البروفِسور بيار الخوري*
في كنيسةِ سيّدة رقاد العذراء في بكفيا، كانت هناكَ لحظةٌ لبنانية نادرة. لحظةٌ تجاوزت حدودَ الفقد، لتُلامِس عُمقَ الوجدان الجمعي، وتكشُفُ عن طبقاتٍ دفينة من الاضطرابِ الوطني، والانكسارِ، والحاجةِ إلى رمزٍ لا ينهار.
وسطَ الكنيسة، جلست فيروز. لم تَنطُق، لم تَدمَع، لكنها قالت كلَّ شيءٍ بصَمتِها. جلست كما يجلسُ أحدٌ لا أجِدُ وصفًا بشريًّا له، لا كأُمٍّ ثكلى فحسب، بل كرمزٍ أكبر من الفقد، وأعمق من الحزن. بدت كمريم العذراء متخيَّلة، بهيئةٍ لبنانيةٍ حزينةٍ ووقورة، تُراقِبُ بدون أن تنكسِر، وتحتمِلُ بدون أن تشتكي.
حين دَخَلَت الكنيسة، كانت لحظة وقارٍ حقيقي. ارتفعت الرؤوس، خفّت الأصوات، كأن شيئًا مقدّسًا مرَّ من الباب الحجري… لا سيدةً من عالم الفنّ في عقدها التاسع، بل ظلٌّ ثقيلٌ من الذاكرة الوطنية. بدا المشهَدُ أشبه بطقسٍ روحيّ: جمهورٌ يقفُ أمام أمّه الكبرى، لا ليُعزّيها فحسب، بل ليحتمي بها من فوضى وطنٍ لا يُشبهُ شيئًا.
هذا التداخُل العفوي بين رمزَين ، فيروز ومريم العذراء، ليس إسقاطًا نظريًا، بل فعلًا وجدانيًا نابعًا من حاجةٍ جماعيةٍ لشيءٍ يبقى. مريم، كرمزٍ دينيّ أموميّ مشترك بين أكبر ديانتَين في لبنان، لا تنتمي إلى عقيدةٍ واحدة، بل إلى كلِّ مَن فَقَدَ، وتشَبَّثَ بالرجاء. وفيروز، بجلستها الساكنة، بدت تجسيدًا لهذه الحاجة: ثباتٌ وسط الانهيار، وجلالٌ بلا ادّعاء، وحزنٌ لا يُغرق، بل يواسي.
أما زياد، فلم يكُن مجرّدَ ابنِ فنانة عظيمة، ولا فقط فنانًا عظيمًا، بل ابن وطنٍ صلبه الانتماء. عاشَ مشروعًا فنيًا يسبح عكس التيار، كره الطائفية ولم يُفلت منها، هزأ بالسلطة وبقي أسير محيطها، سخر من كلِّ شيء لأنه لم يجد في الواقع ما يستحقُّ الجدّ. حتى موته، جاء على مقاس صمته الطويل: لا ضجيج، ولا تحضير، كأنه يقول لنا كما في مسرحياته: “ما بدّي شي، بس ما حدا يقلّي شو بدّي.”
في وداعه، جلست فيروز كأنها تُسلّم الأمانة الأخيرة لعصر الصدق والانتماء. عصرُ الفنّ النقي، حيث لا شيءَ يُؤدّى مجاملة، ولا موقفَ يُشترى. بدا المشهدُ وكأن الأمَّ لا تبكي ابنًا، بل تُودّعُ جيلًا بكامله، وتغلقُ صفحةً طويلة من تاريخٍ عائليّ وفنيّ وإنسانيّ، طُبِعَت في ذاكرة اللبنانيين.
لكن الأهمَّ من كلِّ ذلك، إنَّ ما جرى في الكنيسة كان تعبيرًا نفسيًا عميقًا. اللبناني، في لحظة الانهيار، لم يركض نحو السياسة أو الأمن أو الاقتصاد، بعدما صُدّت كلّ أبوابها بوجهه، بل ركضَ نحو صورة، صوت، وظلّ أم… ركض نحو شيءٍ لا يخونه. وقد وجد هذا كلّه في فيروز. لا لأنها ايقونةٌ فحسب، بل لأنها صمدت. لا لأنها أعلنت شيئًا، بل لأنها مثّلت حضورًا قادرًا على امتصاصِ الألم من دون أن تنطق به.
الصمتُ الذي لفّ الكنيسة، لم يكن عجزًا، بل نوعٌ من البلاغة. في علم النفس، يُعَدُّ الصمت من أعمق أدوات المواجهة، ومن أكثرها صدقًا. فيروز، في لحظةٍ كهذه، قالت ما لم تقله المراسم والخُطب: أنَّ الصدقَ لا يحتاجُ إلى صوت، وأنَّ الحزنَ الحقيقي لا يتوسّل الدمعة.
لقد بدت الجنازة، في لحظاتها العميقة، وكأنها طقسُ هوية. لم يكن الناس هناك فقط لتوديع زياد، بل للتمسّك بصورةٍ عن لبنان لم تُولَد بعد، لكنها لا تزال تعيش في الخيال المُمكِن. صورةُ وطنٍ تحرسه أمٌّ لا تُساوِم، وغنّي له ابن لا يكذب.
اللبناني، في وداع زياد، كان يبحث عن يقين. عن مشهدٍ يُرمّمُ ما تكسّرَ في الداخل. عن محاكاةٍ لمريمٍ في غير التماثيل والصور والأيقونات، بل مريم تمشي أمامه، تجلس بينه، وتصمُدُ معه. هكذا كانت فيروز: لا تُغني، لا ترفع صوتها، لكنها تجلّت كآخر رمزٍ لم يَنكسِر. رمزٌ لا يُصفّق له، بل يُصلّى معه، في حضرة غيابٍ صاخب، وسكوتٍ يقول أكثر من كلِّ الكلمات.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com