل بشعبية كبيرة محلياً. إن ظهور تهديد إرهابي جديد على طول الحدود الجنوبية لتركيا يمكن أن يُنظر إليه على أنه نتيجة لقرارات سياسية سيئة، الأمر الذي سيزيد من الضغوط على الحكومة. كما أن الأزمة يمكن أن تكون لها أيضاً آثار إقتصادية إذا سيطرت “داعش” على خطوط الانابيب التي تنقل النفط العراقي الى تركيا.

 "جبهة النصرة": صارت على لائحة الإرهاب في تركيا

“جبهة النصرة”: صارت على لائحة الإرهاب في تركيا

مع ذلك، هناك هدف أبعد من المخاطر، إذ يمكن لتركيا أن تحصل على قدر كبير جراء تكتيكاتها الأخيرة. يمكن لسياستها الجديدة، على سبيل المثال، أن تساعد على تحقيق الإستقرار في علاقات أنقرة مع واشنطن بعد البرودة الأخيرة. لقد توترت العلاقات بين تركيا والغرب منذ أن أقدم أردوغان على قمع الإحتجاجات المناهضة للحكومة بعنف في حزيران (يونيو) 2013؛ كما أنه بعد ستة أشهر، كُشف النقاب عن فضيحة فساد أبطالها مسؤولون رفيعو المستوى (بينهم نجل أردوغان نفسه). ونتيجة لذلك، تحوّلت نظرة الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، إلى تركيا وصار يعتبرها بأنها “تنزلق على حد سواء إلى التسلّط في سياساتها الداخلية وإلى إستشراء الفساد في مفاصلها”، قال جوخان باشيك، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “إيبيك” في أنقرة. مضيفاً: “هناك إعتقاد متزايد بأن أنقرة يجب أن تفعل شيئاً لتغيير صورتها السيئة التي تتفاقم، وينبغي أن يكون ذلك من خلال سياستها السورية”. لقد وضع أردوغان نفسه بإعتباره ممراً إلى التحوّل الديموقراطي في سوريا – موقف يتشارك فيه مع مخاوف واشنطن من تهديد المتطرفين المتزايد – وهذا من شأنه أن يعزّز صورته المنزلقة والمنحدرة على حد سواء في الخارج والداخل.

إن تغيير تصنيف “جبهة النصرة” قد يكون خطوة رمزية نحو تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، ولكن يجب على أردوغان الآن إثبات أن دعمه للفريق المتشدّد- وبالتحديد عبر حدوده المفتوحة لمقاتلي “الجبهة” وشحناتها من الأسلحة والإمدادات – وصل فعلياً إلى نهايته. ومن دون دليل فاعل على وجود تغيير حقيقي في السياسة، سيكون من الصعب إقناع واشنطن.

إمتداد الصداع

ويمكن أيضاً أن توجه الإستراتيجية الجديدة تجاه إسترضاء الجمهور المحلي. لقد كلّف الصراع السوري تركيا أكثر من 3 مليارات دولار منذ العام 2011، مع أقل من عشرة في المئة من هذا المبلغ ساهمت به جهات مانحة اجنبية. وقد أنفق معظم الأموال على القضايا الإنسانية – بالتحديد على الإسكان وتقديم الدعم لأكثر من 720،000 لاجئ مسجل الذين غمروا المدن الحدودية التركية، وما يقرب من مليون لاجئ غير مسجل إضافي الذين يعتقد أنهم يعيشون خارج المخيمات الرسمية. وتقدر الأمم المتحدة أن التدفق الكلّي للاجئين من سوريا يمكن أن يتجاوز 4.5 ملايين بحلول نهاية هذا العام، مع ربعهم يعيش في تركيا.

وقد أثار النزف المالي حفيظة معظم الأتراك، الذين حافظوا على معارضة شديدة لمشاركة بلادهم في الصراع المجاور. وصار غضبهم موضوعاً متكرراً قبل الإنتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في آب (أغسطس) التي يعتبر فيها أردوغان المرشح الرئيسي. لقد أصبح تمدّد الإضطرابات السورية نقطة إشتعال محلية كبرى، لأن كبار المسؤولين في الحكومة قد إستثمروا نفوذاً كبيراً فيها مع مرور الوقت، يقول ستيفن كوك، وهو زميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. ولكن مع العديد من الدول المجاورة في حالة إضطراب، فإن الأفكار الإنعزالية والجبهة الداخلية السلمية هما في غاية الأهمية بالنسبة إلى الأتراك – وهما يشكلان شعوراً كانت أنقرة قد قللت من شأنه بشكل كبير عندما تورطت لأول مرة في الصراع في سوريا.

