بَينَ السيِّد القائد والأخ الأكبر: مَن يُمسِكُ بقرار “حزب الله” في لبنان؟

في خضمِّ التحوّلات الإقليمية والداخلية التي عصفت بلبنان بعد حرب أيلول (سبتمبر) 2024، برز رئيس مجلس النواب نبيه بري لاعبًا محوريًّا أعادَ رَسمَ موازين القوى داخل الطائفة الشيعية. لم يَعُد دوره يقتَصِرُ على الوساطة التقليدية، بل تحوَّلَ إلى مرجعيةٍ سياسية قادرة على كَبحِ “حزب الله” وتوجيه مساره نحو الدولة ومؤسّساتها.

الشيخ نعيم قاسم: لا يستطيع ملء الفراغ الذي خلفه رحيل السيد حسن نصرالله.

ملاك جعفر عبّاس*

أقرّت الحكومة اللبنانية خطّة الجيش لحصر السلاح بيد الدولة، تنفيذًا للتكليف الصادر عن جلستَي الخامس والسابع من آب (أغسطس) الماضي. وجاء القرار في إطارِ سيناريو مدروس، خرج فيه الوزراء الشيعة من كلِّ جلسةٍ معترضين لكن من دون استقالة، لتمرّ الخطة في النهاية من دون تحديد مُهَلٍ زمنية، وكأن الجميع نزل عن الشجرة دفعةً واحدة. الكلمة الحاسمة صدرت عن رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي أبدى ارتياحه لمسار الجلسة، بعدما كان كثيرون يتوقّعون أن تكونَ شرارتها بداية حرب كبرى لا تُبقي ولا تذر، في ظلِّ مستوى التهديد والوعيد الذي سبقها من قيادة “حزب الله” ومناصريه والمتحدّثين باسمه في الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي، وكذلك من إسرائيل ومن طاقم المبعوثين الإقليميين والدوليين المُكَلّفين بالملف اللبناني.

وفي أعقاب ذلك، انطلقت مواكبُ الدراجات النارية تجوبُ شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت، مُحتفلةً بما اعتبرته انتصارًا (!!!)، ورافعةً أعلام “حزب الله” وحركة “أمل”، على وَقعِ هتافاتٍ وأغنيات تمجّد الرئيس نبيه بري: “منحبّك… نبيه بري منحبّك”. بدا وكأنَّ الجميع في لبنان شعرَ أنه حقّقَ مكسبًا ما، لا سيما أنَّ بري، بصفته عرّاب الحلول وصانع الصفقات الدائم تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب”، خرج هذه المرة بما هو أبعد من تسوية عابرة. فالذي جرى لم يكن مجرّد صفقة سياسية جديدة، بل إشارة إلى تحوّلٍ استراتيجي، لا يقتصرُ على إعادة ترتيب العلاقة بين “حزب الله” وحركة “أمل”، بل يتجاوز ذلك إلى ترسيخ مرجعية قرار أحد أبرز أقطاب “محور المقاومة والممانعة” في المنطقة.

العلاقة بين “أمل” و”حزب الله”

تاريخ العلاقة بين حركة “أمل” و”حزب الله” مُعقَّدٌ بتشابك المصالح واحتدام المنافسة التي تجد بابًا للتكامل وقت السلم لكنها لم تجد بٌدًّا من القتال زمن الحرب. منذ نشوء الحزب في الثمانينيات كحركةٍ انشقاقية عن حركة “أمل” خاضَ الطرفان حربًا أهلية مُصَغَّرة بين العامين 1988 و1990 عُرِفت “بحرب الأُخوة” قبل أن تفرضَ المعادلات الإقليمية، خصوصًا السورية والإيرانية، تسويةً أنهَت النزاع وأدخلت الطرفَين في صيغةِ تعايُشٍ قسري داخل الطائفة الشيعية احتفظت به “أمل” بالمؤسسات السياسية والتمثيل الرسمي بينما قاد “حزب الله” “المقاومة|” المسلّحة ضد إسرائيل.

