الدكتور طوني وهبه*
وقّعَ رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، بوساطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في الثامن من آب (أغسطس) الجاري في البيت الأبيض، اتفاقَ سلامٍ بالأحرف الأولى يضعُ حدًّا لأطولِ نزاعٍ عرفته منطقة القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991.
وينصُّ الاتفاق، إلى جانبِ وقفٍ شاملٍ ودائمٍ للأعمال العدائية والقتالية واستعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، على بنودٍ جيوسياسية تعزّزُ وتُرَسّخُ النفوذَ الأميركي في المنطقة. وأبرزُ هذه البنود إنشاءُ “ممرِّ زنغزور” الذي أُطلِقَ عليه اسم “طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي” (بضغطٍ من الرئيس الأميركي). هذا الممرُّ البرّي يربطُ أذربيجان بإقليم نخجوان عبر الأراضي الأرمينية، وستتولّى، بموجب هذا الاتفاق، شركاتٌ أميركية حصريًا تنفيذه وتشغيله لمدة 99 عامًا، على أن يتضمّنَ طريقًا سريعًا وخطًا للسكك الحديدية. (إذ يقتصرُ الوصول حاليًا من غربي أذربيجان إلى نخجوان على النقل الجوي أو المرور عبر إيران).
كما نصَّ الاتفاقُ على تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة، خصوصًا في مجالاتِ التدريب والدفاع، إلى جانبِ تشكيل لجنةٍ ثُلاثية أميركيةـأذرية ـأرمينية تتولّى الإشرافَ على تطبيقِ بنوده وتسويةِ أيِّ خلافاتٍ قد تنشأ.
ما هو ممرُّ زنغزور وما أهمّيته الاستراتيجية؟
“ممرُّ زنغزور” البري هو أهم بندٍ في الاتفاق ويقعُ في منطقة سيونيك جنوب أرمينيا، ويمتدُّ حوالي 40 كيلومترًا، ويربطُ جمهورية نخجوان الأذرية المُتمتّعة بالحُكمِ الذاتي بأذربيجان، مُوفِّرًا طريقًا برّيًا مباشرًا بين أجزاء أذربيجان المعزولة، ما يضمن أمرين: سيادة أرمينيا “الشكلية” على الممر، وحق أذربيجان في حرّية استخدامه.
ويعودُ أصلُ الممرّ إلى الحقبة السوفياتية، حين رسمت موسكو الحدود الداخلية بين جمهورياتها، ما أدّى إلى فصل نخجوان عن بقية أذربيجان. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، أُغلِقَت الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، وبات الممر بدوره مُغلقًا حتى حرب ناغورني كاراباخ التي وقعت في العام 2020، والتي أحدثت تغييراتٍ في السيطرة على المناطق الحدودية.
يتمتّعُ “ممر زنغزور” بأهمّيةٍ اقتصادية وجيوسياسية كبيرة بالنسبة إلى دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. ووفقًا لحسابات البنك الدولي، فإنَّ فتحَ الممر سيزيد حجم التجارة العالمية السنوي من حيث القيمة بمقدارٍ يتراوح بين 50 مليارًا و100 مليار دولار بحلول العام 2027. كما ذكرت وكالة “بلومبيرغ” أنَّ الممرَّ سيُقلّصُ زمن مرور البضائع عبر أوراسيا بمقدارٍ يتراوح بين 12 و15 ساعة.
وأظهرت تقديراتُ “مركز سياسة بحر قزوين وفورات” أنَّ تكاليف البنية التحتية تتراوح بين 3 و5 مليارات دولار خلال فترةٍ تمتدُّ ما بين 5 و10 سنوات، فيما توقعت “أكسفورد إيكونوميكس” إنخفاضًا في تكاليف الخدمات اللوجيستية بمقدار 20 إلى 30 مليار دولار سنويًا بالنسبة إلى أذربيجان.
ووفقًا لتقديراتِ خبراءٍ اقتصاديين أذربيجانيين، فإنَّ الناتجَ المحلي الإجمالي غير النفطي سينمو بنسبة إثنين في المئة سنويًا، وسيُوفّرُ إلغاء الدعم عن الرحلات الجوية بين باكو ونخجوان نحو 10 ملايين دولار سنويًا.
