في لحظةٍ تتشابكُ فيها حساباتُ القوى الداخلية مع صراعاتِ الإقليم، يدخلُ لبنان مسارَ التفاوُض مُثقَلًا بتبايُناتٍ حادة في مستويات النُضجِ السياسي بين أطرافه. ومع تصاعُدِ الضغوطِ الدولية وتفاقم المأزق المحلي، يلوحُ سؤالٌ جوهري: هل تتهيَّأ البيئة الإقليمية والداخلية فعلًا لولادةِ تسوية، أم أننا لا نزال في مُنتصف الطريق نحو “النضج” الذي يشترطه السلام؟
ملاك جعفر عبّاس*
لا تزالُ تداعيات تعيين السفير السابق سيمون كرم كرئيسٍ مدني للفريق اللبناني المُفاوِض في اللجنة الخماسية المُكَلّفة مُراقبة وقف إطلاق النار –المعروفة محلّيًا بـ”الميكانيزم”– تتفاعلُ بقوة وتتردّد في المشهدَين الإعلامي والرقمي في لبنان. وكما جرت العادة في القضايا ذات الصلة بالملفّات السيادية، انقسمَ الرأيُ العام اللبناني بين مَن يرى في الخطوة ضرورةً سياسية، وبين مَن يَعتبِرُها تنازُلًا غير مُبَرَّر، ليعود الجدلُ القديم حولَ مَبدَإِ التفاوُض وهَويّة المُفاوِض إلى الواجهة من جديد.
هذا التعيين، على محدوديته الإجرائية، أحدث شرخًا صغيرًا في الجدار السياسي الإسمنتي الصلب الذي يزداد ارتفاعًا منذُ تثبيت وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. غير أنَّ انطلاقَ المفاوضات في مناخٍ إقليمي ومحلّي مُتوتِّر لا يمنح تفاؤلًا كبيرًا، ما لم تبلغ أطراف النزاع مستوى كافيًا من النضج السياسي الذي يجعلُ التفاوض خيارًا واقعيًا لا مجرّد مناورة، وذلك بحسبِ أهمِّ مفاهيم حلِّ النزاعات المعمول بها دوليًا والمعروفة ب”نظرية النضج” للأكاديمي الأميركي وليام زارتمان.
نظرية النضج: الإطارُ الحاكم للحظة التفاوض
تُعَدُّ هذه النظرية مَدخلًا أساسيًا لفَهمِ اللحظة التفاوضية في سياق الصراعات المُعَقّدة. إذ يُشدّد زارتمان على أنّ نجاحَ التفاوض لا يَرتَبطُ بحُسنِ النيّات ولا بمحاولاتِ الضغط الأخلاقي، بل ببلوغِ الأطرافِ مرحلة يُدرِكُ فيها كلٌّ منها أنَّ كلفةَ استمرارِ النزاع تفوق بكثير أيَّ فوائد أو مكاسب مُحتَملة. عندها فقط يَظهَرُ ما يُسَمّيه “المأزق المتبادل الضرر” (Mutually hurting stalemate)، حيث يلتقي الألم الناتج عن الخسائر البشرية والضغوط الاقتصادية والسياسية مع حالة الجمود العسكري والسياسي، فلا نصرَ حاسمًا لطرفٍ ولا قُدرةً على تحمُّلِ المزيد من الكلفة للطرف الآخر.
هذا المأزق ليس كافيًا بحدِّ ذاته ما لم ترَ الأطرافُ المُتنازِعة مسارًا بديلًا- عادةً ما يُطرَحُ من قبل وسيطٍ مقبول من الجميع- يُحقّقُ الأمن، والمحافظة على ماء الوجه سياسيًا، ويُؤمِّن شكلًا من أشكال المكسب أو الكرامة يمكن أن يُسَوِّقهُ كلُّ طرفٍ عند جمهوره. أما إذا بدا البديلُ مُهينًا أو أسوأ من الوضع الحالي، فستختار الأطراف تحمُّل المأزق خصوصًا في النزاعات غير المتكافئة بين جيشٍ نظامي وفاعلٍ خارج إطار الدولة، كما هي الحال بين إسرائيل و”حزب الله”.
لبنان الرسمي: نضجٌ تفاوضي في مُواجهةِ انسدادٍ إقليمي
يَدخُلُ لبنان الرسمي المفاوضات السياسية وهو في حالةِ نضجٍ تام، حيث يُدرِكُ رئيسا الجمهورية والحكومة جوزيف عون ونوّاف سلام، وإلى حدٍّ كبير رئيس مجلس النواب نبيه بري، استحالةَ الخروجِ من الوضع الحالي ودَرءَ أخطارِ التصعيد إلّا بالمفاوضات. وقد وضعوا مُحَدَّدات واضحة لما سيطرحه المُفاوِضُ الرسمي من وقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب من الأراضي المحتلة وإعادة الاسرى وصولًا إلى ترسيم الحدود.
أمّا “حزب الله” فلا يبدو أنه بلغ بَعد مرحلةَ النضج السياسي المطلوبة لفتحِ مسارٍ تفاوضي فعلي. بل يُمكِنُ القول إنَّ مستوى النضج الذي وصل إليه الأمين العام السابق السيد حسن نصرالله عقب عملية “البايجر”، والذي قاده إلى القبول بوقف إطلاق النار والانسحاب جنوب الليطاني، قد توقّف عند هذا الحد من دونِ أن يتطوَّرَ إلى رؤيةٍ أوسَع للخروجِ من المأزق الراهن. فالحزبُ، ومعه إيران، لم يُقدِّما حتى الآن تصوُّرًا مُتكاملًا لمستقبل ما بعد المواجهة، بل يتمسّكان بقراءةٍ أحادية لاتفاق وقف إطلاق النار تَحصرُ الانسحاب بجنوب الليطاني، وتَربطُ مستقبل السلاح ببلورةِ استراتيجيةِ دفاع وطني مؤجّلة وغير واضحة المعالم.
ورُغمَ تراكُم الخسائر البشرية والميدانية والاقتصادية، لا تبدو “صرخة الألم” التي تحدّث عنها زارتمان قد صدرت بعد عن الحزب. على العكس، يستمرُّ في خطابٍ يؤكّدُ القدرةَ على التعافي وانتظارِ لحظةِ مُواجَهة جديدة، مُتَمَسِّكًا بأنَّ السلاحَ لا يزالُ مصدرَ قوة للبنان ودرعَ حمايةٍ لجمهوره، رُغمَ المؤشّرات المتزايدة التي تشي بأنَّ الكلفة باتت تتجاوز الفائدة. وبحسب مقاربة زارتمان، فإنَّ النضجَ هو تصوُّرٌ لا يتعلّقُ بالواقع بالضرورة، بل بكيفية تفسير القادة للواقع، أي أنه أقرب لحالةٍ نفسية من كونه يعتمد على حساباتٍ موضوعية.
إيران لا يبدو أنها قريبة أصلًا من مرحلة النضج في ما يتعلّقُ ب”حزب الله”، الذي تعتبره خطَّ الدفاع المُتقدِّم عن الأمن القومي الاستراتيجي الإيراني. وهي ليست في واردِ التخلّي عنه بعد، رُغمَ تصريحات الخارجية الإيرانية التي ُتردّدُ باستمرار لازِمةَ عدمِ التدخُّل في شؤون لبنان الداخلية. إلّا أنَّ دوائرَ الحرس الثوري، والمرشد الأعلى علي خامنئي، هي التي تملكُ الكلمة الفصل في ملف “حزب الله”، وهي ترى أنَّ بقاءه أهم من الماء والخبز بالنسبة إلى لبنان.