إلّا أنَّ هذا التوازُن تغيّرَ لمصلحة الحزب بعد التحرير في العام 2000، وتجلّى بوضوح بعد حرب ال2006 حيث تَسَيَّدَ الحزبُ المشهد بفعل النفوذ الإيراني، الذي ملأ فراغ الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005. وشكّلَ اغتيالُ الأمين العام السابق للحزب السيد حسن نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين في حرب الخريف الماضي لحظةَ انعدامِ الوزن، التي فتحت مُجَدَّدًا سؤال القيادة داخل البيئة الشيعية، وأعادت طرح الرئيس بري “كأخٍ أكبر” ليس فقط بدور الغطاء الرسمي الذي لعبه لفترةٍ طويلة، وإنما بصفته القادر على كبح “حزب الله” وتوجيه قراراته.

فقد باتَ واضحًا أنَّ “حزب الله” يُعاني من حالةِ إرباكٍ داخلي وضعفٍ في الأداء السياسي منذ المقتلة التي عصفت به في حرب أيلول (سبتمبر) 2024، فقد قلّصت الخسائر البشرية والعسكرية والمادية، وندرة خطوط الإمداد، وسقوط النظام السوري، والحرب السريعة بين إيران وإسرائيل، هامشَ المناورة لديه، وعطّلت سرديته الجامدة قدرته على إعادة التموضع في إقليم الرمال المتحرّكة. كما إنَّ الضغطَ الإسرائيلي والدولي الأقصى، المُمارَس عليه منذ نهاية الحرب، لم يترك امامه مجالًا إلّا لَرفعِ الراية البيضاء مهزومًا، وهو ما لا تستطيع قيادته تحمّله أو قبوله.

بري والدور الجديد

لم يَكُن برّي مُثقلًا بالأعباء نفسها، وهو صاحب الباع الطويل في إدارة الأزمات اللبنانية والعربية، استطاعَ أن يفرضَ نفسه كوَسيطٍ إلزامي في كلِّ تسويةٍ داخلية من فَرضِ عُرفِ الثلث “المُعَطِّل” أو “الضامن” على طاولة مجلس الوزراء، إلى التوقيع الرابع لوزير المالية، إلى إنجاز تسوية الدوحة بعد أحداث 7 أيار (مايو) 2008، إلى ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.

منذ الأسابيع الأولى للحرب، بدا أنَّ بري لا يكتفي بدورِ الوسيطِ التقليدي كحامٍ لغطاء الحزب السياسي، بل بدأ يتحرّك لفرضِ سقفٍ على خيارات الحزب، مستفيداً من شبكة تحالفاته داخل النظام السياسي اللبناني، الذي هو أحد صانعيه، ومن علاقاته العربية والدولية. وقد تمكّن بري تدريجًا من مراكمة الأوراق بيده، فهو اليوم يحتكر قناة التفاوض مع الأطراف الإقليمية باسم الطائفة الشيعية في لبنان، ما هَمّشَ جُزئيًا دور “حزب الله” المباشر المُكَبَّل بالعزلة الدولية، والتهديدات الأمنية، وعزوف إيران عن وضعه رسميًا على طاولة تفاوضها مع الأميركيين. كما أفرغ بري قدرة “حزب الله” على التصعيد عبر تسوياتٍ متتالية، كان أبرزها إخراج جلسة مجلس الوزراء الجمعة الماضي، التي سمحت بتمرير خطة الجيش لحصر السلاح بيد الدولة، وقبلها تمرير جلستَي الخامس والسابع من آب (أغسطس)الماضي رُغمَ كلِّ الضجيج الداخلي والحديث الإيراني من أكثر من شخصية وازنة في إيران عن الفشل الذي ينتظرها من دون أن يُترجَمَ على أرضِ الواقع بأيِّ شيء.