بإدارة ظهورهم ل”جبهة النصرة”، يمكن ان يكون المسؤولون الأتراك يحاولون كسب ودّ واشنطن وحشد المساعدات المالية. مع ذلك إن حرصهم على توسيع حصتهم من التكاليف من المجتمع الدولي يثير الشكوك في صدق تغيّر موقفهم من الجماعة المتشددة. “عندما صنّفت الولايات المتحدة “جبهة النصرة” مظمة إرهابية وقبلته على هذا النحو الأمم المتحدة، حاول الأتراك الدفاع عنها بضراوة”، أفاد سولي أوزيل، أستاذ في جامعة بلجي في إسطنبول، مضيفاً: “إذا كنت تقرأ الصحف اليومية التي تدعمها الحكومة في ذلك الحين، كانت كلها تكيل المديح ل”جبهة النصرة” وتقول عنها بأنها ليست راديكالية … لقد إعتقدت بأن “جبهة النصرة” والمجموعات الأخرى من المسلحين ستنجح في قلب [نظام الأسد]، وعندما يتم القيام بذلك، يصبح من السهل إحتواؤها”. وقد أوقع سوء التقدير هذا تركيا في مشكلة المصداقية، الأمر الذي عتّم على أملها في حشد تعاطف دولي كيير للمساعدة في العبء الإنساني – خصوصاً في ظل أزمات لاجئين مماثلة يواجهها الأردن ولبنان.

إستمرار هذا الوضع لفترة طويلة

هناك سبب واحد يعلل أكثر التخلي عن “جبهة النصرة”: فهي لم تستطع مجابهة الأسد بمصداقية. إن إعادة إنتخاب الرئيس السوري في 3 حزيران (يونيو) الفائت أوضحت أنه بعد سلسلة من الإنتصارات على الأرض، ولو كانت صغيرة لكنها مهمة، بدا أنه ينوي البقاء في منصبه – وهذا من شأنه أن يرفع ضغط المهاجرين السوريين داخل تركيا أكثر. لذا يحتاج أردوغان الآن إلى أن يكون إلى جانب إدارة أوباما، على حد سواء لتعزيز المساعدة المالية وضمان أن لديه حلفاء في الساحة الدولية.

فيما يشرع في إعادة تقويم إستراتيجيته، فإن أمر اليوم لدى اردوغان هو تقليص النفقات المتعلقة بسوريا، قال عثمان بهادر دنشر، وهو خبير في الشؤون السورية في مركز للأبحاث “يو أس إي كي”. مضيفاً: “قلّلت تركيا من حجم مشكلة سوريا وحاولت أن تضرب فوق قدرتها أو ثقلها. وبسبب إستقطاب السياسة الداخلية، سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل سماع السياسيين يعترفون بأنهم إرتكبوا خطأ أو أخطأوا في حساباتهم”.

"تنظيم "الدولة الإسلامية" "داعش" سابقاً: غيّر المعادلات والسياسات في المنطقة
“تنظيم “الدولة الإسلامية” “داعش” سابقاً: غيّر المعادلات والسياسات في المنطقة

على الحكومة أيضاً أن تفكر بإعادة النظر في السياسات الداخلية تجاه اللاجئين. في 5 حزيران (يونيو) الفائت، قال مسؤولون من حزب العدالة والتنمية الحاكم أنهم يدرسون إصدار تصاريح عمل للاجئين السوريين في المنطقة الحدودية. هذا القرار سيكون خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى السياسات المتبعة تجاه اللاجئين حتى الآن، والتي منحت القليل من الوسائل القانونية للحصول على وضع الإقامة على المدى الطويل. وهذا يشير أيضاً إلى أن الحكومة تسعى إلى دمج السوريين في المجتمع والقوى العاملة، وتحويلهم إلى دافعي ضرائب – إستراتيجية ينادي بها مسؤولون غربيون وجماعات إنسانية.

قد يكون هناك العديد من التحولات الأخرى قيد الإعداد عندما يتعلق الأمر بالدعم اللفظي والمادي للمعارضة المسلحة. في نهاية أيار (مايو)، ذكرت معلومات صحافية أن الحكومة التركية قد أوقفت تدفق المياه الى سوريا من نهر الفرات. لم يتم تأكيد هذه الخطوة من قبل الحكومة التركية، ولكن هذا يمكن أن يؤدي إلى نقص شديد في المياه في الجزء الشمالي من سوريا، والذي تسيطر عليه إلى حد كبير فصائل المتمردين بما في ذلك “جبهة النصرة” و”داعش”.

على العموم، إن التحوّل في السياسة التركية يجب أن يهدّئ من مخاوف القوى الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) من أن المتطرفين في سوريا سوف لن يستطيعوا التفرّع والتفريخ للضرب خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما ينبغي أن يطمئن الأتراك القلقون من أن الخوف من الإنتقام في المقام الأول هو الذي أدّى بأردوغان كي يكون ليناً بالنسبة إلى الارهابيين الذين يعيثون الفوضى في جنوب تركيا. ولكن التخلي عن “جبهة النصرة” في وقت متأخر جداً من الحرب على الأرجح لن يكون كافياً لعرقلة تنامي قوة الجماعات المتطرفة في سوريا، التي تملك الآن اليد العليا في مساحات واسعة من البلاد – بما في ذلك المناطق القريبة من الحدود التركية. إن التغيير المتأخر لوجه أنقرة، في حين يخدم في تعزيز صورة أردوغان في الغرب، قد لا يكون في النهاية له تأثير ملموس يذكر في فناء بلاده الخلفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى