في ظلِّ تراجُعِ الريال وتفاقُمِ الضغوط الاقتصادية، لم تَعُد العملات المُشَفّرة ظاهرة هامشية في إيران، بل تحوَّلت إلى واقعٍ يفرضُ نفسه على الدولة والمجتمع معًا. وبينَ محاولاتٍ التنظيم ومخاوف فقدان السيطرة النقدية، يتشكّلُ فصلٌ جديد من الجدل الاقتصادي والسياسي.
هشام الجعفري*
نادرًا ما يُستدعى موقع المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، في نقاشاتٍ يُفتَرَضُ أنها تقنيةٌ أو اقتصادية بحتة، من دون أن يكونَ في ذلك دلالة سياسية أعمق. لذلك بدا لافتًا أن يُقحَمَ اسمه في سياقِ الجدلِ المُتصاعِد حول العملات الرقمية، خلال مؤتمر “رمزاتي” ((RamzAti)) الذي عُقِدَ الأسبوع الماضي في طهران، في لحظةٍ تعكس حساسية المرحلة التي يمرُّ بها الاقتصاد الإيراني.
فقد رأى محمد رضا بور إبراهيمي، الأستاذ في جامعة طهران ورئيس اللجنة الاقتصادية في إحدى الهيئات الرقابية، أنَّ انخراطَ العملات الرقمية في الاقتصاد الإيراني لا يمكن أن يتمَّ من دون توجيهات مباشرة من المرشد الأعلى. غير أنَّ هذا الطرح بدا، في نظر كثيرين، متأخِّرًا عن الواقع، بل مُتناقضًا معه، إذ لم تَعُد العملات الرقمية فكرة نظرية أو مشروعًا قيد الدرس، بل تحوّلت إلى ممارسة يومية متجذِّرة في حياة شريحةٍ واسعة من الإيرانيين.
اليوم، يُقدَّرُ عدد المتعاملين بالعملات الرقمية بنحو خمسة ملايين شخص، ينشطون عبر أكثر من مئة منصّة تَداوُل محلية، بالتوازي مع لجوئهم إلى الذهب كأداة تحوّط تقليدية. ويكشف هذا التحوُّل في سلوك الأفراد حجمَ التآكل الذي أصاب الثقة بالريال الإيراني، في ظلِّ تراجعه المستمر أمام الدولار الأميركي، نتيجة العقوبات المتواصلة والاضطراب الاقتصادي المُزمِن. وحتى وقتٍ قريب، كان الدولار يُتداول عند مستوى غير مسبوق بلغ نحو 1.25 مليون ريال، في إشارةٍ صارخة إلى عمق الأزمة النقدية التي تدفعُ الإيرانيين إلى البحث عن بدائل خارج النظام المالي الرسمي.
بناءً على ذلك، لا يبدو لجوءُ الإيرانيين إلى الذهب أو العملات المُشَفَّرة خيارًا هامشيًا أو سلوكًا عابرًا، بل استجابة عقلانية لبيئةٍ نقدية شديدة الاضطراب. فصحيحٌ أنَّ العملات الرقمية، ولا سيما “بيتكوين”، تتسم بتقلُّبات حادة، إلّا أنها تمنحُ مستخدميها هامشًا للنمو والحماية من التآكل المستمر للقيمة. وإلى جانبها، برزت العملات المُستَقرّة، وعلى رأسها “تيثر” المرتبطة بالدولار الأميركي، بوصفها أداة تبادل وتخزين بديلة، خصوصًا لدى فئاتٍ واسعة باتت تنفرُ من استخدام الريال في المعاملات اليومية أو في الادخار.
ويعكس بروز مؤتمر ومنصة “رمزاتي” مدى انتقال النقاش حول العملات المشفّرة من الهامش إلى قلب النقاش الاقتصادي الرسمي في إيران. فقد حضرَ المؤتمر عددٌ من كبار صانعي القرار، بينهم محمد رضا فرزين، محافظ البنك المركزي، الذي كان قد عَبَّرَ في مراحل سابقة عن تشكيكه في جدوى العملات الرقمية ومخاطرها، إضافةً إلى رئيس بورصة طهران، وعدد من النواب وأعضاء اللجان البرلمانية المختصّة. هذا الحضور الكثيف لم يكن رمزيًا، بل مؤشِّرًا إلى إدراكٍ متأخِّر بأنَّ الظاهرة تجاوزت قدرة الدولة على الإنكار أو التأجيل.
يُدركُ المسؤولون الإيرانيون اليوم أنَّ تجاهُلَ العملات المُشفّرة لم يَعُد خيارًا واقعيًا، وأنَّ التأخُّرَ في تنظيمها يُفاقِمُ المخاطر بدل أن يحدَّ منها. وفي هذا السياق، استعادَ محمد رضا بور إبراهيمي تجربةً تعود إلى العام 2017، حين أعلن محافظ البنك المركزي آنذاك، خلال جلسةٍ برلمانية، أنَّ البنك “لا يوافق” على العملات الرقمية ودعا المواطنين إلى عدم استخدامها. وبحسب بور إبراهيمي، فإنَّ هذا الخطاب لم يؤدِّ سوى إلى اتساع الفجوة بين السياسة الرسمية والواقع الفعلي، حيث استمرَّ الناس في التداول بعيدًا من أعين الجهات الرقابية.
ومنذ ذلك الحين، بدأت مؤسّسات الدولة الأساسية، ولو ببطء وتردُّد، في تعديل مقاربتها. فإيران، التي سبقَ أن شرعنت تعدين العملات الرقمية جُزئيًا في العام 2019 لاستخدامه كأداةٍ للالتفاف على القيود المالية والعقوبات، وجدت نفسها أمام سوقٍ داخلية نشطة يصعب ضبطها من دون إطارٍ قانوني واضح. هذا التحوُّل في النظرة لا ينطلقُ فقط من هاجس الابتكار المالي، بل من الخوف من فقدان السيطرة النقدية.
وفي مُداخلته خلال المؤتمر، حذّر مهدي طغياني، نائب رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان، من أنَّ دفعَ تجارة العملات المشفّرة إلى الظلِّ أو السوق السوداء سيُفاقِمُ الضغوط على الريال بدل أن يحميه، مؤكّدًا أنَّ غيابَ القوانين لا يوقف التداول بل يجعله أقل شفافية وأكثر خطورة. كما لفت إلى أنَّ منصّات تداوُل الذهب عبر الإنترنت، التي تشهدُ بدورها إقبالًا مُتزايدًا، يمكن أن تتحوَّلَ إلى أداةٍ لتحفيز النشاط الاقتصادي وجذب السيولة، شرط أن تعملَ ضمن منظومةٍ تنظيمية واضحة تحمي المستخدمين وتمنع المضاربات غير المنضبطة.
بهذا المعنى، لا يدورُ الجدل في إيران حول ما إذا كانت العملات المشفّرة ستُصبحُ جُزءًا من المشهد الاقتصادي، بل حول الكيفية التي ستتعامل بها الدولة مع واقعٍ فرض نفسه، في لحظةٍ تتقاطع فيها الأزمات النقدية مع القيود السياسية والمالية، ويبحث فيها المُواطِن عن أيِّ وسيلةٍ مُمكنة للحفاظ على قيمة ما يملك.
في هذا السياق، يتحرّك البرلمان الإيراني على أكثر من مسار لتهيئة بيئة تشريعية تتلاءم مع التحوُّلات المُتسارعة في الاقتصاد الرقمي. ففي الأسبوع الماضي، أقرّ النواب قانون “تطوير الاقتصاد الرقمي وإزالة العقبات التي تعترضه”، في خطوةٍ تعكس اعترافًا رسميًا بأنَّ هذا القطاع لم يَعُد هامشيًا. ويهدفُ القانون إلى تبسيط الإجراءات البيروقراطية أمام المنصّات الرقمية، بما في ذلك منصّات تداوُل العملات المشفّرة والذهب، مع منحها قدرًا من الحماية القانونية التي كانت تفتقر إليها سابقًا. كما ينصُّ على تعزيز المنافسة ومنع احتكار السوق، في محاولةٍ لقَطعِ الطريق أمام هيمنة الشركات الكبرى أو الجهات شبه الحكومية على هذا المجال الناشئ.
بالتوازي، بدأ البنك المركزي بدوره إعادةَ صياغة مُقاربته التنظيمية. ففي أيلول (سبتمبر) الماضي، أصدر لوائح قانونية جديدة لتنظيم التعامل بالعملات المشفّرة، وأعلن عن تشكيلِ مجلسٍ استراتيجي للتقنيات المالية الحديثة، عقد حتى الآن خمس جلسات، ما يشير إلى وتيرة عمل متسارعة مقارنة بسنوات الجمود السابقة. ومنذ العام الفائت، تتولّى نوشافرين مومن واغيفي رئاسة قسم التقنيات الجديدة في البنك المركزي، لتصبح أول امرأة تشغل منصب نائب المحافظ في تاريخه.
وتحظى مومن واغيفي، البالغة من العمر 52 عامًا والحاصلة على الدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة ليون الفرنسية، بسمعةِ الداعمة لقطاع التقنيات المالية والعملات المُشَفّرة. وقد علّق موقعٌ إيراني مُتخصِّص في الشؤون المالية على تعيينها بالقول إن الآمال مُعلّقة على أن تعتمدَ “نهجًا إيجابيًا في صنع السياسات، على خلاف المقاربة المتشائمة التي طبعت أداء الجهات التنظيمية في السابق”. ويعكس هذا التقييم توقّعات داخل السوق بأن يشهد البنك المركزي قدرًا أكبر من البراغماتية في تعاطيه مع الظاهرة.
وخلال مشاركتها في مؤتمر “رمزاتي”، حرصت مومن واغيفي على تبديد المخاوف السائدة، مُؤكّدةً أنها لا تُعارض العملات المشفّرة من حيث المبدأ. وأضافت أنَّ البنكَ المركزي لا يُعارِضُ مفهوم “الترميز”، في إشارةٍ إلى تحويل الأصول المادية أو المالية إلى وحداتٍ رقمية قابلة للتداول، وهو مسارٌ يُنظَرُ إليه بوصفه أقل خطورة وأكثر قابلية للضبط من العملات اللامركزية بالكامل. كما استشهدت بتجارب دول مثل الإمارات العربية المتحدة واليابان وسنغافورة وماليزيا، مُعتبرةً أنها نماذجٌ لدولٍ نجحت في بناء أُطُر حوكمة قوية ومُتوازِنة للعملات المشفّرة، تجمع بين الابتكار والرقابة.
غير أنَّ هذه الإشاراتَ الإيجابية لا تعني حَسمَ الجدل داخل مؤسسات الدولة. فالتوتُّرُ لا يزال قائمًا بين الرغبة في الاستفادة من أدواتٍ مالية جديدة تخفف الضغط عن الاقتصاد، وبين الخشية من فقدان السيطرة النقدية في بلدٍ يُعاني أصلًا من ضعف الثقة بعملته الوطنية. وبين هذين الاعتبارين، يبدو أنَّ إيران دخلت مرحلة اختبار: هل تنجح في تحويل العملات المشفّرة من تهديدٍ مُحتَمَلٍ إلى أداةٍ منظمة، أم أنَّ ثقلَ البيروقراطية والتجاذبات السياسية سيُعيدانها إلى دائرة الحظر غير المُعلَن؟
غيرَ أنَّ هذا الانفتاح المشروط لا يخلو من تحذيراتٍ صارمة. فقد شدّدت نوشافرين مومن واغيفي على أنَّ غيابَ منظومة حَوكَمة واضحة وقابلة للتنفيذ في هذا القطاع المُتسارِع قد يقود إلى “عواقب وخيمة”. وذهبت أبعد من ذلك حين رسمت خطوطًا حمراء واضحة، مُحذّرةً من تحويل الذهب أو العملات المشفّرة إلى عملةٍ رئيسة للتبادُل داخل البلاد، مُعتبرةً أنَّ مثلَ هذا المسار من شأنه أن يُضعِفَ الريال ويُقوّضَ ما تبقّى من دوره النقدي.
وتبرزُ في هذا السياق المخاوف المتزايدة من الانتشار الواسع للعملات المُستقرّة، وعلى رأسها “تيثر”، التي ترتبطُ بالدولار الأميركي وتُستخدَمُ فعليًا كبديل نقدي غير رسمي. ويرى منتقدو هذا التوجُّه أن اتساعَ استخدام هذه العملات قد يجعل الريال أقل أهمية في المعاملات اليومية والادِّخار، ما يُضعِفُ قدرةَ الدولة على إدارة السياسة النقدية. وقد حذّرت تقاريرٌ صحافية محلّية من أنَّ ممارسات مضاربية اعتمدها بعضُ منصّات التداوُل الإلكترونية أدت إلى خسارة عددٍ كبير من الإيرانيين لمُدَّخراتهم، في ظلِّ غيابِ الرقابة والمعايير الواضحة. ومن هنا، تُعلَّقُ آمالٌ متزايدة على أن يؤدّي تعزيزُ الإطار التنظيمي، وسنّ قوانين أكثر دقة، وبناء آلية حوكمة قوية، إلى الحدِّ من هذه المخاطر وتجنُّبِ تكرارها مستقبلًا.