لقد أحدث هذا الاتفاق تحوُّلًا جيوسياسيًا عميقًا في آسيا الوسطى، إذ رسمَ خارطة طريق لتمدُّدِ النفوذ الأميركي في القوقاز عبر “ممر زنغزور” الذي تحوّلَ إلى ما باتَ يُعرَفُ بـ “ممرِّ ترامب”، ليكون جسرًا استراتيجيًا للولايات المتحدة نحو آسيا الوسطى. وقد شَكّلَ ذلك ضربةً موجعة لموسكو، إذ إنَّ الممرَّ يقطع شريان الاتصال بين روسيا وإيران ويُضعِفُ نفوذهما في المنطقة، فيما حلّت الشركات الأميركية محل الدور الروسي التقليدي. أما إيران فتُعَدُّ من أبرز الخاسرين، إلى جانب ما يُشكّله المشروع من إرباكٍ لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
أما تركيا، فقد اعتبرت إنشاءَ الممرّ انتصارًا كبيرًا، إذ يفتح الطريق أمامها نحو آسيا الوسطى ويُعزّزُ طموحاتها التوسُّعية في إطار ما يُعرف بـ “ممر طوران”، الذي يُتيحُ لها التواصل ليس فقط مع أذربيجان بل أيضًا مع باقي الدول الناطقة بالتركية في المنطقة. كما يمنحها منفذًا برّيًا مباشرًا إلى بحر قزوين، ما يُعزّزُ موقعها كمركز عبور محوري بين أوروبا وآسيا. في المقابل، يُشكّلُ الممر تهديدًا لكلٍّ من أرمينيا وإيران اللتين تخشيان فقدان السيطرة على مسارات النقل وتغيّر موازين القوى الجيوسياسية.
في السياق ذاته، عمّقت باكو تعاونها مع أنقرة، وزادت صادراتها من الغاز إلى أوروبا لتصبح بديلًا مهمًا من الغاز الروسي. كما يُتَوَقّعُ أن يتدفّقَ النفط والغاز من أذربيجان وبحر قزوين نحو أوروبا وإسرائيل، لتتحوّل الأخيرة إلى مركز طاقة إقليمي يربط القوقاز والخليج وشرق المتوسط.
وتعمل الولايات المتحدة على ترسيخ الشراكة الأذربيجانيةـالإسرائيلية وتعزيز التحالف الثلاثي التركي ـالإسرائيلي ـالأذربيجاني، في إطارِ مشروعها الإقليمي الأوسع، والذي يستهدف في نهاية المطاف تطويق إيران.
طهران المؤيّدة لمقترح موسكو البديل الذي يقضي بإنشاء “ممر أرس” عبر الأراضي الإيرانية، عارضت بشدة إنشاء “ممر زنغزور”، الذي يُشكّلُ تهديدًا لمصالحها الوطنية ونفوذها الإقليمي، وتخشى من أن يؤدّي إلى قطع وصولها البرّي إلى أرمينيا، مما يزيد من عزلتها عن كامل منطقة جنوب القوقاز، فضلًا عن فقدانها دورها بوصفها ممرَّ عبورٍ استراتيجيًا في المنطقة. كما تخشى أن يُسهِمَ تعزيزُ نفوذِ تركيا وأذربيجان على حدودها الشمالية في إذكاءِ النزعة الإنفصالية في أذربيجان الجنوبية (الإيرانية).
والجديرُ ذكره أنَّ منطقة القوقاز تختزنُ صراعاتٍ عرقية وجغرافية ودينية كانت لسنواتٍ قليلة خلت نائمة تحت عباءة الإتحاد السوفياتي، ُتنذر التحوّلات الجيوسياسية الأخيرة بتفجيرها على امتداد آسيا الوسطى ومحيطها.
- الدكتور طوني وهبه هو باحث في السياسات العامة وأستاذ الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) في الجامعة اللبنانية.