إسرائيل والولايات المتحدة: تفاوُضٌ بين وهم القوة وصناعة النضج
أمّا إسرائيل، فتدخل إلى ميدان التفاوض مُثقَلةً بترسانتها المُدمِّرة ورؤيتها التوسُّعية المُضمِرة. لا يزال بنيامين نتنياهو يعيشُ في وَهمِ انتصارٍ يمنحه شعورًا بالتحليق فوق الوقائع، من دون أن يهبطَ بعد إلى مستوى الحقائق التي نقلها المبعوث الأميركي توم براك، ومفادها أنَّ نزع سلاح “حزب الله” بالقوة أمرٌ غير قابل للتحقق، وأنَّ البديلَ الواقعي قد يكمن في إقناع البيئة الشيعية بالتخلّي عن السلاح لا فرضه عليها قسرًا.
وعلى هذا الأساس، تبدو المقاربة الإسرائيلية أقرب إلى مناورةٍ سياسية تُتيحُ تلبيةَ الإلحاح الأميركي على الدخول في مسارٍ تفاوضي، من دون التخلي فعليًا عن منطق القوة المُفرِطة. فإسرائيل تُجيدُ استخدامَ الوقت كتكتيك، مُسايرةً طاولة التفاوض لفظيًا، فيما تواصل آلتها العسكرية السعي إلى فرضِ شروطِ استسلامٍ مُقنّع على الطرف الآخر.
لكن إسرائيل، بدورها، لم تبلغ بعد مرحلة النضج التي تحدّث عنها زارتمان. فهي ما تزالُ أسيرةَ قناعةٍ راسخة بأنَّ مزيدًا من القوة قادرٌ على صناعة النصر المُطلَق، متجاهلةً أنَّ التجاربَ السابقة أثبتت حدود هذا المنطق، وأنَّ الاستمرارَ في الاعتماد عليه يُفاقِمُ المأزق بدل أن يُقدّمَ حلولًا.
أما الولايات المتحدة، المهندسة لعمل لجنة “الميكانيزم” ولكلِّ مراحل التفاوض الموعودة، فتبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى في مرحلة النضج التفاوضي. فرُغمَ تصريحاته الصادمة أحيانًا، يُبدي برّاك ليونةً تدريجية في مقاربته للواقع اللبناني. الرجل يضمرُ أكثر مما يُظهِرُ ويتحدّثُ عن صِيَغٍ مُبهَمة، عن مشاريع تُعيدُ صياغة النظام السياسي اللبناني، لا تندرجُ تحت عنوان “تغيير الأنظمة” التي اشتهرت فيها بلاده وفشلت جميعها كما قال. يأخذُ في حساباته المُستَجِدّة أهمية الحفاظ على السلم الأهلي وعلى إنتاجِ صيغةٍ تعكسُ وَزنَ الشيعة في المعادلة الداخلية. لا يبدو أنَّ الولايات المتحدة جاهزةٌ الآن لإغضاب حلفائها المسيحيين، فحزب “القوات اللبنانية” غيرُ جاهزٍ في مرحلةِ صعوده الصاروخي في زعامة المسيحيين، لتقديم أيِّ تنازلات للحزب المهزوم من وجهة نظره.
يقول زارتمان أنَّ النضجَ يجب أن يتحقّق بشكلٍ مُتزامن بين جميع الأطراف قبل أن يُصبِحَ السلامُ الشامل مُمكِنًا، وأنَّ المفاوضات التي تحصل قبل هذه المرحلة غالبًا ما تفشل. ويقول برّاك أنَّ الحربَ لم تنتهِ بعد، فربما نكون في الفصل الخامس من فصولها العشرة. وعليه، تبدو الولايات المتحدة في طور “تصنيع النضج”، أو خلق الظروف المُهَيِّئة للوصول إليه ضمن خطةٍ مُرَكَّبة ترتكزُ إلى التالي:
- إطلاق العصا الغليظة الإسرائيلية بحدودٍ مضبوطة أميركيًا مقابل حديث عن محدودية نجاح المسار العسكري مُنفردًا وضرورة التفكير في بدائل أخرى، وهو كلامٌ مُوَّجه إلى إسرائيل.
- ضغطٌ نفسي كبير على المجتمع اللبناني من خلال الترويج لسيناريوهات تُعيدُ إحياء التروما الوجودية، ليس فقط عند الشيعة بل عند المسيحيين أيضًا. فالتلويح بنسف الجغرافيا اللبنانية برمّتها، إن تحقّقَ مشروع إسرائيل الكبرى أو مشروع إدماج لبنان بسوريا، مُوَجَّهٌ ليس فقط إلى “حزب الله” بل إلى “لقوات اللبنانية” التي ربما تريد منها الولايات المتحدة إعادة التفكير في وزن المسيحيين في النظام السياسي مقابل خسارة الكيان المستقل.
- خلطةٌ مُعَقَّدة من العقوبات الاقتصادية التدريجية الخانقة على “حزب الله”، وتضييقٌ على مسارات التهريب والتمويل.
- وَضعُ الدولة برئاساتها وأجهزتها المدنية والعسكرية تحت الضغط الأقصى سياسيًا وماليًا لدفعها للالتزام بالخطة بمراحلها المُزمِنة وضبط أدائها الداخلي.
يبقى المسعى الأميركي لإنضاجِ مواقف كلٍّ من إسرائيل ولبنان الرسمي و”حزب الله” قاصرًا عن مقاربة بيت القصيد في طهران. من الواضح أنَّ حرب الاثني عشر يومًا بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل قد أضعفت الأخيرة بشكلٍ كبير، لكنها لم تُنهِها عسكريًا ولم تُؤدِّ الى تغييرٍ عميقٍ في عقيدة الأمن القومي الاستراتيجي الإيراني التي يحتل فيها “حزب الله” موقعَ الدفاع المُتقدِّم. وبالتالي يمكن للخارجية الإيرانية أن تُردِّدُ يوميًا أنها لا تتدخّل في الشأن اللبناني، وهذا قد يكون صحيحًا فملف “حزب الله” ليس في وزارة الخارجية، بل على مكتب المرشد الأعلى نفسه ومن بعده الحرس الثوري. وطالما لم يَصدُر الأمر من هذا المكتب لن يكونَ بمقدور قيادة “حزب الله” الهشّة والمُتخبِّطة اتخاذ أيِّ قرارٍ استراتيجي بحجم إلقاء السلاح طوعًا وعلنًا. لذا ربما يجدر التفكير في مُقاربةٍ أكثر واقعية لإنضاج اللاعب الإيراني عبر شركاٍء موثوقين، كالمملكة العربية السعودية ودولة الامارات وتركيا وباكستان، التي يمكنها أن تُقدِّمُ حلولًا ضمن منظومة العمل الإسلامي لا يمكن للولايات المتحدة ان تُنجزها بالضغط الأقصى.
بعد ذلك يُمكِنُ إطلاقُ حوارٍ داخلي برعايةٍ دولية بهدف إعادة ترسيخ العقد الاجتماعي بين اللبنانيين. فإن كانت الولايات المتحدة تعتقدُ أنَّ لبنان يحتاجُ إلى إعادة صياغة لتوازُناته الطائفية في نظامه السياسي، عليها أن تتذكّرَ أنَّ تغيير هذه التوازنات لم يتحقّق يومًا بالطُرُقِ السلمية في لبنان، وأنَّ كلفة هذا المشروع على السلم الأهلي قد تكون باهظة. لذا فإن رمي الأفكار في مقابلات صحافية من هنا وندوات من هناك قد يحدث أثرًا عكسيًا، إن لم يكن مدعومًا بتصوُّرٍ واضح ومُرضٍ لجميع الأطراف، وإرادةٍ سياسية صلبة لتحقيقه. فقط عندما يتحقق فك الارتباط الخارجي ويُعادُ ترسيخُ العقد الاجتماعي، يُمكِنُ للبنانيين التفكير جدّيًا في مسارٍ حقيقي للسلام مع إسرائيل إن كان هناك شريكٌ يمكن التحاور معه على الضفة الأخرى.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
