الطيور الطيور… أَجنحةُ الجمال (3 من 3)

يحمل ابنه في “مشوار”

هنري زغيب*

منذ فجر الفنون كانت الطبيعةُ مُلهمةَ المبْدعين، شعراء وكتابًا ورسامين ونحاتين ومصوِّرين فوتوغرافيين وموسيقيين وسواهم، شغَلَتْهُم تلك الـمُلهِمة بنقْلها من حيثُ هي إِلى حيثُ إِبداعهُم يستحضرها بالحلَّة الأَجمل. من تلك الروائع في الطبيعة: الطيورُ على مختلف أَصنافها وأَنواعها وأَماكنها وجمال أَشكالها الناطقة بزوغة أَلوان بهيجة رائعة أَخَّاذة.

لهذه الطيور تَكَرَّسَ المصوِّر الفوتوغرافي يواكيم سبيمر Joaquin Spamer، فحمَل عدسات كاميراه، ودار بها على عشرات الأَماكن، وعلى مساحات واسعة من صدر الفضاء، يلتقطُ أَجملَ ما يُمكِن أَن تراه العين من تلك الطيور الحاملةِ في أَجنحتها أَصداءَ الجمال.

في الجُزءَين  الأَولَيْن من هذا المقال، عرضتُ عدَدًا من صُوَر تلك الطيور. هنا في هذا الجزء الأَخير نبذة ثالثة.

يلاحق “لقمته” في الفضاء

التصوير عن قُرب

اللافت في صوَر سبيمر أَنه يقترب من الطير كثيرًا، وينتظره كثيرًا، أَو “يسحبه” عن قُرب بعدسة مكبِّرة، تقرِّبه منه، حتى تكاد تظهر تفاصيل كل ريشة من الطير، وبؤْبُؤَ عينيه، وطبيعة نظرته، بوضوح تام يجعل الصورة قطعةً فنية كاملة التفاصيل. هكذا يتأَمّل الرائي الصورةَ كأَن الطير بين كفَّيْه، فيتفحَّص جمال تفاصيله وتعابيره وشخصيته، لا كأَنه طائرٌ يحلِّق عن قُربٍ في الفضاء.

بذلك يمدُّ سبيمر بين الإِنسان والطيور جسرًا تواصُليًّا من الإِعجاب والتقدير والتعاطف مع تلك الحياة البرية التي يجهلها، أَو لم يُتَحْ له أَن يعرفها كي يقدِّرَها، كأَنْ يكتشف مثلًا قسوة نظرة البُوم، أَو جمال منقار طائر، أَو بهجة الأَلوان لدى الطائر الرفراف، فلا تعود الطيور غريبةً عن بُعد، أَو مجرَّد كائنات تُثير الإِعجاب، بل تُصبح رموزًا حية لجمال الطبيعة حولنا.

جمالٌ هادئ على طرف غُصْن

فن “تأْليف” الصورة

يتميَّز سبيمر بمهارة التقنية في لقطاته التي تتَّخذ منحى فهم الفن الفوتوغرافي تصويرًا وتركيبًا وتأْطيرًا، وبراعة عينٍ ثاقبة في التقاط اللحظة الحاسمة، تركيزًا على الجمال في أَلوان الطيور وفي كل مشهد من الطبيعة البرية. لذا لا يستخدم الأَضواء الكهربائية لعدسته، بل يكتفي بالنُور الطبيعي من زوايا معيَّنة تخدُم شكل الطير أَو إِطار الصورة الطبيعي، كي يلفت انتباه الرائين ويحوِّل اللحظاتِ العاديةَ بهجةَ بصرٍ في صورة فنية، تتمتع ببراعة التركيب بين النور والظل، وإِبراز الأَلوان الممتعة، ما يجعل الكلَّ تناغمًا مريحًا خلَّاقًا إِبداعيًّا. هكذا تخرج العصافير من عدسته رموزًا للأَناقة النادرة في الطبيعة، وللدهشة المباغتة، والحيوية الساحرة.

الأَبيض المتهَيِّئُ للطيران

محامي الطبيعة

ليس سبيمر مجرَّدَ ملهِمٍ موهوبٍ في حقل الفوتوغرافيا، بل هو محامي الطبيعة وحاميها والمدافع عن الحفاظ على جمالاتها وكنوزها. لذا لا يكفي تقديرُ عمله جماليًّا، بل تقديرُ توقه إِلى التوعية على تحديات تواجه الطيور في هذا العالم المتحوِّل.

فإِلى اعتبار جمال الطيور وهشاشة معظم أَجسامها وأَصنافها، تدعو صوَرُهُ لضرورة التنبُّه إِلى البيئة، وتجنُّب الأَخطار التي تحيط بهذه الكائنات الصغيرة الجميلة. مع تلك الصوَر الأَخَّاذة يتحفَّز الرائي للحفاظ والمبادرة، والحرص على تقدير جمالات الطبيعة، وكنوزها النادرة الثمينة. وكاميرا سبيمر كأَنها قلبٌ ينبض حبًّا حيال تلك الكنوز، فتُمسي الكاميرا محامية دفاع ووسيلة توعية.

شهادة ووصية

فنُّ سبيمر شهادةٌ ووصيةٌ: شهادةٌ على كيفية تحويل الفن إِلى مُلْهِمٍ ومثقِّفٍ، ووصيةُ أَن تصبح العدسة طريقًا لنا إِلى عالِم الطيور الساحر، فنقترب منه، ونتنعَّم بقوّته وعذوبته وهشاشته معًا. من هنا منبع نظريته الخاصة: “إِن كنت فعلًا تحب الطبيعة، ستجدُ كلَّ ما فيها جميلًا”. وهذه النظرية يؤكِّدها في كل صورة تدعونا إِلى تأَمُّل سحر الطبيعة والانكفاء عن أَذيِّتها.

مع سبيمر، نتعلَّم أَن ننسحر بالجمال ونقدِّرَ مصادره، ونَنفثذُ منها إِلى تعايش هذه الكائنات المجنَّحة. فبين طيرانها أَو هدوئها ساكنة في أَماكنها، تبقى صوَره من جيل إلى جيل، حافزَ توعيةٍ تُخاطب القلوب والعيون، وذاكرةً نابضةً لجميع الأَجيال.

Exit mobile version