في المقابل، أبدت مؤسّساتُ السوق التقليدية استعدادها للدخول إلى هذا المجال الجديد. فقد أعلن محمود غودارزي، رئيس بورصة طهران، خلال الفعالية نفسها، أنَّ مؤسّسته تعملُ منذ أكثر من عام على دراسةِ سُبُلِ دخولِ سوق العملات المُشفّرة. وأشارَ إلى خططٍ لإدخال صناديق استثمار قائمة على العملات المشفّرة وأصول رقمية أخرى إلى سوق الأوراق المالية، في محاولةٍ لاحتواء الظاهرة داخل قنوات رسمية ومنظّمة. وقال غودارزي: “لقد تغيّرت أذواق المستثمرين، ويجب أن يعكس سوق الأوراق المالية هذا التغيير”، في إقرارٍ صريح بتحوّل أنماط الاستثمار لدى الإيرانيين.
ومن شأن هذا الدعم المتزايد من مؤسّساتٍ كبرى أن يُطَمئنَ أولئك الذين راهنوا على مستقبل العملات المشفّرة في إيران، سواء كمجالٍ استثماري أو كأداةِ تحوُّط. إلّا أنَّ القلقَ لا يزال قائمًا لدى شريحةٍ واسعة من الفاعلين في السوق من احتمال أن تميلَ السلطات إلى الإفراط في التنظيم، بما قد يخنق القطاع بدل تنظيمه. وقد عبَّر بعضُ الخبراء المشاركين في مؤتمر “رمزاتي” عن هذا التخوّف صراحة، مُشيرين إلى أنَّ غيابَ القوانين قد يكون، في بعض الحالات، أقل ضررًا من تطبيق منظومة متشابكة ومتناقضة من اللوائح. فالتحدّي الحقيقي، وفق هؤلاء، لا يكمن في سنّ القوانين بحد ذاته، بل في قدرتها على موازنة الابتكار بالحماية، من دون أن تتحوَّلَ إلى عبءٍ يفرغ التجربة من مضمونها.
ومع ذلك، يبقى من الضروري التنبيه إلى أنَّ العملات المشفّرة لا تُمثّلُ حلًا سحريًا لأزمات إيران الاقتصادية العميقة، ولا يمكنها، بمفردها، تعويضَ اختلالاتٍ هيكلية تفاقمت على مدى سنوات، في مقدّمها أثر العقوبات الدولية المستمرة. فمهما اتّسع نطاقُ استخدامها داخليًا، تظلُّ هذه الأدوات محدودة الفعالية في اقتصادٍ مُحاصَرٍ ومعزولٍ إلى حدٍّ كبير عن النظام المالي العالمي.
وفي هذا السياق، أشار محمد رضا بور إبراهيمي إلى تطوّرٍ لافت زاد من تعقيد المشهد. فمنذ اندلاع حرب “الأيام الاثني عشر” مع إسرائيل والولايات المتحدة خلال الصيف الماضي، فُرِضَت قيودٌ إضافية أدّت فعليًا إلى حظر أو تعطيل العديد من معاملات العملات المشفّرة التي تشمل أطرافًا إيرانية، سواء عبر منصّاتٍ دولية أو مزوّدي خدمات أجانب. ونتيجةً لذلك، تراجع الحجم الإجمالي للتداوُل، في مفارقة تكشف حدود الرهان على هذه الأدوات في ظلِّ بيئةٍ جيوسياسية متوتّرة.
وعلى غرار قطاعاتٍ اقتصادية أخرى، من الطاقة إلى التكنولوجيا، تبقى الإمكانات الكامنة لإيران في مجال العملات المشفّرة والاقتصاد الرقمي غير مُستَغَلَّة إلى حدٍّ كبير ما دامت العقوبات قائمة. فغيابُ الوصول إلى الأسواق العالمية، ورؤوس الأموال، والبنى التحتية المالية الدولية، يُحوِّلُ ما يمكن أن يكون فرصةً إلى مساحةٍ حركة ضيِّقة ومُقيّدة. وبين طموحات التنظيم الداخلي وقيود العزلة الخارجية، يبدو أنَّ مستقبل العملات المشفّرة في إيران سيظل، في المدى المنظور، رهينًا لعوامل تتجاوز بكثير حدود التكنولوجيا نفسها.
* هشام الجعفري هو مراسل “أسواق العرب” في إيران.