ولا شكَّ أنَّ بري قد لعبَ حتى الآن دورًا وازنًا في امتناع “حزب الله” كُلِّيًا عن الرد على الخروقات الإسرائيلية المتكررة لوقف إطلاق النار. فعندَ كلِّ غارة يُهمهِمُ البعضُ بالهتاف للأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم “منشان الله يا شيخ نعيم يَلّا”، كما هتفوا للسيد نصر الله يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لكن لا مجيب. ورُغمَ كلِّ الأخبار المتواترة والمُعلَنة على لسان الشيخ نعيم قاسم نفسه بأنَّ “المقاومة” تُعيدُ بناءَ قدراتها وتُرمِّمها تجهيزًا للجولة المقبلة ضد إسرائيل، لا يفلح نتنياهو في استفزاز ثبات الصواريخ “الجديدة” في أماكنها.

لا شك أنَّ إخراجَ خطة الجيش اللبناني إلى النور، رُغمَ كلِّ انتقاداتِ المُغالين، يُثبّتُ مرجعية الدولة مُمثَّلةً بمؤسّساتها العسكرية الرسمية كمُحتَكرٍ وحيدٍ للسلاح وقرار الحرب والسلم، ما يُشكّلُ نسفًا لسردية “المقاومة” ومرجعيتها العابرة للحدود، وهو ما يُفيدُ برّي في المدى الطويل داخل الطائفة، التي ستشعرُ مع مرور الأيام أنَّ الحامي الوحيد لها هو الدولة في غياب المدد المالي والعسكري من إيران.

ورُغمَ الصعوبات الكبرى التي تعترضُ طريقَ التنفيذ الطويل والشائك للخطة، إلّا أنها مثّلَت سابقةً أمنية وسياسية تعكسُ مدى قدرة بري على تعطيلِ أيِّ محاولةٍ من الحزب لاستعادةِ زمام المبادرة. والحال، فإنَّ أيَّ خروجٍ ل”حزب الله” عن توجُّهاتِ بري في المرحلة الراهنة، تبعًا لتكليفٍ شرعي من مرشد الثورة الإسلامية في إيران، علي خامنئي، أو تقديرات داخلية تكيتيكية، ستفتح باب مواجهة شيعية-شيعية، ليس من مصلحةِ أحدٍ بالتأكيد أن تتحوَّلَ إلى عسكرية، لكنها ستحرمُ الحزب من آخر حلفائه الداخليين ومن جُزءٍ ليس ببسيط من الاحتضان الشيعي غير المحازب، والذي بات يرى في بري صمّام الأمان للبنان.

قد يعتقدُ قادةُ الحزب أنَّ قرارهم لا يزال مستقلًّا إلّا أنَّ تراكُمَ الإنجازات لبري يأكل من رصيدهم في الداخل، ويُقلّصُ تدريجًا وببطء هذه المساحة. إنَّ استمرارَ حالة التخبُّط داخل الحزب اليوم، سواء على مستوى القيادة أو القاعدة الشعبية يضعُه في مكانٍ أقرب إلى موقع التابع لحركة “أمل” منه إلى الشريك الندي. فقد يتحوّلُ عمليًّا إلى أحد أفواج حركة “أمل” مع بقاء طابعه العقائدي كامتدادٍ لولاية الفقيه، لكن من دون أدواتٍ حقيقية على فَرضِ إرادته في الداخل اللبناني أو على الحدود.

السيطرةُ التدريجية للرئيس نبيه بري على قرارِ “حزب الله” بعد حرب أيلول (سبتمبر) 2024 ليست مجرّدَ تحوُّلٍ في ميزان القوى الشيعي، بل تعكُسُ تغيُّرًا أيضًا في طبيعة التوازن اللبناني الداخلي، حيث يعود النظام السياسي التقليدي ليمتصَّ فائضَ القوة الذي بناه الحزب لعقودٍ ليُعيد تموضع الشيعة كمكوِّنٍ مساوٍ للآخرين ضمن صيغة لا غالب ومغلوب الأبدية السرمدية في لبنان.

Exit mobile version